مانفريد
جلس مانفريد وحيدًا في منزله في لويشام — كان معروفًا للسيدة العجوز التي كانت مدبرة منزله باعتباره «سيدًا أجنبيًّا في الحقل الموسيقي» — وفي الضوء الخافت للمصباح المظلل، بدا متعبًا. كان ثمة كتاب موضوع على الطاولة القريبة من متناول يده، وطقم قهوة فضي وفنجان قهوة فارغ على الكرسي الذي بلا ظهر إلى جانبه. شعر بتفاعل. كان هذا الرجل الغريب قد استعد لمهمة بلا نهاية. كان تدمير قوات منظمة المائة الحمر هو نهاية قتال مَهَّد السبيل لقتال آخر؛ لكنه كان منهَكًا جسديًّا.
كان جونزاليس قد غادر في صباح ذلك اليوم إلى باريس، وذهب بويكارت على متن قطار بعد الظهر، أما هو فكان سينضمُّ إليهما غدًا.
كان الجهد الجهيد للقتال قد بلغ من الثلاثة جميعهم مبلغه. من الناحية المالية، كانت تكلفة الحرب باهظة، لكن كان بمقدورهم تحمُّل ذلك الجهد على نحو أفضل من أي جهد آخر، إذ لو كان بحوزتهم ثروة، كورتلاندر؛ لكانوا يعرفون إلى من يلجَئُون في حالة الاحتياج.
كانوا قد فتشوا في العالم كله قبل أن يجتمعوا — رجال العدالة الأربعة الأوائل — معًا؛ مانفريد، وجونزاليس، وبويكارت، والرجل الذي رقد إلى الأبد في القبر الذي تنمو فيه الزهور في بوردو. ومثل رجال يُقسِمون يمين الكهنوت، تغلبوا على آلام الحياة ومتاعبها. كان كل رجل كتابًا مفتوحًا للآخر، مفصِحًا عن أفكاره الأكثر سرية؛ إيمانًا منهم بالمشاركة الوجدانية، التي كانت الفكرةَ المسيطرة المتحكِّمة فيهم جميعًا.
كانوا قد جعلوا اسم رجال العدالة الأربعة شهيرًا أو سيئ السمعة (حسب وجهة نظرك) في سائر أنحاء العالم المتحضر. صاروا قوة جديدة في الحياة العامة والخاصة. كان ثمة رجال، متحررون من قيود القانون، يتسببون في بؤس رفقائهم؛ غيلان بشرية مريعة تسمن بالاقتيات على أجساد وأرواح الأبرياء والمغلوبين على أمرهم؛ أقطاب عظيمة تستعين بالقانون، أو تُنحيه جانبًا حسبما تقتضي الظروف. كل هؤلاء أصبحوا خاضعين لقانون جديد، لسلطة قضائية جديدة. كانت قد نشأت أنظمة استعصت على التصحيح؛ مؤسسات فوق العقاب؛ أفراد محميون بتشريعات مرسومة بدهاء، وآخرون كانوا يعرفون بدقة حدَّ التسامح. باسم العدالة، كان هؤلاء الرجال يضربون ضربتهم بسرعة، وبلا عاطفة، ولا رحمة. قُتِل كبار المحتالين، والقوادون، ومحرضو الشهود، ومقدمو الرشوة للمحلَّفين.
لم يكن ثمة تدرج في العقوبة؛ تحذير، ثم تحذير ثانٍ، ثم القتل.
نتيجة لذلك، أصبح اسمهم رمزًا، يرتعد منه الأشقياء وهم يُمارسون عملهم، تملؤهم الرهبة من التحذير ومستعدون في معظم الحالات للانصياع له. صارت الحياة أحلى، وأسلم لكثير من الرجال الذين وجدوا المظروف الرمادي المخضر الرفيع على مائدة إفطارهم في الصباح؛ لكنَّ آخرين أصروا على متابعة طريقهم، مطبقين جهرًا القانون، الذي كانوا قد تعدَّوا عليه، إن لم يكن من حيث النصُّ فمن حيث الروح. كانت النهاية مؤكدة تمامًا، ولا أعرف رجلًا واحدًا نجا من العاقبة.
في إطار التكهن بهُويتهم، جزمت شرطة العالم بالإجماع بأمرَين. كان الأول أن هؤلاء الرجال أثرياء ثراءً فاحشًا؛ وهو ما كان صحيحًا بالفعل، والثاني أن واحدًا أو اثنَين منهم لم يكونا من العلماء الأوغاد؛ وذلك أيضًا كان صحيحًا. أما بشأن الرجل الرابع الذي انضم إليهم مؤخرًا، فقد سلك التكهن منعطفًا أوسع. ابتسم مانفريد عندما فكر في هذا العضو الرابع، وفي أمانته، ومميزاته الوجدانية والعقلية الرائعة، وحماسه، وميله إلى «الانحدار من بعد توازن»؛ كان جونزاليس هو من صاغ تلك العبارة. كانت ابتسامة حنونة. فلم يعد الرجل الرابع منتميًا إلى الأخوية؛ كان قد ذهب؛ إذ كانت المهمة قد اكتملت، ولم يكن ثمة أسباب أخرى.
