المحاكمة
إن فهم ما يدور في عقل امرأة جراتس ليس مهمة سهلة، كما أنها مهمة لا يصح القيام بها باستخفاف. عندما تتذكر البداية الغامضة لتلك الطفلة العارية الساقَين وهي تستوعب الكلام الثوري في المطبخ الترانسلفاني، وتُطور عقلها وفقًا لخطوط غير تقليدية؛ وتتذكر، أيضًا، أنه في مرحلة مبكرة من حياتها واجهت المشكلات البالغة للحياة والموت في أسوأ صورها، وأن قَدَر الأشياء قد شُوِّه تشويهًا صارخًا على يد معلميها، قد تصل إلى مرحلة يتردد فيها حكمك المتذبذب بين اللوم والشفقة.
قد أُصدق أن قوة التأمل لم يكن لها مكانٌ حقيقي في عقلها، وإلا فكيف يُمكننا تفسير موقفها من الرجل الذي تحدَّته وقَبول فورات انفعالاتها التي دعت فيها إلى موته، وإلى عقابه عقابًا شديدًا، والتي، أيضًا، سمحت أثناءها لنفسها برفاهية نادرة من الكلام بلا قيود؟ كيف يُمكننا قَبول نوبات الغضب هذه مع حقيقة أن صوت هذا الرجل شغل أفكارها ليلًا ونهارًا، وأن ذكرى عينَي هذا الرجل من خلال قناعه تبعتها في كل حركاتها، حتى تحولت صورته إلى هوس؟
قد يكون الأمر أنه ليس لي دراية بالنساء وبطرقهن (لا توجد عجرفة خفية في الشك الذي أُعَبِّر عنه) وأن تقلُّبها كان شيئًا عامًّا وشائعًا بين بنات جنسها. يجب عدم تخيُّل أنها ادخرت جهدًا أو مالًا للقضاء على أعدائها، وأعداء منظمة المائة الحمر. لقد وصفتهم، على نحو جيد قدر استطاعتها، بعد لقائها الأول، ووُزِّعت الرسوم التقريبية التي رُسِمَت لهم حسب تعليماتها بواسطة قادة منظمة المائة الحمر.
وهي جالسة بالقرب من نافذة منزلها، استغرقت في التفكير، بينما الصوت الذي لا يتوقف لحركة السير في الشارع بالأسفل يجعل الخدر يسري في جسدها، ويجعلها شبه نائمة.
أيقظها صوت إدارة مقبض الباب من أحلامها.
كان القادم هو شميدت، شميدت الرهيب، يتصبَّب عرقًا ومنفعل للغاية. كان وجهه المستدير الغليظ يشعُّ انفعالًا، وبالكاد يستطيع أن يُخْرِج صوته لينبئها بالخبر.
صاح بسعادة، وفرقع بأصابعه، قائلًا: «لقد أمسكنا به! لقد أمسكنا به! أوه! الخبر السار! أنا أول من يُبلغكِ به! لم يُبلغكِ أحدٌ بذلك، أليس كذلك، يا صديقتي الصغيرة؟ لقد هُرِعتُ واستقللتُ سيارة أجرة.»
سألته: «قبضتم على من؟»
قال: «على الرجل، أحد الرجال الذين قتلوا ستارك وفرانسوا، و…»
قالت بخشونة: «أي، أي رجل؟»
تحسس جيبه وسحب صورة تقريبية غير ملونة.
قالت: «أوه!» لم يكن من الممكن أن يكون هو الرجل الذي كانت قد تحدته، فسألت صاخبةً: «لماذا؟ لماذا؟ لماذا هذا الرجل فقط؟ لماذا ليس الآخرين؟ لماذا ليس الزعيم؟ هل أمسكوا به وفقدوه؟»
ظهر الكدر والذهول على وجه شميدت المستدير. كادت خيبة أمله أن تكون مضحكة.
قال، مكتئبًا ومتحيرًا: «لكن، أيتها الأم الصغيرة، هذا واحد منهم، لم نكن نأمُل حتى في الإمساك بواحد منهم و…»
هدأت عاصفة غضبها.
