«المؤمنون العقلانيون»
في غرفة الجلوس المؤثثة تأثيثًا أنيقًا في شقة في منطقة ويست كينسينجتون، جلس جونزاليس وبويكارت يُدخن كلٌّ منهما سيجارًا بعد تناول الطعام، وكلٌّ منهما منشغل بأفكاره. رمى بويكارت سيجاره في المدفأة وأخرج غليونه المصقول المصنوع من خشب الورد البري وعبأه ببطء من كيس ضخم. راقبه ليون بجفنَين نصف مفتوحَين، مُجَمِّعًا المعلومات القليلة التي كان قد التقطها من ملاحظته المستمرة.
قال: «إن العاطفة تطغى عليك، يا صديقي.»
نظر بويكارت إليه نظرة تساؤل.
«لقد كنت تُدخن دون وعي سيجارًا خاصًّا بجورج. وعندما دخنت نصف السيجار لاحظتَ أنَّك لم تكن قد نزعت الشريط المحيط بالسيجار، فبدأت في تمزيقه منتزعًا إياه. فعرفت من الشريط أنه من النوعية المفضلة لجورج، وبدأ ذلك تداعيًا للأفكار جعلك تشعر بأن السيجار مقزز، فرميته.»
أشعل بويكارت غليونه قبل أن يُجيب.
قال بصراحة: «كلام مثل ما تحتويه مجلة بوليسية صغيرة رخيصة. لقد كنتُ مدركًا أنه يخص جورج إن كنت تريد أن تعرف، وبدافع من ولائي المفرط له كنت أُحاول أن أُدخنه؛ وعندما فرَغت من تدخين نصفه، خَلُصتُ على مضض إلى أن للصداقة حدودَها؛ أنت الذي طغت عليك عاطفتك.»
أغمض جونزاليس عينَيه وابتسم. تابع بويكارت حديثه بخبث: «توجد مقالة نقدية أخرى في صحيفة «ذي إيفنينج ميرور تونايت»، هل رأيتها؟»
هز جونزاليس المستلقي رأسه نفيًا.
تابع بويكارت في قسوة: «تقول إن المؤلف الذي يستطيع أن يجعل المغرب مملة مثلما فعلتَ، يُمكن أن يجعل …»
تمتم جونزاليس ناعسًا: «كفى.»
جلسا لعشر دقائق، وكان يكسر الصمت صوتُ تكتكة الساعة الصغيرة الموضوعة على رف المدفأة والنفثات الرتيبة المتصاعدة من غليون بويكارت.
تكلم جونزاليس وعيناه مغمضتان قائلًا: «يبدو لي أن جورج في وضعية معلم وضع لتلميذَيه مسألة صعبة لحلها، واثقًا تمام الثقة من أنهما سيتجاوزان كل العقبات ويُقدمان الحل، رغم صعوبة الأمر.»
قال بويكارت: «ظننتك نائمًا.»
قال جونزاليس بهدوء: «لم أكن أكثر يقظة أبدًا مما أنا الآن. أنا فقط أُرتب التفاصيل في ذهني. هل تعرف السيد بيتر سويني؟»
قال بويكارت: «لا.»
«هو عضو في مجلس بلدة تشيلمسفورد. إنه رجل عظيم وصالح.»
لم يردَّ بويكارت.
«إنه أيضًا رئيس وواجهة حركة «الإيمان العقلاني»، التي ربما تكون قد سمعت بها.»
قال بويكارت مصرحًا، بفتور ولكن باهتمام: «لم أسمع بها.»
أوضح جونزاليس بنعاس: ««المؤمنون العقلانيون» هي حركة منبثقة عن الموحدين الجدد، والموحدون الجدد هم خليط متنوع من الناس الذين يشعرون بالظلم.»
تثاءب بويكارت.