هكذا كان مانفريد يتفكر، حتى دقت الساعة الصغيرة الموضوعة على رف المدفأة معلنةً العاشرة، ثم أشعل النار تحت غلاية القهوة وصب فنجانًا آخر من القهوة. وبينما هو منهمك في هذا، سمع صوت الرنين البعيد لجرس الباب وصوته وهو يُفتَح. ثم سمع صوت همهمات والصعود درجتين على السلالم. لم يكن ينتظر زوَّارًا، لكنه كان مستعدًّا لهم دومًا في أي وقت.
قال، ردًّا على الطَّرق على الباب: «ادخل.» مَيَّز الطرقة المعتذرة لمدبرة المنزل.
«سيدة، سيدة أجنبية تُريد رؤيتك.»
قال بلطف: «أدخليها، من فضلِك.»
كان منشغلًا بالغلاية عندما دخلت. لم يرفع رأسه لينظر، ولا سأل عن هُوية القادم. وقفت مدبرة منزله للحظةٍ حائرةً على عتبة الباب، ثم خرجت، وتركتهما معًا.
قال: «أستمحيكِ عذرًا لدقيقة. من فضلكِ اجلسي.»
صب القهوة بيد ثابتة، وسار إلى مكتبه، وأخذ يفرز عددًا من الخطابات، وألقى بها في الموقد، ووقف لحظةً يُراقبها تحترق، ثم نظر إليها.
لم تُعِر الفتاة انتباهًا لدعوته لها بالجلوس، ووقفت منتظرةً في استرخاء، واضعةً إحدى يدَيها على عجيزتها والأخرى متدلية بحرية.
سألها مجددًا: «ألن تجلسي؟»
قالت باقتضاب: «أُفَضِّل الوقوف.»
قال: «إذن أنتِ لستِ متعبةً كشأني.» وعاد للجلوس غائصًا في مقعده.
لم ترد، ولبضع ثوانٍ لم يتكلم أيٌّ منهما.
قال مازحًا: «هل نسيت امرأة جراتس أنها خطيبة؟» بدا له أنه كانت ثمة لهفة كبيرة في تلكما العينَين، وغيَّر من لهجته.
قال بلطف: «اجلسي، يا ماريا.» لاحظ التورد الذي ظهر على وجنتَيها، وأساء فهم مغزاه.
أسرع يُصحح الانطباع قائلًا: «لا، لا! أنا جادٌّ الآن، لستُ أتهكم، لماذا لم تذهبي مع الآخرين؟»
قالت: «لديَّ عمل يتعين عليَّ القيام به.»
مد يدَيه في حركة تدل على الإرهاق.
قال بابتسامة مريرة: «عمل، عمل، عمل، ألم ينتهِ العمل؟ ألا توجد نهاية لعملك هذا؟»
قالت وهي تنظر إليه بطريقة غريبة: «النهاية قريبة.»
قال لها بلهجة آمرة: «اجلسي.» واستقرت في أقرب مقعد وأخذت تنظر إليه.
ثم كسرت الصمت.
سألته ببعض الغضب: «ما كُنهك؟ من أعطاك «السُّلْطَة»؟»
ضحك من قولها.
«كُنهي، مجرد رجل، يا ماريا. السُّلْطَة؟ كما تفهمينها، لا أحد.»
أخذت تُفكر برهة.
قالت: «لم تسألني عن سبب مجيئي.»
«لم أسأل نفسي، لكن يبدو طبيعيًّا أن نلتقيَ أنا وأنتِ مجددًا، لنفترق.»
سألته فجأة: «ماذا يدعونك؟ أقصد أصدقاءك. هل يقولون «الرجل ذو اللحية» أم الرجل الطويل؟ هل اعتنت بك أي امرأة من قبل وخاطبتك باسم؟»
مر ظل على وجهه لثانية.
قال بهدوء: «أجل. قلت لكِ إنني إنسان؛ لستُ شيطانًا ولا نصفَ إله، ولم أُولَد من زبَد البحر أو مِرجَل الساحرات.» ثم ابتسم، وأضاف: «لكن ابن أبوَيْن أرضيَّين، والرجال يدعونني جورج مانفريد.»
كررت الاسم كما لو كانت تتعلم درسًا: «جورج. جورج مانفريد.» نظرت إليه طويلًا وبجدية، وتجهمت.
