الحكاية الثالثة: الملك في الصورة الملونة
لقد كان رائعًا. رائعًا جدًّا لدرجة أن الملوك الحقيقيين الأحياء سيحسدونه، بلا شك، لمظهره الأنيق. لديه لحية أنيقة بيضاء رمادية، وشعر رمادي مجعَّد، وعينان سوداوان واسعتان. وعلى رأسه تاج ذهبي. مظهره مظهر الملوك بشكل عام. لم يدخر الفنان أي ألوان لطلاء ردائه الأرجواني والياقة الضخمة من فرو السمور الغالي. نعم لقد كان جميلًا بشكل مثير للدهشة.
لم يكن ملكًا حيًّا، بل كان ملكًا من لوحة مرسومة. ملك أنيق جدًّا ورائع جدًّا ووسيم جدًّا.
كانت الصورة المرسومة موضوعة على نافذة المتجر، وكان المارة يتزاحمون حول النافذة طوال اليوم، مُعجبين بالملك الورقي الملون، الذي جلس على العرش يدخن غليونه بوقار.
كانت تلك تسلية عظيمة للملك نفسه. يحب أن ينظر إلى الناس، وينظر بعناية إلى كل ما يحدث خارج النافذة. وكان ينزعج جدًّا عندما تغلق النافذة ليلًا، ولا يستطيع رؤية ما يجري في الشارع.
ولكن ذات مرة، في أحد أيام الشتاء الشديدة البرودة، لسبب ما، لم تكن النافذة مغلقة بالستائر طوال الليل، وعلى الرغم من تجمُّد الزجاج في النافذة وتجمد الثلج فوقها، فإنه كان لا يزال هناك ثقب يمكن للملك الورقي أن يرى من خلاله ما يدور حوله.
ثم رأى الملك كيف صعدت العربات الواحدة تلو الأخرى إلى مدخل منزل كبير مُغطًّى بقماش لامع، وكيف نزل منها السادة المهمون والسيدات الأنيقات وصعدوا السلالم إلى شقة مفروشة غنية. ذهب السادة والسيدات إلى الصالات المدفأة جيدًا، وظلت العربات بالخارج تنتظرهم في البرد.
من بين أمور أخرى، وصلت عربة، وقفزت منها شابة جميلة وصاحت في الرجل العجوز: «انتظرني!» وسرعان ما اختفت في المدخل. ارتعد الحوذي العجوز من البرد، وانتحى جانبًا.
سرعان ما لاحظ الملك الورقي الشابة في نوافذ المنزل وقد اندمجت في رقصة مرحة مع حشد كامل من السادة يتحركون بانتظام وبهجة في الغرف الدافئة.
وفي الشارع في ذلك الوقت، كان الصقيع يزداد قوة، والحوذي العجوز — الذي كان ينتظر سيدته الشابة — يتجمد ببطء حتى الموت فوق الصندوق. تحول وجهه إلى اللون الأزرق، ويداه ترتعشان وقد سقط اللجام منهما. رأى الملك الورقي كيف مات الشخص البائس تدريجيًّا، وكان الملك مستعدًّا للبكاء من الرعب، لو كان الملوك الورقيُّون يستطيعون البكاء والنحيب.
رقصت الجميلة لفترة طويلة. وعندما بدأ الضيوف، أخيرًا، في الانصراف، واكتشفت أن سائقها متجمِّد، لم تبكي لكنها فقط اغتمَّت وقالت: «أوه، يا له من أمر بائس! كيف يمكنني العودة إلى المنزل الآن؟»
غضب الملك الورقي من أعماق روحه الورقية. فكر قائلًا لنفسه: «أوه! إذا أصبحت ملكًا حقيقيًّا، فلن أسمح بأي شيء كهذا …» وعلى هذه الفكرة نام الملك.
لكن هذه المرة لم يكن مضطرًّا للنوم طويلًا، ليس لأن الجو بارد جدًّا عند النافذة، ولكن لأنه استيقظ على أصوات عالية بالقرب منه، قريبة جدًّا منه. فرك الملك عينيه الناعستين ورأى حشدًا كاملًا من الناس يرتدون ثيابًا رثَّة، ووجوههم مليئة بالأوساخ والسخام. كانوا عُمال مصنع يسارعون إلى العمل. توقفوا عند نافذة المتجر ونظروا إلى ملك الورق، وحاول أولئك الأقرب قراءة التوقيع الطويل الذي كان أسفل الصورة ليعرفوا اسم الملك. لكن بغضِّ النظر عن مدى صعوبة المحاولة، لم يتمكنوا من تكوين كلمة واحدة، على الرغم من الضوء الساطع للفانوس؛ كانوا أميين ولا يستطيعون القراءة.