وقالت بضجر: «أجل، أجل، واحد، حتى واحد هو أمر جيد. سيتعلمون أن المائة الحمر ما زالوا يستطيعون أن يضربوا، هذا الزعيم سيعرف، هذا الرجل سيموت»، وقالت وهي تنظر إلى شميدت: «ميتة جديرة بأهميته. أخبرني كيف أمسكوا به.»
قال شميدت المتحمس: «كان السبب هو الصورة، الصورة التي كنتِ قد رسمتها. أحد رفاقنا ظن أنه تعرف عليه وتبعه إلى منزله.»
قالت: «سوف يُحاكَم، الليلة.» وأمضت اليوم تترقب انتصارها.
لا يختار المتآمرون دومًا أماكنَ سرية من أجل إعداد مخططاتهم. وكان المائة الحمر خصوصًا مشهورين بتشابه أماكن لقائهم. كانوا في السابق يذهبون إلى الطبيعة، ومثلما تهب الطبيعة النمر خطوطًا لا يُمكن تمييزها عن عشب الأدغال، كذلك كان من شأن المائة الحمر أن يختاروا للقاءاتهم مكانًا من الأماكن التي عادةً ما تُعقَد فيها اللقاءات.
كان المكان الذي عُقِدَت فيه المحاكمة هو قاعة النُّزُل التابعة لمؤسسة فخر ميلوال، إيه أو إس إيه؛ وهو الاختصار الذي يُمكن توسعته إلى الرهبنة المشتركة لأبناء العفة. لم يكن الموقف المالي لمؤسسة فخر ميلوال قويًّا. كان وباء غير اعتيادي أصاب البحارة المعتدلين هو ما دعا إلى تأسيس النُّزُل، وكانت القاعة الصغيرة قد بُنِيَت بواسطة تدفق لرأس المال من وصايا غيرِ مألوفة، ومنذ الفشل الذريع الذي صاحب الاجتماعَ الأول لرابطة لندن، كان قدرٌ كبير من شئونها العامة قد سُيِّر بمهارة في هذا المبنى المقام على ضفة النهر. كانت الشرطة قد داهمته أثناء أيام الرعب، لكن لم يُكتشَف شيء ذو طابع يُؤدي إلى التجريم. وبسبب النجاح الذي واكب سياسة العلن، فضلت امرأة جراتس أن تُجازف بإقامة محاكمة علنية في قاعة معرضة لمداهمة الشرطة.
كان يجب أن يكون الرجل واعيًا بأن الهروب مستحيل. هُرِع رسل في كل الاتجاهات ليحملوا تعليماتها. واستُدعي قادة الحركة على وجه السرعة، واختيرَ مكان المحاكمة، وجرى الإعداد لمراسمَ كانت تخضع لسوابق راسخة، واتُّخِذَت ترتيبات للأدوات والأغراض التي طالما لعبت دورًا فعالًا في محاكمات منظمة المائة الحمر.
في حُجرة المحاكمة ذات الستائر السوداء وجدت امرأة جراتس صحبة كاملة. على سبيل المثال لا الحصر، كان من بين الجالسين هناك جنبًا إلى جنب معًا على المقاعد الطويلة المنخفضة ماليسكريفونا، وتشيزكي، وفيلانتيني، ودي رومانس، وغمغموا بالتحية وهي تدخل الغرفة وأخذوها إلى مقعدها في المكان الأعلى. جالت بناظرَيها سريعًا في الوجوه، معطية إشارة برأسها هنا ونظرة تقدير هناك. تذكرت آخر مرة ظهرت فيها أمام الأعضاء العاديين للحركة. افتقدت وجوهًا كثيرة كانت تلتفت إليها في تلك الأيام؛ ستارك، وفرانسوا، وكيتسينجر، الذين قُتِلوا على يد رجال العدالة الأربعة. ناسب مِزاجَها أن تتذكر أن الليلة ستُحاكم واحدًا ساعد على الأقل في قتل ستارك.