تابع جونزاليس: «لدى المؤمنين العقلانيين مهمة في الحياة، ولديهم أيضًا فرقة نُحاسية، ومجموعة من أغانٍ هي محض هراء، يُؤلِّفها، ويطبعها، ويُوزعها مجانًا السيد بيتر سويني، وهو رجل يتمتع بالثراء والنفوذ.»
لزم الصمت بعد هذا طيلة دقيقة تقريبًا.
«مهمة في الحياة، وفرقة نُحاسية صاخبة لطيفة، يتلقى أعضاؤها رواتب شهرية، بحق القديس بيتر.»
أدار بويكارت رأسه ونظر إلى صديقه بفضول.
سأله: «علامَ كل هذا؟»
تابع جونزاليس برتابة: ««المؤمنون العقلانيون» هم تلك النوعية من الناس التي كانت طيلة الزمان — وما زالت — أقلية للأبد. إنهم يرفضون أمورًا؛ يرفضون الحانات، ويرفضون القاعات الموسيقية، ويرفضون أكل اللحم، والتطعيم، وعقوبة الإعدام.» وكررها بصوت خفيض.
تريث بويكارت.
منذ سنوات مضت كان يُنْظَر إليهم كمصدر إزعاج، فكان المشاغبون يفضون اجتماعاتهم؛ ولاحقتهم الشرطة لإعاقتهم لعملها، وزُجَّ ببعضهم في السجن وخرجوا من جديد، وقد قُدِّموا بهالات جُدِّدَت حديثًا في وجبات إفطار يُقَدَّم فيها اللحم، يترأسها بيتر.
«الآن تجاوزوا ما تعرضوا له من اضطهاد — فالاستشهاد لا يُشترى بثمن بخس — وهم مؤسسة مثل ماكينة الغزل الآلية والاشتراكية العصرية — وهو ما يُثْبِت أنه إذا ظللت تفعل أمورًا كثيرة بما يكفي وباستمرار، قائلًا بصوت عالٍ: «من أجل الصالح العام»، سيصدقك الناس ويصدقون تقييمك، وسيتسامحون معك.»
كان بويكارت عندئذٍ يُنصت بانتباه.
«هؤلاء الناس يتظاهرون، إن بيتر ميسور الحال حقًّا، ولديه الكثير من الممتلكات رديئة الحال، واجتذب سيدات وسادة أثرياء آخرين إلى الحركة. إنهم يتظاهرون في جميع المناسبات. لديهم أناشيد — بيتر يدعوها «أناشيد»، وهو اختلاف لطيف، يُضفي عليهم صبغة شبه علمانية — لهذه اللحظات الاحتفالية، أناشيد من أجل بلبلة القائمين بالتطعيم، وآكلي الحيوانات، وما إلى ذلك. لكن أكثر «قداسات الاحتجاج» التي يقومون بها إتقانًا، وكمالًا على نحو جميل، هو الذي يُرتب خصيصى للتعبير عن فزعهم واشمئزازهم من عقوبة الإعدام.»
كان توقفه عن الكلام طويلًا؛ حتى إن بويكارت تدخل بنفاد صبر …
«وماذا بعد؟»
قال ليون مفكرًا: «كنت أحاول أن أستحضر النشيد. إن أسعفتني الذاكرة بأحد مقاطعه يقول …
قال جونزاليس بتسامح: «البيت الأخير غامض إلى حد التفاهة، لكنه يُعَبِّر بإيحاء رقيق عن المغزى الأخلاقي من القصيدة. تحوي القصيدة بيتًا آخر غائبًا الآن عن ذاكرتي، ولكن لعلي أتذكره لاحقًا.»
قام فجأة من رقدته وجلس وانحنى إلى الأمام، واضعًا يده على ذراع بويكارت.
