الحكاية السادسة عشرة: حسناء

على جبل مرتفع بين السحب الثلجية، بين السماء الزرقاء، أُقيمَت غرفة مغلقة. تفوح منها رائحة العنبر والورد من بعيد. تومض ألسنة اللهب الزرقاء بهدوء في المباخر الذهبية، فتنشر رائحة عبِقة. تتصاعد الرائحة وصولًا إلى القبة الذهبية بضباب أزرق. وفي كل مكان؛ على الأرض، على الجدران، على السقف؛ ورود، ورود، ورود … غابة كاملة من الورود، بحر كامل من الورود.

تعيش حسناء في حجرة وردية، وهي فتاة أجمل من الورود، أجمل من قصر مهيب، أجمل من العالم كله. خمس أخوات خادمات ذوات شعر ذهبي يحرسن كل خطوة من خطوات ملكتهن. ينظرن إلى عينَيها دون أن يطرفن، ينظرن ويغنين فقط.

تستمع حسناء طوال اليوم إلى غناء الخادمات، وتُعجب بكيفية تضفير أكاليل الزهور العطرة، والمشي على ألواح الرخام في قصرها.

لكن حسناء تشعر بالملل …

مَلَّت حسناء من العنبر والورود وغناء الصديقات ذوات الشعر الذهبي. تريد أن تخترق الأسوار المقدسة لتكتشف ما يحدث خلف قصرها في الوادي. فعلى كل حال، تغني الخادمات ذوات الشعر الذهبي أن هناك أناسًا في العالم، وهناك طيورًا وحيوانات، وهي لا تعرف من هم، وماذا، وكيف هم …

فقط لو تستطيع أن تنظر بعين واحدة، ولو للحظة ترفرف خارج الغرفة المغلقة دون حاشية مزعجة لتنظر إلى العالم! والخادمات ذوات الشعر الذهبي، كما لو أنهن عن قصد، يغنين عن الشمس الساطعة، وعن العالم العجيب، وعن أعياد الناس وعن الأشخاص المرحين الذين يحلمون برؤيتها ليلَ نهار.

في إحدى المرات فكرت حسناء وأعربت عن أفكارها لصديقاتها: إذا كان هؤلاء المساكين يحلمون برؤيتي فلمَ لا أظهر لهم؟

تأوهوا وتأوهوا وانسكبت الدموع من أعينهن: «ماذا! ماذا! ماذا تقصدين أيتها الملكة؟ عودي إلى رشدك! كيف تظهرين للناس؟ إنهم يغنون ويمدحونك فقط لأنهم لا يرونك ويخمنون فقط وجودك. وعلى الرغم من كل الفضائل التي تأسرين بها العالم، الناس يعتبرونك في خيالهم أكثر جمالًا وقوة مما أنتِ عليه حقًّا. وبمجرد أن تُظهري لهم نفسك، وتظهري أمام أعينهم، سيتوقفون عن عبادتك، وسيبدءون في البحث عن أوجه القصور المختلفة فيك، ولن يظنوا أنكِ ساحرة وفاتنة كما كان من قبل، وسوف يتوقف إعجابهم بكِ. هؤلاء هم الناس! إنهم يحبون كل شيء بعيد، غير معروف، وما إن يقترب هذا المجهول البعيد منهم، فإنهم يجحدون ولا يريدون معرفته بشكل كافٍ.»

ضحكت حسناء. كيف لا يُعجبون بها؟ كيف يمكن للمرء أن يتجاهل جمال الكون؟ كيف يمكن للمرء ألا يُعجب بها وهي المالك الأول والوحيد لكل السحر في العالم؟

نظرت الملكة إلى المرآة وعكست المرآة وجهها، أبيض كالثلج، عكست خدودًا قرمزية مثل بتلات وردية، وعينين زرقاوين مثل نجمتين مُشعَّتين، وشعرًا ذهبيًّا مثل حزمة من ضوء الشمس، وشفاهًا أرجوانية مثل زهرة الخشخاش … تغني الخادمات عن جمال الملكة، وهكذا رأت نفسها في انعكاس المرآة.

وفجأة نشأت رغبة شديدة في رأس الملكة الجميلة؛ وهي أن تذهب إلى الناس وتخبرهم أن ينظروا إليها ليطالعوا جمالها. وقالت في نفسها: أنا أجمل من الدنيا كلها. أنا الجمال نفسه. أحبني. واعترف بأنني أفضل عن قرب. أنا حسناء ولا أحمل هذا الاسم من فراغ.