فجأة انتصبت واقفةً. كانت قد سنحت لها مؤخرًا فرص قليلة لاستعراض تلك القدرة على الخطابة التي كانت يومًا ما الأمر الوحيد الذي يجعلها جديرة بالاعتبار في مجالس منظمة المائة الحمر. كانت قدراتها على التنظيم قد أصبحت محلَّ احترام لاحقًا. شعرت بالحاجة إلى التدريب عندما شرعت في الكلام. وجدت نفسها تتردد بحثًا عن الكلمات، وفي مرة من المرات شعرت بأن إيضاحاتها لم تكن بارعة. لكنها استجمعت الثقة وهي تُتابع، وشعرت بالنشوة المتجاوبة من الجمهور المنبهر.
كانت القصة التي حكتها هي قصة الحملة. نعرف قدرًا كبيرًا منها؛ يُمكن تخمين القصة من وجهة نظر أعضاء منظمة المائة الحمر. وأنهت خطبتها بالإخبار بأمر الإمساك بالعدو.
«الليلة نُوجِّه ضربةً إلى أعداء التقدم هؤلاء؛ إن كانوا عديمي الرحمة، دعونا نُرِهم أن منظمة المائة الحمر لا يُمكن التفوق عليها في الضراوة. كما ضربوا ضربتهم، دعونا إذن نضرب ضربتنا؛ وبتوجيهنا لضربتنا، نعطي درسًا للرجال الذين قتلوا رفاقنا، لن ينسَوه، لا هم ولا العالم، أبدًا.»
لم يكن ثمة هتافٌ عندما انتهت؛ إذ كان ذلك هو النظام، ولكن صدرت همهمات وهم يُوجهون إليها عبارات الثناء؛ كانت مجموعة من العبارات غير مترابطة من المديح والإعجاب.
ثم قاد رجلان السجين.
كان هادئًا ومهتمًّا، رافعًا ذقنه المربعة في ثبات عندما أُلقيَت كلمات الاتهام الأولى وأخذ يعبث بأصابع يدَيه المكبلتَين في شرود ذهن.
التقت عيناه بهدوء بالوجوه العابسة التي اتجهت إليه، لكن مع متابعتهم للاتهام، ازداد انتباهًا، محنيًا رأسه ليلتقط الكلمات.
مرة واحدة قاطع الحديث.
قال بلغة روسية سلسة: «لا أستطيع أن أفهم ذلك تمامًا؛ فمعرفتي باللغة الألمانية محدودة.»
سألته المرأة: «ما جنسيتك؟»
أجاب: «إنجليزي.»
سألته: «هل تتحدث الفرنسية؟»
قال بسذاجة مبتسمًا: «أَتَعَلَّمُها.»
قالت: «أنت تتحدث الروسية.» وتابعت حديثها بتلك اللغة.
قال ببساطة: «أجل. أمضيتُ هناك أعوامًا كثيرة.»
بعد هذا، تُلِيَت انتهاكاته في مجملها بلغة فهمها. مرة أو مرتَين بينما كان القارئ يُتابع — كان القارئ هو إيفان أورانفيتش — ابتسم الرجل.
تعرفت امرأة جراتس عليه على الفور مدركةً أنه رابع المجموعة التي احتشدت حول باب شقتها في اليوم الذي قُتِل فيه بارثولوميو. سألته بطريقة رسمية عما لديه من أقوال قبل إدانته.
ابتسم مجددًا.
قال: «أنا لست واحدًا من رجال العدالة الأربعة؛ وأيًّا كان من يقول إنني كذلك، فهو يكذب.»
سألته باحتقار: «وهل ذلك كل ما لديك من أقوال؟»
أجاب بهدوء: «ذلك كل شيء.»
«هل تُنكر أنك ساعدت في قتل رفيقنا ستارك؟»
قال ببساطة: «لا أُنكر هذا. أنا لم أُساعد في قتله، لقد قتلته.»
انطلقت صيحة تعجب في وقت واحد من كل الأفواه.
«هل تُنكر أنك قتلت كثيرين من أعضاء منظمة المائة الحمر؟»
تريَّث قبل أن يُجيب.
قال بجديةِ رجل مفعم بإحساس بالمسئولية: «فيما يتعلق بمنظمة المائة الحمر؛ لا أعرف؛ لكنني قتلتُ أناسًا كثيرين.» ومجددًا سرت همهمات التعجب في أنحاء القاعة. لكن امرأة جراتس كانت تشعر بإحساس متزايد بالقلق على الرغم من نجاح الاستجواب.