قال أحد العُمال بصوت حزين: «لم يعلِّمونا في الطفولة، والأمر صعب في الشيخوخة!»
امتلأ قلب الملك الورقي بالشفقة.
قال لنفسه: «سأبني مدارس في جميع أنحاء ولايتي، وأعطي الجميع الفرصة للدراسة بقدر ما يريد أي شخص.»
وفجأةً ارتجف متذكرًا أنه لا يستطيع فعل ذلك. ارتجفت الدموع على الرموش الورقية للملك الورقي. لقد آلمته وجرحته حقًّا فكرة أنه مجرد ملك من صورة مرسومة، وليس ملكًا حقيقيًّا.
في غضون ذلك كان الشارع مزدحمًا. في كل مكان بدأ الناس بالظهور. توقف الكثيرون عند المتجر، وأُعجِبوا بملك الورق ومضَوا.
جاء رجل مهم يرتدي معطفَ فروٍ باهظ الثمن إلى النافذة مع ولدين يرتديان ملابس أنيقة. وهذان الأخيران عندما شاهدا الملك الورقي صرخا بصوت واحد: «أبي، اشترِ لنا هذا الملك!»
سأل الرجل الذي يرتدي معطف الفرو بازدراء: «ماذا؟ هل تريدان صورة بأسلوب لوبوك؟ لا يا أطفال، أُفضل شراء لعبة جيدة لكما.»
أجاب الطفلان بمرح: «نعم، نعم، أنت مُحقٌّ يا أبي! اشترِ لنا لعبة.»
ذهب الثلاثة إلى أبواب متجر قريب. توقفت أمامه فتاة صغيرة نحيفة ضعيفة. كان مظهرها يثير الشفقة، في خِرَقها المجعدة، بوجه هزيل من الجوع والاحتياج، وعينين غائرتين في محجريهما.
توسلت الفتاة بصوت حزين وبائس: «أيها السادة المحترمون، أعطوني من أجل المسيح.»
صاح صاحب المعطف بقسوة: «ابتعدي أيتها الشحَّاذة! كثير منكم يرقد خاملًا ويتوسل الصدقات. ابتعدي!»
قفزت الفتاة للخلف، وتدفَّقت الدموع من عينيها. تمتمت بشيء عن والدتها المريضة التي ظلت دون غذاء لليوم الثالث، وأنها نفسها جائعة، وهمست وهي تبكي، وجلست على الرصيف.
دخل الرجل الذي يرتدي معطف الفرو وأطفاله في ذلك الوقت متجر الألعاب وهم يضحكون ويتحدثون بمرح فيما بينهم.
نظر الملك الورقي إلى الفتاة نصف الميتة، وكان قلبه الورقي يكاد يتمزق إلى ألف قطعة من الألم والعجز. نعم، خاصة من العجز عن فعل أي شيء. كان يدرك تمامًا أنه لا يمكنه فعل أي شيء لمساعدة الفتاة المسكينة؛ لأنه كان ملكًا من ورق.
الورق ولا شيء أكثر. ليست هذه الفتاة وحدها، لكن بشكل عام كان غير قادر على مساعدة أي شخص. إنه غير قادر على القضاء على الحزن والظلم البشري.
فكر الملك الورقي قائلًا في نفسه: «أوه، لو كنت ملكًا حقيقيًّا حيًّا! كم من الخير يمكنني أن أفعل؟!»
أمسك رأسه بيديه وبدأ يطالب القدر؛ إما أن يحرمه تمامًا من العرش والتاج والعباءة الملكية وحتى الحياة، وإما أن يجعله ملِكًا حيًّا، وليس ملكًا من ورق.
ارتطم شعاع القمر بالنافذة ولمس وجهه بلطف. أغرقت الدموع عينَي الملك.
رأت هذه الدموعَ الجنِّيَّةُ الفضية لضوء القمر، الساحرةُ الطيبة لارا، وهي تنطلق بعربتها الزرقاء، فقالت بهدوء: «أول مرة أرى ملكًا يبكي، حتى إذا كانت دموع ملك من ورق. لكن بما أن هذه دموع حب للآخرين فهي تستحق الاهتمام. أنت ملك جيد وربما تحب رعاياك. سأجعلك ملكًا حقيقيًّا على قيد الحياة.»