في ذلك المساء كانت الملكة حزينة وتفكر. مستلقية على سريرها قبل النوم، وحولها الورود ورائحة العنبر، أدارت حسناء الخاتم الثمين في يديها لفترة طويلة. كان لهذا الخاتم قُوًى خارقة. أعطته لها الساحرة تروث عند الولادة. يمكنها أن تضع الخاتم الثمين على شفتيها، وستنهار كل الحواجز أمام حسناء، ولكن ليس قبل العام السابع عشر من حياة الملكة حسناء … كان اليوم عيد ميلاد الملكة، وخاتم الحقيقة أخيرًا سيعمل في يدها. هذا ما تذكرته حسناء عندما ذهبت إلى الفراش. الليلة يجب أن يقوم خاتم الحقيقة بخدمتها. وتظاهرت حسناء بالنوم لخداع خادماتها ذوات الشعر الذهبي.

همست إحداهن للأخرى عندما رأين عينَي الملكة مغلقتين: «لقد نامت حسناء».

وذهبن إلى أَسرَّتهن.

وهذا ما كانت تريده حسناء.

قفزت ونظرت حولها ووضعت خاتم الحقيقة على شفتَيها.

وفي نفس اللحظة، انفصل الجدار الثقيل للغرفة المقدسة، مشكلًا ممرًّا ضيقًا يؤدي مباشرة إلى الغابة. تجولت في غابة، ورأت فانوسًا غريبًا مُعلقًا بين شجرتَي صنوبر، لكن ما يربطه غير مرئي. ضوء كالحليب ينساب على الطريق، لكن لا ينيره بالكامل. هناك ضوء لكن لا معنى له. يكاد لا يوجد شيء مرئي على طول الطريق.

غضبت حسناء حتى إنها ضربت الأرض بقدَميها: «ما هذا الفانوس القبيح! إنك تلمع بشدة أكثر من حسناء نفسها!»

ضحك الفانوس: «هاهاهاها! أنا لست فانوسًا، أنا القمر. تلك مشكلتك أيتها الملكة حسناء، إذا لم تستطيعي التألق أكثر مني، أشعَّتك قد تلاشت وخفتت أمامي، يجب ألا تقابلي أخي الأكبر الشمس لأنه مشرق أكثر مني.»

شعرت حسناء بالإساءة.

سارعت مبتعدة عن سخرية القمر إلى أعماق الغابة وصرخت: «جاهل!»

مشت حسناء أكثر.

مشت ورأت دُبًّا بُنيًّا ضخمًا يجلس على عتبة بيته ويزأر بأقوى ما في رئتَيه. لم يكن لدى حسناء المحجوزة في غرفة طوال حياتها فكرة عن الحيوانات، ولم تستطع التفريق بين الدُّب والإنسان.

قالت حسناء وهي تقترب من الدب وتضع يدها على رأسه: «ما الذي يحزنك أيها الرجل المسكين؟»

ألقى الدب نظرة جانبية على يد حسناء وزأر مرة أخرى، لكن بهدوء.

قال الدب: «أنا لست رجلًا، بل وحش، وأنا جائع. لم أجد حيوانًا آكله هذه الليلة. لكنكِ هنا أخيرًا. وبهذا أتوقع عشاءً رائعًا.»

قالت حسناء بخجل وكأنها تعتذر: «آه، أنا لا أعرف كيف أطبخ للأسف، ومن غير المحتمل أن أتمكن من طهي العشاء لك.»

ضحك الدب بصوت مرتفع وقهقه: «لستِ بحاجة لطهي الطعام، فأنا لست رجلًا، بل دب. العشاء مُعَد الآن بمجرد ظهورك؛ سآكلك على العشاء، وهذا سيكفيني لمدة أسبوع على الأقل.»

حاولت حسناء أن تجادل: «اسمع! ألا تعرف من أنا؟ أنا حسناء!»

قال الدب متجهمًا: «أنا لا أعرف من تكونين. لا يهمني من أنتِ، ما دمت أستطيع إشباع جوعي.»

وكان الدب يستعد بالفعل للانقضاض على حسناء. لكنها صرخت وابتعدت.

ولحسن الحظ، كان لديها ساقان سريعان، ويمكنها أن تتفوق في الركض على الدب.

قالت لنفسها برعب: «الناس! الناس! الناس! سوف يقدرونني ويفهمونني عكس الوحش البري والقمر الغبي. سأذهب إلى الناس وأكون ملكتهم.»

سارت أسرع وأسرع إلى الأمام، وقلَّ عدد الأشجار. مرَّ الليل. اختفى القمر المائل إلى الزُّرقة في مكان ما وظهرت بدلًا منه كُرة ضخمة لامعة ومشرقة. الآن عرفت حسناء أي نوع من الكُرات هي. سمعت الكثير عن الشمس من أغاني صديقاتها الخادمات. كانت تعلم أن الشمس هي منافستها في الجمال، وقد أدركت السبب بسرعة. لكن الشمس لم تتكرَّم عليها حتى بإجابة. كانت تلمع فقط لدرجة أن عينَي الملكة المسكينة بدأت تؤلمها. أسرعت للاحتماء تحت مظلة كوخ بُني وسط الحقل.