«قلت إنك كنت في روسيا، هل قتلت رجالًا هناك؟»
هز رأسه إيجابًا.
«وفي إنجلترا؟»
قال: «أيضًا في إنجلترا.»
سألته: «ما اسمُك؟» بخطأ غير مقصود كان سؤالًا لم تكن قد صاغته سابقًا.
هز الرجل كتفَيه.
تساءل: «هل هذا يُهِم؟» تبادرت إلى ذهنها فكرة. كانت قد رأت في القاعة ماجنوس اليهودي. كان قد عاش أعوامًا كثيرة في إنجلترا، وأشارت إليه ليقترب.
سألته همسًا: «إلى أي طبقة ينتمي هذا الرجل؟»
أجاب: «إلى الطبقة الدنيا. هذا مذهل، ألم تُلاحظي حينما، لا، أنتِ لم تُشاهدي عملية أسره. لكنه تحدث كرجل من رجال الشوارع، فلم يكن ينطق حرف «إتش» في بداية الكلمات.»
لاحظ الحيرة البادية عليها وشرح لها.
«إنها خدعة في ترتيب الحروف، تمامًا مثلما يقول الفلاح الروسي …» وأعطاها مثالًا بالعامية الروسية.
سألته مجددًا: «ما اسمُك؟»
نظر إليها بمكر.
«في روسيا يدعونني الأب كوباب …»
كان أغلب الحاضرين من الروس، وعندما نطق بالكلمة هبوا واقفين، وتراجعوا ووجوههم ممتقعة، وكأنما كانوا يخشون الاحتكاك بالرجل الذي وقف مكبلًا بلا حول ولا قوة في منتصف الغرفة.
وقفت امرأة جراتس مع الباقين. ارتعشت شفتاها وبدا في عينَيها المفتوحتَين على اتساعهما رعبٌ لحظي.
تابع قائلًا: «لقد قتلت ستارك، بموجب سلطتي. وكذلك فرانسوا.» وجال بناظرَيه في الغرفة بتمهل، وتابع قائلًا: «يومًا ما، سأقتل أيضًا …»
صاحت قائلة: «توقف!» ثم قالت:
«أطلقوا سراحه.» وبتساؤل، قطع شميدت القيود التي كانت تُكبله. فتمطَّى.
قال: «عندما أمسكتم بي، كان معي كتابٌ؛ ستفهمين أن هنا في إنجلترا أجد، السلوى في الكتب، وأنا، يا من عانيت الكثير جدًّا من المعاناة والعوز نتيجة الابتعاد عن القانون، أسعى جاهدًا إلى إصلاح البشرية مثلكم، ولكن بطريقة مختلفة.»
أعطاه أحدهم كتابًا.
نظر إليه، وهز رأسه، ودسه في جيبه.
قال وهو يستدير متجهًا نحو الباب المفتوح: «وداعًا.»
قالت امرأة جراتس، وهي ترتجف: «باسم الرب، امضِ في سلام، أيها الأب الصغير.»
وسار الرجل جيسين، الذي كان في وقت ما رئيسًا للمجلس الأعلى، ومؤخرًا الجلاد العام لإنجلترا، خارجًا، ولم يُعِق خروجه أحد.
كُسِرَت شوكة المائة الحمر. كان فالموث يعرف ذلك جيدًا. فأبقى في الخدمة فرقةً من الرجال على أهبة الاستعداد دومًا عند المحطات الطرفية الكبرى للندن، وارتبط بهؤلاء أفراد دزينة من قوات شرطة سرية أوروبية. كان يُقَدَّم نفس التقرير يومًا بعد يوم. كان أشخاص، لم يكن ثمة شك حتى في وجودهم في لندن، قد غادروا عبر ميناء هارويتش. وكان الأشخاص الذي ظهروا، على نحوٍ يدعو إلى الدهشة، من العدم، قد ذهبوا في قطار الساعة الحادية عشرة من فيكتوريا؛ وعبر طريق هُل وستوكهولم كان عشرون قد غادروا في يوم واحد، وكان ثمة آخرون جعلوا ليفربول، وجلاسجو، ونيوكاسل ميناء مغادرتهم.