سألها: «ما الذي ترينه ويثير استياءكِ؟»
قالت بسرعة: «لا شيء. كل ما في الأمر أنني، لا يُمكنني أن أفهم، أنت مختلف …»
«عما توقعتِ.» أحنَت رأسها كناية عن الموافقة. «توقعتِ مني أن أُظْهِر الانتصار، أن أضع نفسي في موقف دفاع؟» أومأت برأسها إيجابًا مجددًا.
تابع يقول: «لا، لا، لقد انتهى ذلك. أنا لا أسعى وراء انتصار، أنا أشعر بالارتياح لأن قوة أصدقائك تفتتت. وأنا أنأى بكِ عن مذلة هزيمتهم.»
قالت بتحدٍّ: «أنا لستُ أفضل ولا أسوأ منهم.»
قال بجدية: «ستكونين أفضل عندما يزول الغضب، عندما تُدركين أن شبابك لم يكن مقدرًا له أن يكون من أجل تضحية الأناركية المريعة.»
مال إلى الأمام وأخذ يدها المرتخية وأمسك بها بين راحتَيه.
قال بنعومة: «يا طفلتي، يجب أن تتركي هذا العمل. انسَي كابوس ماضيكِ، أخرجيه من ذهنك، حتى يصل بكِ الأمر إلى الاعتقاد بأن المائة الحمر لم يكن لهم وجود مطلقًا.»
لم تسحب يدها من يده، ولا حاولَت أن تُوقِف الدموع التي انهمرت من عينَيها. شيء ما كان قد دخل إلى روحها، تأثير فاق كل وصف أو تعريف. كان عاملٌ رائع قد أذاب الشيء المصنوع من الجرانيت أو الفولاذ، الذي كانت تعتقد بسذاجة أنه قلبها، وتركها ضعيفة ومهتزة في أثناء ذلك.
كم كان صوته ناعمًا وهو يقول: «ماريا، لو أنك عرفتِ يومًا حب الأم، فكري في ذلك؛ هل أدركتِ يومًا ماذا كانت حياتكِ الصغيرة تُمثل لها؟ كيف خططَت وفكرت وعانت من أجلكِ؟ ولماذا؟ من أجل أن تقف اليدان اللتان قبَّلَتهما ضد حياة البشر! هل دعت الرب أن يحفظك بصحة وعافية وروح طاهرة حتى تُصبح نعمه لعنة على عالمه الجميل؟»
بحنوِّ أبٍ اجتذبها إليه، حتى صارت على ركبتَيها أمامه ووجهها النائح مضموم إلى جسده.
كانت ذراعاه القويتان تُحيطان بها، ويده تُمسد على شعرها.
قالت وهي تنشج: «أنا امرأة شريرة، امرأة شريرة، شريرة.»
قال بحزن: «صهٍ؛ لا تجعلينا نستقي مفهومنا عن الشر من أفعالنا، وإنما من نوايانا، مهما كانت خاطئة، ومهما كانت تتجاوز القانون المكتوب.»
لكن نشيجها ازداد، وتشبثت به كما لو كانت تخشى أن يتركها.
خاطبها كما لو كانت طفلة خائفة، موبخًا إياها تارة، وساخرًا منها بمداعبة لطيفة تارة، وازداد هدوءُها، وبعد قليل رفعت وجهها الملطخ ناظرةً إليه.
قالت: «اسمع، أنا، أنا، آه، لا أستطيع، لا أستطيع أن أقولها.» وأحنت رأسها ودفنت وجهها في صدرها.
ثم بصعوبة رفعت رأسها مجددًا.
«لو رجوتك، لو توسلت إليك أن تفعل شيئًا من أجلي، هل تفعله؟»
نظر إلى عينَيها، مبتسمًا.
«لقد فعلتَ أشياء كثيرة، لقد قتلتَ، أجل، أجل، دعني أقولها، أعرف أنني أُولمك، لكن دعني أُكْمِل.»
قال ببساطة: «أجل، لقد قتلت.»
«هل شعرت بالأسى على أحدهم وأنت تقتله؟»
هز رأسه إيجابًا.
تابعت، وقد أثرت فيه معاناتها: «ومع ذلك يُمكن أن تقتل إذا اعتقدت أنه يُمكن أن تقتل جسدًا وتنقذ روحًا.»
هز رأسه إيجابًا من جديد.
همست: «أجل، أجل.» وحاولت أن تتكلم. حاولت مرتَين أن تصوغ الكلمات، وفشلت في المرتَين. ثم تراجعت ببطء إلى الوراء وهي تضع يدَيها على صدره، وجثت أمامه وشفتاها متباعدتان وصدرها يعلو ويهبط.
قالت لاهثة: «اقتلني؛ لأنني خنتك لصالح الشرطة.»
ظل ساكنًا دون أن يُبديَ أي إشارة، جالسًا هناك متكومًا تمامًا على المقعد الضخم، كما لو أن كل عضلة في جسده قد ارتخت.