خرج رجل من الكوخ هو وزوجته وطفلاه، وتعجبوا جميعًا من الجميلة الواقفة أمامهم وسألوها: «من أنتِ؟»

وقفت بلا حراك مثل تمثال وقالت الملكة بفخر: «أنا حسناء، جئت إليكم من الوادي كي تروني وتحبوني.»

قال الرجل صاحب الكوخ البائس مخاطبًا حسناء بمرح: «مرحبًا، ربما أنتِ العاملة الجديدة التي أرسلها لنا الأب بيتر من قرية مجاورة. لقد أتيتِ في وقت مناسب جدًّا، لدينا كثير من العمل الآن، ونحن بحاجة إلى عاملة مجتهدة وقوية وشابة. ابقَي معنا وابدئي العمل فورًا. اذهبي إلى الغابة وجُزِّي العُشب من أجل الأبقار. زوجتي لا تمتلك الوقت لذلك فهي ذاهبة لحصاد الجاودار.»

ما إن سمعت حسناء كلمات الرجل الأخيرة حتى انفجرت غضبًا وضربت الأرض بقدمَيها، وسرعان ما بكت وهي تقول: «ابتعد عني! أوَلا تعلم أن حسناء لم تُخلق للعمل والتعب، بل خُلقَت لكم أيها الأغبياء البائسون لتُعجَبوا بي وتحبوني؟»

وابتعدت عن كوخ الرجل الذي نظر إليها وقد اتسعت عيناه من الدهشة.

قال الرجل لزوجته: «إنها فتاة رائعة. نحن نحتاجها حقًّا. لكنها لا تريد العمل ولا تستطيع فعل أي شيء! من الجيد أنها ابتعدت بنفسها. أنا لا أحب الكُسالى.»

لم تسمع حسناء هذه الكلمات. كانت قد ابتعدت بالفعل. نزلت الآن إلى سفح الجبل، إلى وادٍ صاخب في وسطه مباني المدينة الشاهقة.

كانت مدينة غنية، على ما يبدو أنها العاصمة.

قالت وهي تقترب من بوابات المدينة: «يعيش الأغنياء هناك. والأثرياء سيكونون قادرين على تقديري أفضل من الفقراء الذين يعانون من الاكتئاب الشديد بسبب الهموم والاحتياجات ولا يهتمون بحسناء. سأذهب إلى الأغنياء.»

ودخلت عبر البوابة.

في ساحة البلدة، يوجد منزل ضخم مضاء بآلاف الأضواء. اجتمعت هنا جميع العائلات النبيلة في المدينة لقضاء العطلة. ولكن نظرًا لأنه دائمًا ما يكون مملًّا في التجمعات الصاخبة، فقد شعر الضيوف بالملل هنا أيضًا.

رقصوا على مضض. تحدثوا ببطء. ومن ثَم كان الجميع سعداء للغاية عندما لاحظوا ظهور حسناء. لم يكن عليها أن تُعرف نفسها. عرفها الجميع على الفور. سمع الجميع عنها وأعجبوا بها لفترة طويلة، منذ بداية وجود العالم. وبصرخات فرحة صاخبة صحِبوها إلى أفضل مكان، وأحاطوا بها وبدءوا في الانحناء لها مثل الملكة.

أُعجب بها الجميع — رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا — جميعهم مدحوا حسناء. انتصرت حسناء.

فكرت: «كان من الممكن أن أفعل هذا منذ وقت طويل! كيف لم يخطر ببالي من قبلُ أن أهرب من غرفتي المغلقة إلى هؤلاء الأشخاص الأعزَّاء والممتنين.»

لكن مرَّت ساعة ثم ثانية، ثم ثالثة. كل شيء ممل في العالم. حتى حسناء. سئم الناس من تأملها، بلا حراك، بِرَتابة، كما لو كانت مجمَّدة في وضعها الرائع، مثل تمثال رخامي على العرش. وهكذا في البداية بخجل، ثم بدت أصوات أكثر إصرارًا وجرأة: «غَني لنا شيئًا يا حسناء! أنتِ جميلة جدًّا لدرجة أن كل ما تفعلينه يجب أن يكون جميلًا مثلكِ.»

«أو اعزفي! أصابعك رفيعة وطويلة مصنوعة للأوتار خصوصًا.»

«أو احكي لنا قصةً خرافية رائعة. لا بد أنكِ تملكين عقلًا شاعرًا تحت شَعرك الذهبي المتموج! لا بد أنكِ تؤلِّفين قصصًا خيالية وتنظمين القصائد.»