أعتقد أنه حينئذٍ فقط أدركَت شرطة سكوتلاند يارد نفوذ القوة التي كانت تقبع خامدة في العاصمة، أو أدركت احتمالات الدمار التي كانت وشيكةً في أيام الرعب.
مما لا شكَّ فيه أن كلَّ مجموعة من الأسماء ظهرت على مكتب رئيس الشرطة جعلته يُفكِّر بعمق أكثرَ من أي وقت مضى.
قال مرتعبًا عندما قُدِّم الاقتراح: «اقبضوا عليهم! اقبضوا عليهم! اسمعوا، هل رأيتم من قبل جحافل النمل المحارِب تُهاجم منزلًا في أفريقيا وهي تسير في موكبٍ داخلةً، بعدد لا يُحصى من الأفواج عند منتصف الليل وتُزيل كل شيء من الدجاج إلى الخنافس؟ هل رأيتموها من قبل تُعيد تنظيم نفسها في الصباح وتمضي في موكبها عائدة إلى ديارها من جديد؟ لن تُفكروا في القبض عليها، أليس كذلك؟ لا، ستجلسون فحسب بهدوء بعيدًا عن متناولها وستكونون سعداءَ حينما تكون آخر قدم حمراء صغيرة قد اختفَت!»
كان أولئك الذين يعرفون منظمة المائة الحمر على أفضل نحو متفقين بشدة مع هذه الفلسفة.
أبلغه فالموث: «لقد قبضوا على جيسين.» قال رئيس الشرطة: «أوه!»
«عندما أفصح عن هويته، تخلصوا منه بسرعة.»
قال رئيس الشرطة في تفكير: «لقد تساءلت كثيرًا عن السبب في أن رجال العدالة الأربعة لم يتخلصوا من ستارك بأنفسهم.»
أقر فالموث قائلًا: «كان هذا غريبًا نوعًا ما، لكن ستارك كان رجلًا صدر بحقه حكم، شأنه شأن فرانسوا. بطريقة ما تحصلوا على أوامر الضبط والإحضار الأصلية، واستنادًا إليها فعل جيسين ما فعله.»
أومأ رئيس الشرطة برأسه موافقًا إياه. ثم تساءل: «والآن، ماذا عنهم؟» كان فالموث قد توقع طرح هذا السؤال عاجلًا أو آجلًا. سأله بسخرية مستترة قليلًا: «هل تقترح أن نقبض عليهم، يا سيدي؟ لأنه إن كنتَ تقترح ذلك، يا سيدي، فيتعين عليَّ فقط أن أُذَكِّرَك بأننا نُحاول أن نفعل ذلك منذ بضع سنوات.» تجهم وجه رئيس الشرطة.
وقال: «من المذهل أننا ما إن نكون في موقف مثل، هلع المائة الحمر وهلع رجال العدالة الأربعة، على سبيل المثال، حتى تُصيبنا الحيرة تمامًا، وذلك ما سوف تقوله الصحف. لا يبدو ذلك أمرًا جديرًا بالتصديق، لكنه كذلك.»
وهنا أُورِد دفاع مفتش الشرطة عن سكوتلاند يارد في المحضر بكامله.
قال فالموث: «ما تقوله الصحف لا يقض مضجعي بالليل أبدًا. لم يفهم أحد تمامًا عمل الشرطة في هذا البلد، وبالتأكيد لم يفهمه رجال الصحافة.»
«توجد طريقتان للكتابة عن رجال الشرطة، يا سيدي. إحداهما بالتعامل معهم بأسلوب كتابة الصحف للعناوين الرئيسية «خطأ فادح جديد للشرطة» أو «الشرطة والعامة»، والأخرى بالتعامل معهم بأسلوب المجلات، الذي يُظهرهم في مظهر الضعفاء استنادًا إلى أدلة كاذبة، بينما يبين لهم مواطن مدني ذو مظهر براق من الخارج كيفية قيامهم بعملهم، أو في مظهر أشخاص غامضين يضعون لِحًى مزيفة ويظهرون في أنسب وقت، ويقولون بصوت مرتفع: «باسم القانون، أقبض عليك»!»