لمست الجنية لارا عينَي الملك العجوز الباكية بعصاها الزرقاء السحرية. معجزة! اختفت أشعة قمر منتصف الليل الزرقاء، وكذلك اختفى الليل المظلم والأضواء الوامضة في الشوارع، كما اختفت نافذة متجر الألعاب نفسه. انزلق الملك عن الصورة الورقية في لحظة، وشعر كأنه ملك حقيقي. وجد نفسه في قاعة قصر ضخمة، على عرش ذهبي، تحت مظلة أرجوانية، وهناك حشد مطيع من كبار الشخصيات والخدم يتكدَّسون حوله. رداء فرو طويل يتدلى من كتفيه، ولحيته الفضية وشعره الرمادي تفوح منه رائحة عطر باهظ الثمن.
صحيحٌ أن الملك بدا شابًّا جدًّا، وضعيفًا، لا يوصف بين الحاشية الطويلة العريضة البدينة التي أحاطت بالعرش، لكن كل هؤلاء الحاشية حنَوا رءوسهم للغاية وباحترام عندما اعتلى العرش، لدرجة أن قلبه ارتعد فرحًا. أدرك على الفور أن القدر سمع رغبته وجعله حاكمًا جبارًا للبلاد.
ودون تردد أرسل الملك مبعوثين في جميع أنحاء المدينة للبحث عن البؤساء والجياع والمحتاجين والمظلومين، وأمرهم بتوزيع الأموال والملابس الجديدة وكل ما يلزم.
ثم أرسل الملك رُسلًا في جميع الشوارع والساحات ليعلن بصوت عالٍ للناس أنه سيبني مدارس يدرس فيها الناس مجانًا، حتى تصبح حياة الناس بديعة وجميلة. وأرسل الملك أعيانه إلى كل أثرياء المدينة، طالبًا منهم المعاملة الحسنة والحنونة للخدم، ومهدِّدًا في حالة العصيان بغضبه الملكي.
ولم ينسَ الملك الفتاة التعيسة، التي كادت تموت جوعًا على نافذة المحل وأمر بالعناية بها. سمع الناس البشارة بسرور واندفعوا بصرخات الفرح إلى القصر لاستقبال ملكهم.
كان الجميع سعداء وراضين، وراحوا يمجدون الملك الصالح.
لكن الملك نفسه كان أسعد الجميع. كان مقتنعًا أنه فعل كل ما هو ضروري لخير الناس، وبقلب هادئ ذهب إلى الفراش في ذلك المساء. وفي سريره الملكي الفاخر استلقى الملك على فراشه وفكر قائلًا لنفسه: «ما أحسن أن تدرك أنك تستطيع أن تصنع خيرًا للتعساء؛ تلك أكبر بهجة للملوك.»
وفجأةً لامس شيءٌ لطيف كالنسيم شعر الملك الفضي، فرفع رأسه بسرعة. كانت جنيَّة القمر لارا تقف أمامه.
انحنى جسمها الأزرق، الذي كان يتلألأ من خلال أشعة القمر، فوق رأس الملك.
ابتهج الملك كطفل أمامها.
قال بامتنان: «أشكرك يا لارا العظيمة؛ لأنك جعلتِني ملكًا حقيقيًّا، ومنحتِني الفرصة للقيام بعددٍ من الأعمال الصالحة. آملُ أنه من الآن فصاعدًا لن يكون في مملكتي جائع أو مستاء أو حزين.»
هزت الجنية الزرقاء رأسها الجميل ببطء وضحكت بهدوء.
قالت بضحكة لطيفة، بالكاد مسموعة، مثل نغمات القيثارة: «أنت مخطئ أيها الملك، هل يمكن تغيير كل شيء في يوم واحد؟ أيها الملك حتى الآن لا تعرف حتى مقدار الحزن في مملكتك. حتى الآن لم ترَ سوى ما يمكنك رؤيته من نافذة المتجر، وسوى هؤلاء الذين يمكنك أن تنظر إليهم من نافذة القصر الملكي. لكن إذا سافرت أنت، أيها الملك، في جميع أنحاء بلدك، أو على الأقل جزء منها، ستكون مقتنعًا بأن شعبك يموت من الجوع بسبب فساد المحاصيل، والمرض، والعداء بينهم. وما فعلته يبدو لي جزءًا ضئيلًا مما يجب فعله لإسعاد شعبك.»