«لا، لا، بل ارسمي على القماش، ارسمي نفسك سوف تكون صورة رائعة. لا بد أنكِ تجيدين الرسم بالفرشاة.»

«الأفضل أن تنزلي عن عرشك وترقصي لنا. أنتِ تعرفين بالتأكيد كيف ترقصين بأسلوب ساحر.»

لكن حسناء لم تتحرك. لم يكن بإمكانها الغناء أو العزف أو تأليف القصص الخيالية أو نَظْم القصائد أو رسم الصور أو حتى الرقص. لم تستطع فعل أي شيء.

شعرت بالمرارة والخجل لأنها كانت متكبرة جدًّا. وكلما بدت طلبات من حولها أكثر إصرارًا، أصبح وجهها الجميل أكثر شُحوبًا.

صاح أحدهم بجرأة: «ما هذا الجمال الذي لا يعرف كيف يتجلَّى في أي شيء!»

ووسط الضوضاء، ارتفعت أصوات أخرى: «لسنا بحاجة إلى مثل هذا الجمال!»

نزلت حسناء من العرش شاحبةً مثل الموتى، وغادرت القاعة.

وعلى عتبة القصر خلعت الخاتم الثمين من إصبعها ووضعته على شَفتيها، وتمنَّت بصوت مرتفع أن تجد نفسها مرة أخرى في غرفتها المغلقة.

وفي لحظة واحدة، نُقلت حسناء إلى هناك على أجنحة غير مرئية.

قابلتها الخادمات ذوات الشعر الذهبي والساحرة حقيقة نفسها على عتبة مسكنها.

جثت حسناء على ركبتَيها أمام الساحرة الطيبة وصرخت وهي تبكي: «خذي جمالي وامنحيني هدية أخرى لجذب الناس إليَّ. اجعليني مهمة ومفيدة، وامنحيني القدرة على العمل وجذب الناس بالمعرفة والقدرات. اجعليني مفيدة للعالم كله. أصبحَت مقتنعة أن الجمال وحده لا يكفي لكسب عاطفة الناس لفترة طويلة مثل فضائل أخرى، امنحيني أي موهبة.»

ابتسمت الساحرة الطيبة، ولوحت بعصًا سحرية. وفي لحظة، وجدت حسناء الخادمات المحيطات في أيدي كلٍّ منهن قلم أو فرشاة، أو قيثارة، أو ورقة موسيقية، أو إكليل من الزهور يحتاج إلى تهذيب. وتدفقت أصوات عجيبة حول حسناء. قامت خادماتها بالغناء والرقص والعزف. تكوَّنت أمامها أشياء رائعة، بعضها مكتوب في كتاب بقلم، والبعض الآخر مرسوم على قماش على شكل صورة. كل واحدة من الخادمات صارت تمتلك الآن نوعًا من الفن.

همست حسناء بيأس من خلال دموع الحسد: «ماذا عني؟ ماذا عني؟ ماذا تركتِ لي؟ لقد أعطيتِ كل المواهب لخادماتي.»

ردت الجنية: «أترك لكِ أعظم شيء، القدرة على التأثير في خادماتك وإلهامهن. هذا كل ما يمكنني أن أعطيه لكِ. أنتِ حسناء. أنتِ الجَمَال. أنتِ قوية وعظيمة، وأنتِ وحدك من يجب أن يلهم محبي الفن. من دونكِ هم لا شيء … يجب أن تقوديهم أنت. سوف تمنحينهم الأفكار. سأفكك جدران غرفتك، لنترك الناس يدخلون هنا متعبين، منهكين من الحياة والنضال، وأنتِ بفنونك، ستمنحينهم لحظاتٍ سعيدة من الفرح والنسيان.»

وبعد قول هذا اختفت الساحرة دون أن تترك أثرًا. وبقيت حسناء وخادماتها ذوات الشعر الذهبي في الحجرة. وفي لحظة واحدة ازدحمت الغرفة بأصوات الغناء والموسيقى. وصار الناس يذهبون إلى هذه الغرفة في حشود سعيدة ومبتهجة ومتأثرة، مباركةً لحسناء، وفي النهاية علمت حسناء كيف تعطيهم مثل هذه السعادة … لم يعودوا يطلبون منها هي نفسها أن تغني وتعزف وتؤلف الشعر وترقص. كانوا يعلمون أن حسناء هي الملكة، وأن خادماتها يعزفن ويرقصن حسب أوامرها، حسب إلهامها، حسب تعليماتها. أما هي فهي نفسها تتحكم في كل خطوة تخطوها خادماتها بطريقة غير مرئية.

وهكذا انتصرت حسناء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