«حسنًا، ليس عندي ما يمنعني من الإقرار بأنني لا أعرف أيًّا من النوعَين. لقد مضى على عملي بالشرطة ثلاثة وعشرون عامًا، والمساعدة الوحيدة التي تلقَّيتها من مواطن مدني كانت من رجل اسمه بلاكي، ساعدني في العثور على جُثة امرأة كانت قد اختفت. كنتُ متحاملًا جدًّا عليه، لكن ليس عندي ما يمنعني من الإقرار بأنه كان في غاية الذكاء وأنه تتبع أدلته ببراعة جديرة بالملاحظة.
يوم أن وجدت الجثة قلت له:
«يا سيد بلاكي، لقد منحَتني قدرًا كبيرًا من المعلومات عن تحركات هذه المرأة، في الواقع، أنت تعرف قدرًا أكبر بكثير مما ينبغي عليك معرفته؛ لذا يتعين عليَّ أن أقبض عليك للاشتباه في تسببك في وفاتها.»
قبل وفاته أدلى باعتراف كامل، ومنذ ذلك الحين يسرني دومًا أن أتلقى أكبر قدر يُمكنني الحصول عليه من النصائح والمساعدة قدر وسعي.
عندما يسألني الناس أحيانًا عن براعة سكوتلاند يارد، لا يُمكنني أن أرويَ لهم حكايات مثل التي تقرَءُون عنها. لقد تعاملت مع قتلة، وأناركيين، ولصوص منازل، وأشخاص وضيعين عاديين، لكنهم في الغالب كانوا يؤدون عملهم بطريقة مألوفة ويلوذون بالفرار. وما إن يلوذوا بالفرار، كنا نستخدم وسائل مألوفة إلى حدٍّ ما ونُعيدهم.
إذا سألتموني عما إذا كنتُ قد تعرضت لخطر مروع عند القبض على قتلة ومجرمين يائسين، فسأُجيب بالنفي.
عندما يجد المجرم العاديُّ نفسه محاصَرًا، يقول: «حسنًا، يا سيد فالموث؛ لقد انتهى الأمر.» ويمضي معي في هدوء.
الجريمة والمجرمون يتبعون أنماطًا ثابتة. إنهم نباتات حولية شديدة الاحتمال لها طرق معمِّرة. تُربك الملابسات الاستثنائية الشرطةَ مثلما تُربك الآخَرين. لا يُمكنك أن تُدير عملًا بما يتناسب مع طرق العمل وتكون مستعدًّا استعدادًا تامًّا لأي طارئ. سيقدم لك متجر وايتليز كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، ولكن لو طلبت سيدةٌ من بائعة في المتجر أن تحمل عنها رضيعها بينما تذهب إلى قسم اللحوم المعلبة، فإن الفتاة والمدير والنظام كله سيُصعَق، لأنه لا توجد ترتيبات لحمل الرُّضَّع. ولو أن تاجر بضائع من مانشستر، وهو يفتح بضاعته، وجد ثعبانًا راقدًا بكل ارتياح في الحُزمة، فسيُصْعَق أيضًا؛ لأن التاريخ الطبيعي ليس جانبًا من تدريبه العملي، ولن يكون متأكدًا تمامًا مما إذا كان دودةً كبيرة أو أَصَلَةً عاصرة.»
كان رئيس الشرطة مستمتعًا بحديثه.
قال: «إنك تمتلك حسًّا فكاهيًّا غير متوقع بالمرة، والمغزى هو …»
قال فالموث: «إن الأمر غير المتوقع دائمًا ما يصعقك، سواءٌ كان مزحةً أو جريمة.» وغادر راضيًا إلى حد ما عن نفسه.
في غرفته وجد رسولًا منتظرًا.
«سيدة تريد رؤيتك، يا سيدي.»
تساءل متفاجئًا: «من هي؟»
أعطاه الرسول قُصاصة ورق وعندما قرأها صفَّر مندهشًا.
«شيء غير متوقع، بحق … أدخلها.»
على الورقة كان مكتوبًا، «امرأة جراتس».