بكى الملك وقال: «لارا! أقسم لك، غدًا سأبدأ رحلة طويلة. غدًا أبدأ السفر حول مملكتي. أينما أرى الجوع والعوز، سوف أزرع الرضا والفرح! أقسم لك أيتها الساحرة لارا أني سأمسح دموع شعبي!»
جاء صوت جنية القمر الناعم ليقول: «هذا أصعب مما تعتقد.»
رد الملك بعناد: «ومع هذا سأفعل، سوف أفعل.»
أومأت لارا برأسها الفضي نحوه واختفت في ضوء القمر. تُرك الملك وحده. كان يتقلب لفترة طويلة على سريره الواسع تحت مظلة من المخمل، ويتخيل تلك اللحظة الرائعة التي لن يكون فيها أي شخص جائع في بلده.
ومع أول شعاع للشمس، انطلق عازفو الأبواق وعازفو الطبول من القصر على جياد بيض. وخلفهم في عربة ذهبية، محاطًا بحاشية رائعة، ركب الملك. شرع في رحلة طويلة للسفر في أنحاء بلاده مترامية الأطراف والتعرف على حياة الناس. ركب السُّعاة قبل العربة الملكية بفارق كبير، وحذروا كل بلدة وكل قرية وكل مكان ذاهب إليه الملك. وحيثما ذهب كان يقابله في كل مكان أشخاصٌ أذكياء ومبهجون وبُدناء بوجوه فرحة وفساتين باهظة الثمن وأطباق ذهبية، ويقدمون هدايا ثمينة لملكهم.
سأل الملك في حيرة: «ولكن أين الرعايا الجياع؟ أين المتسولون والفقراء؟»
أجابت الحاشية بإطراء: «يا جلالة الملك، في ظل حكمك الحكيم، ملك صالح مثلك، لا يمكن أن يكون هناك فقير ولا جائع في بلدك. بفضل حكمتك وكرمك، انتشر الرخاء والرضا والبهجة في كل مكان.»
ابتسم الملك ابتسامة سعيدة وعاد إلى العاصمة راضيًا.
قال بثقة: «أوه، كانت لارا مخطئة عندما قالت إن هناك متسولين ومساكين في بلدي؛ لقد سافرت إلى نصف البلاد ولم أرَ الفقراء في أي مكان أو المتسوِّلين أو المعتدين. أود أن أرى الجنيَّة لأثبت لها خطأها.»
تحققت رغبة الملك. ففي الليلة الأولى بعد عودة الملك إلى العاصمة، بمجرد ظهور القمر في السماء، دخلت لارا من نافذة غرفة النوم.
قالت ولمست الرأس الفضي للملك بقُبلة خفيفة: «مرحبًا أيها الملك!»
قال الملك: «مرحبًا لارا! جئتِ في الوقت المناسب.»
وبدأ يتحدث بسرعة وبالتفصيل عن أولئك الأشخاص الذين التقى بهم في الطريق وقد تلقَّوا طعامًا جيدًا وكانوا راضين وسعداء في كل المدن والقري والبلدات.
وفجأة سمع ضحكات هادئة مثل حفيف الريح، ورنينًا مثل همهمة النهر. ضحكت لارا، وقالت بين ضحكاتها: «أوه، أيها الملك الساذج المهمِل! كيف خدعوك هكذا بكل سهولة؟! لماذا سمحت أن ترافقك الحاشية؟ بملابسهم اللامعة كانوا يمنعون عنك كل من أردتَ رؤيته! ومن نوافذ عربتك الذهبية لم تشاهد سوى الذهب والديباج، لكنك لم ترَ الحقيقة، ولم ترَ ما كان يجب أن تراه، ولم ترَ حاجة شعبك وحزنه … أيها الملك، إذا أردت فسأحولك إلى طائر أسود كبير، إلى طائر حكيم، وفي غضون أيام قليلة يجعلك جسمه تطير من البحر إلى البحر فوق جميع ممتلكاتك البعيدة، وبعيون ثاقبة سترى ما تخفيه الحاشية الماكرة في كل مكان عن الملك.»
بكى الملك: «نعم! نعم! حوليني إلى طائر يا عزيزتي لارا. أريد أن أرى احتياجات الشعب وأحزانه.»