صاحت بعنف: «هل تسمعني؟ لقد خنتك لأنني، أظن، أنني أحبك، لكنني، لم أكن أعرف هذا، لم أكن أعرف هذا! لقد كرهتك لدرجة أنني شعرت بالأسى لأجلك، ودائمًا ما فكرتُ فيك!»
كانت تعرف من نظرة الألم في عينَيه مقدار المعاناة التي سببَتها له كلماتها.
بطريقة ما تكهنت بأن ألم الخيانة أقل.
همست: «لم أُحدث نفسي بذلك قط. لم أُفكر في ذلك قط في أكثر أفكاري سريةً، ومع ذلك، كان موجودًا، كان موجودًا طوال الوقت، منتظرًا الإفصاح عنه، وأنا أشعر بسعادة أكبر، رغم أنك ستموت، ورغم أن كل ساعة في حياتي ستكون بمثابة حياة كاملة من الألم، أشعر بسعادة أكبر لأنني قلتها، أشعر بسعادة أكبر لأنني ظننت أنني لن أستطيع أبدًا أن أفعل.
لقد تساءلت لماذا تذكرتك، ولماذا فكرت فيك، ولماذا تأتي في كل أحلامي. ظننت أن هذا لأنني كنت أكرهك، لأنني أردت أن أقتلك، وأن أضعك تحت رحمتي، لكنني أعرف الآن، أعرف الآن.»
ترنحَت يمينًا وشمالًا، ويداها متشابكتان في خضم ألمها.
صاحت: «ألا تتكلم؟ ألا تفهم، يا حبيبي؟ لقد سلمتك للشرطة، لأنني، يا إلهي! لأنني أحبك! لا بد أن أفعل ذلك!»
مال إلى الأمام ورفع يدَيه وأقبلت عليه وهي تكاد يُغشى عليها.
تمتم قائلًا: «ماري، يا طفلتي.» ورأت كم كان شاحبًا، «إننا في موقف غريب، أن نتحدث أنا وأنتِ عن الحب. يجب أن تنسي هذا، يا صغيرتي؛ دعي هذا يكون موضع استيقاظكِ من حلمكِ السيئ؛ امضي في حياتِكِ الجديدة، في حياة فيها الأزهار تتفتح، والطيور تُغني، وفيها الراحة والسلام.»
لم تكن تُفكر حينئذٍ سوى في الخطر الذي كان واقعًا فيه.
قالت بأنين: «إنهم بالأسفل. لقد أحضرتُهم إلى هنا، لقد أرشدتهم إلى مكانك.»
نظر إلى وجهها مبتسمًا لها.
قال: «كنتُ أعرف.»
نظرت إليه غير مصدقة.
قالت ببطء: «كنتَ تعرف.»
«أجل، عندما أتيتِ.» وأشار إلى كومة الأوراق المحترقة في الموقد «كنتُ أعرِف.»
سار إلى النافذة ونظر إلى الخارج. شعر بالرضا مما رآه.
عاد إلى حيث كانت جاثيةً على الأرض ورفعها ليُوقفها على قدَمَيها.
وقفت مترنحةً، لكنه سندها بذراعه. أخذ يُنصت، وسمع صوت الباب بالأسفل وهو ينفتح.
قال مجددًا: «يجب ألا تُفكري فيَّ.»
هزت رأسها في عجز، وارتعشت شفتاها.
قال في توقير: «ليُبارككِ الرب ويُعاونْكِ.» وقبَّلَها.
ثم استدار ليُواجه فالموث.
قال الشرطي: «جورج مانفريد.» ونظر إلى الفتاة في حيرة.
قال مانفريد بهدوء: «ذاك اسمي. أنت المحقق فالموث.»
صحح الآخر قوله قائلًا: «المفتش.»
قال مانفريد: «أنا آسف.»
قال فالموث: «يتعين عليَّ أن أقبض عليك للاشتباه في كونك عضوًا في تنظيم يُعْرَف باسم رجال العدالة الأربعة، وبناءً عليه فأنت متورط في الجرائم التالية …»
قال مانفريد: «سأُعفيك من تلاوة التهم.» ورفع يدَيه أمامه. للمرة الأولى في حياته شعر ببرودة المعدن الصلب على معصمَيه.
كان الرجل الذي يضع الأصفاد في يدَيه عصبيًّا ووضعها بغير إتقان، وبعد أن نظر مانفريد إلى القيد باهتمام، رفع يدَيه.
وقال: «هذا ليس مقفلًا بإحكام.»
ثم، وهم يقتربون محيطين به، استدار نصف استدارة نحو الفتاة وابتسم.
قال بنعومة: «من يعرف كم ستكون الأيام المقبلة مشرقةً لكلَينا؟»
ثم أخذوه ومضَوا.