حالما أتيح للملك الوقت للتلفظ بالكلمة الأخيرة، شعر فجأةً أن أجنحة ضخمة تنمو خلفه وأن جسده بالكامل غُطِّي بالريش والزَّغب.
وفي الدقيقة التالية، فتحت لارا نافذة غرفة النوم الملكية، وخرج طائر أسود ضخم منها.
طار الملك الطائر لفترة طويلة جدًّا وسافر إلى قرية صغيرة نائية.
كانت الشمس قد أشرقت بالفعل فوق قمم الأشجار، والمياه الكريستالية للنهر، والزهور الملونة وراء الضواحي.
كانت القرية صغيرة وبائسة، صغيرة جدًّا وبائسة جدًّا؛ لدرجة أن الملك الطائر خاف من أكواخها الدخانية وطرقها الملتوية وجدرانها المتداعية.
فكر الملك الطائر وهو يرفرف بجناحيه العريضين: «من الغريب أنهم لم يأخذوني إلى هذه القرية»، وجلس على سطح كوخ متطرف.
فجأةً سمع تنهدات ونداءات حزينة. أدار رأسه ونظر إلى الفناء الصغير ورأى المشهد التالي.
في منتصف الفناء وقف رجل نحيف بائس يرتدي الخرق. بدا أسود ونحيفًا. كانت عيناه تلمعان بشدة وشفتاه ملتويتين.
وقف أمامه شخصان يرتديان زي الخدم الملكيين وقد علا الغضب وجهيهما وقالا بغضب: «هل تفهم؟ هل توافق على تلبية مطلبنا؟ سنلقي بك غدًا في السجن إذا لم تجمع كل الأموال التي لديك في القرية لشراء طبق ذهبي وخبز ومِلح للملك. سيكون في طريقه مرة أخرى قريبًا لتفقُّد مملكته، ومن الضروري أن يُستقبل كما يليق في قريتك.»
همس الرجل البائس: «ولكن من أين يمكنني الحصول على هذا القدر من المال؟ قريتنا صغيرة وفقيرة. ليس لدينا ما نأكله تقريبًا. لم يتبقَّ لدينا سوى أبقار نحيفة وجائعة، وأطفالنا يتغذون من حليبها. إذا بعناها فسوف يموت الأطفال جوعًا.»
صرخ خادما الملك بصوت واحد: «هذا ليس من شأننا! الأوامر أن تجمع القرية بأكملها للملك هدايا مناسبة، وأن يرى الملك وجوهَ رعاياه الراضية والغنية والمبتهجة.»
قال الشخص المسكين: «خذوا كل شيء إذا أردتم، لكنني سأخبر الملك.»
ضحك خادما الملك: «هاهاها. هل تعتقد أننا نخاف من تهديداتك؟ مطلقًا! نحن نعلم جيدًا أنه لن يُسمح لك برؤية الملك. وحتى لو وصلت شكواك إلى آذان الملك، فلن يعرف من هو المحق ومن هو المخطئ. بعد كل شيء فكِّر، الملك لديه ملايين الرعايا! هل هو في وضع يسمح له بالتعامل مع شكاوى كلٍّ منهم؟ وكم منا نحن خدام الملك؟ ألا نستطيع أن نبين للملك أنك مخطئ؟ آه أيها العجوز سيكون الأمر أسوأ بالنسبة لك إذا قررت الشكوى. لن يصدقك الملك أبدًا عندما يرى أن كل الآخرين يحيونه بفرح ورضا.»
أما الملك الطائر، فكأنما مُزقت قطعة من قلبه. الآن أدرك أن الساحرة لارا كانت على حق. لقد فهم الآن بأي ثمن اشترى الشعب لقاءات الملك. طار بسرعة البرق مرورًا بالغابات والبساتين، مرورًا بالقرى والبلدات. وعلى الطريق رأى مدينة كبيرة.
تجمَّع حشد من الناس في ساحة المدينة. مجموعة كاملة من المحاربين اصطفوا على حسب الرُّتب. وقف رجل طويل القامة جانبًا في ثياب جندي، وبجانبه اختبأ حذاءُ طفل صغير. وبجانبه أيضًا امرأة فلاحة نحيفة شاحبة الوجه تبكي.
قالت: «وداعًا يا عزيزي، وداعًا يا حبيبي! تتركنا ليصبح أولادك يتامى، يرسلونك إلى بلد أجنبي للقتال مع أعداء شرِسين. الرب وحده يعلم إذا كنت ستعود أم لا. وحتى إذا عُدتَ فلن تجدنا. سنموت من الجوع دونك يا عزيزي. من سيطعم خمسة أطفال إذا لم تكن هنا؟!»
بكت المرأة الفلاحة بمرارة حتى امتلأ قلب الطائر الأسود بالأسى.
فكر الملك الطائر «لماذا؟ لماذا لا يخبرني المسئولون أن المحاربين يتركون الأطفال فقراء وجياعًا كاليتامى؟» ثم اندفع مُحلقًا بشفقة وغضب.
وفي بلدة صغيرة أخرى، تجمَّع الناس بالقرب من سور الكنيسة. كانوا يتحدثون بصوت عالٍ معًا. سمع أصواتًا مرحة ومبتهجة. تومِض الوجوه المفعمة بالحيوية. قال الملك الطائر لنفسه: «الحمد لله. ليس الكل حَزانى ينتحبون في مملكتي، هناك زوايا يسود فيها الفرح.»
ونزل الطائر الأسود إلى برج الجرس، ومن هناك بدأ ينظر إلى ما يحدث حوله. وفجأة وصلت صرخة عالية إلى مسامعه. بدأ الطائر الأسود يُصيخ السمع. سمع البكاء من منزل صغير متهالك على حافة المدينة. رفرف الملك الطائر بجناحيه، ونزل بجانب المنزل، وأطلَّ من النافذة.
جلست خيَّاطة نحيفة وهزيلة في غرفة بائسة تلتقط شيئًا بإبرة. كانت تحدق في عملها وعيناها حمراوان من الأرق والعمل، ومن وقت لآخر كانت تنظر إلى الفتاة الشقراء النحيفة التي ترقد بجانبها على سرير بائس. كانت الفتاة شاحبة، ذات شفاه زرقاء، وعينين واسعتين. الفتاة الصغيرة محمومة، قد لفت نفسها في بطانية زرقاء، كانت هي الشيء الفاخر الوحيد في الغرفة. كل شيء آخر كان مكسورًا وبائسًا، وينبئ عن حاجة ماسَّة.
الأم تنظر إلى ابنتها المريضة وتبكي. وفجأة انفتح الباب وظهر شخصان على العتبة. قال أحدهما مخاطبًا الخيَّاطة المسكينة: «نحن الخدم الملكي. لقد جئنا من أجل المال الذي يجب على كل مواطن — حسب رغبة الملك — أن يساهم به؛ لأن الملك يريد أن يوزع الصدقات السخية على فقراء عاصمته.»
قالت الأرملة بحزن: «لكنني فقيرة، وليس لديَّ فلسٌ واحد يمكنني أن أعطيه للملك.»
قالا: «في هذه الحالة، يجب أن نأخذ منك شيئًا ونبيعه لتحقيق رغبة الملك.»
ردت قائلة: «اسمع، ليس لديَّ أي شيء، لا شيء باستثناء تلك الأشياء التي تراها هنا، ولن تكسب مقابلها بنسًا واحدًا.»
نظر الدخلاء حول الغرفة البائسة. في الواقع، لم يكن هناك أي شيء ذي قيمة. كراسي مكسورة، طاولة منحنية دون أرجل، خزانة متهالكة؛ هذا كل ما كان هناك. وفجأة لاحظ كلاهما البطانية التي كانت تُغطِّي الفتاة.
قالوا بصوت واحد: «هذه البطانية، سنأخذها ونبيعها ونرسل العائدات إلى الملك.»
نظرت المرأة بعينين مذعورتين إلى الفتاة المريضة ثم حولت نظرها إلى الرجلين وبكت بصوت عالٍ وهي تقول: «أرجوكما لا تأخذوها! سوف تقتلون ابنتي! لقد أمضيت ليالي كاملة في خياطة هذه البطانية من أجل طفلتي. لقد تحسنت منذ أن لففتها بهذه البطانية الدافئة. ستموت، حتمًا ستموت إذا حُرمت منها.»
قال الخادمان: «هراء! أمَر الملك رعاياه بإعطاء ما لديهم. هل نترك بطانيتك ونتجاهل رغبة الملك.»
لم يستطع الملك الطائر المقاومة. قرر أن يصرخ بأنها كذبة وأنه لم يصدر مثل هذا الأمر، وأنه ما كان ليأخذ أي شيء من رعاياه المساكين. لكن بدلًا من الصوت الملكي، لم يُسمع سوى نعيق الطائر، والذي ظل غير مفهوم للخادمَين الملكيَّين …
نزعا بوقاحةٍ البطانية عن سرير الفتاة واختفيا عبر الباب.
صار جسد الطفلة الرقيق ذابلًا من الحمى، يرتجف ويرتجف من قشعريرة البرد. وهُرعت الأم البائسة إلى ابنتها، وشبكتها بذراعيها المرتعشتين وحاولت أن تدفئها بأنفاسها الساخنة.
حلق الطائر الأسود بعيدًا عن النافذة مُطلِقًا آهةً عالية. ارتفع عاليًا، وحلق في مساحة شاسعة وهبط عند نافذة القصر الملكي. هناك سقط جناحاه في الحال، واختفى الزغب، وبدلًا من طائر أسود، ظهر الملك ذو الشعر الرمادي مرة أخرى في منتصف حجرة نومه الفاخرة.
كان شاحبًا وعيناه تحترقان بنارٍ داكنة.
صاح ومد يديه إلى أشعَّة القمر التي ظهرت لتوِّها من وراء الغيوم: «لارا! أيتها الجنية لارا! تعالَي إليَّ.»
ظهرت الجنية لارا.
سمع صوتها الرنان: «هل ناديتني أيها الملك؟»
أجاب بحُزن: «نعم ناديتك. لقد حولتِني من ملك ورقي من صورة مرسومة إلى حاكم حقيقي للبلاد. أردت أن أفعل الخير لبلادي، وأردت أن أجعل الناس سعداء. أردت أن يكون الجميع في مملكتي سعداء وراضين، أن يتغذوا ويلبسوا ملابس لائقة. لكني الآن أرى أنني لا أستطيع أن أفعل كل هذا بمفردي. المسئولون يخفون الحقيقة عني، خدمي يضطهدون الناس … أيتها الجنيَّة الطيبة ساعديني في أن أصبح ملكًا سعيدًا لشعب سعيد. سأفعل كل ما يتطلبه الأمر. أنا مستعد لأن أعطي حتى حياتي من أجل خير رعيتي.»
قالت لارا الزرقاء وهي تهز رأسها الفِضي: «هذا لا يكفي. حياتك لن تجلب السعادة لرعاياك، ولن تقضي على حزنهم، ولن تجفف دموعهم.»
سأل الملك في يأس: «ماذا أفعل؟ أنا عاجز ولا أستطيع التفكير في أي شيء!»
قالت لارا: «لا تستطيع؟ إذن أنت لا تستحق أن تكون ملكًا حقيقيًّا. هذا يعني أنه عليك فقط أن تكون دائمًا ملكًا ورقيًّا من صورة مرسومة، ولا مكان لك هنا في القصر.»
ورفعت الجنية عصاها …
وفي هذا الوقت، ارتجف القصر بأكمله بصرخات فرحة محمومة. هذا الحشد من الناس، وعلى رأسهم خدم الملك، اجتمعوا في الشارع لتبجيل ملكهم.
لكن الملك لم يعد في القصر. كان في الصورة المرسومة في مكانها السابق، في نافذة المتجر، وعلى الصورة المرسومة عاد الملك الورقي بشكله السابق الرائع في تاج وعباءة باهظة الثمن.
فرك عينيه الورقيتين وقال بدهشة: «إذن كان حلمًا؟ مجرد حلم!»
وفي الواقع، لقد كان حلمًا. أمضى الملك الورقي ليلته يحلم.
وأكدت ذلك النجومُ الذهبية المتلألئة من السماء للملك. وأضافت النجوم الذهبية شيئًا آخر.
همست بهدوء لدرجة أن الملك الورقي وحده هو الذي كان يستطيع سماعهم. قالت: «نشعر بالأسف للملك الورقي. لقد أراد بشدة وصدق أن يكون ملكًا حقيقيًّا من أجل إسعاد بلده الكبير. الملك الورقي المسكين! لقد نسي أن الرغبة وحدها لا تكفي! لا يمكن لملوك الورق من صورة مرسومة أن يكونوا أسياد ملايين من الناس … فليكن راضيًا بنصيبه المتواضع في جذب عيون المارَّة بصورة مرسومة بمهارة.»
هكذا قالت النجوم الذهبية …