«عندما كنا نتكلم عن، خطتنا منذ بضعة أيام تكلمتَ عن أعظم خطر يُواجهنا، الشيء الوحيد الذي لا يُمكننا تجنبه. ألا يبدو لك أن «المؤمنين العقلانيين» يُقدمون حلًّا بحملاتهم المشاكسة، ومظاهراتهم، وفرقتهم النحاسية، وأناشيدهم السخيفة؟»
أخذ بويكارت يسحب بانتظام أنفاسًا من غليونه.
قال: «أنت رجل رائع، يا ليون.»
سار ليون إلى الدولاب، وفتحه، وأخرج حافظة أوراق مثل تلك التي يحمل فيها الرسامون رسوماتهم. فك الأربطة وقلَّب في الصفحات المنفصلة. كانت مجموعة كلفت رجال العدالة الأربعة وقتًا وقدرًا كبيرًا من المال.
سأل بويكارت: «ماذا ستفعل؟» بينما جلس الآخر، خالعًا معطفه، ومثبتًا نظارته الأنفية، أمام مخطط كبير أخرجه من حافظة الأوراق. التقط ليون قلم رسم ذا سنٍّ دقيقة من المائدة، وفحص طرفه بعين فنان ماهر، وبحرص انتزع سدادة زجاجة حبر مهندس معماري.
تساءل: «هل شعرت يومًا برغبة في رسم جزر خيالية؟ مسميًا خلجانك، ومانحًا أسماءً لرءوسك البحرية، ومنشئًا مدنًا بجرة من قلمك، ورافعًا جبالًا عظيمة «بضربات» متعرجة من ريشتك؟ لأنني سأفعل شيئًا مثل ذلك، أشعر بأنني في تلك الحالة التي يُوصَف فيها الصبية ببلاغة بأنهم «يُجربون»، ولديَّ الرغبة في أن أزعج سكوتلاند يارد.»
اكتشف فالموث أمر هذَين الرجلَين في اليوم السابق على المحاكمة. وتحريًّا للدقة، وُضِع هذا الاكتشاف في طريقه. فقد أبلغ مالك نُزُلٍ في شارع جاور أن رجلَين غامضَين استأجرا غرفتَين. وقد وصلا في ساعة متأخرة من الليل ومعهما حقيبة سفر عليها ملصقات أجنبية متنوعة؛ وحرَصا على إبقاء وجهَيهما في الظلمة، وكان من الواضح أن لحية أحدهما مزيفة. بالإضافة إلى ذلك فقد دفعا أجرة إقامتها مقدمًا، وتلك كانت أغرب ملابسة مُدِينة لهما من كل الملابسات الأخرى. تخيل مالكًا لنُزُل، يُرشدهما لغرفتَيهما، وهو يرتعد من الشك الكبير الذي يُساوره، مستحضرًا كامل قدراته على التظاهر، مبالغًا في إظهار عدم الاكتراث، ويُريد بفارغ الصبر أن ينقل الخبر إلى مركز الشرطة المجاور. فقد كان أحدهما يدعو الآخر ليون، وتبادلا الحديث بهمس مسموع عن «مانفريد المسكين» في يأس.
خرجا معًا، قائلَين إنهما سيعودان بعد منتصف الليل بقليل، معطِيان تعليمات بإشعال نار المدفأة في غرفتهما؛ لأن الجو في الليل كان ماطرًا وقارسًا.
بعد نصف ساعة كانت القصة بكاملها تُروى لفالموث عبر الهاتف.
كان تعليقه هو أن «هذا أروع من أن يُصَدَّق»، لكنه أعطى تعليمات. بحلول منتصف الليل كان النُّزُل مطوقًا كما يجب، لكن ببراعة بحيث ما كان المار العادي سيشك مطلقًا في ذلك. في الثالثة صباحًا، جزم فالموث بأن الرجلَين قد تلقَّيا تحذيرًا، واقتحموا بابَي غرفتَيهما ليفتشوهما. كان الشيء الوحيد الذي عثروا عليه هو حقيبة السفر. كان كل ما عثروا عليه هو بعض قطع الثياب، التي تحمل بطاقة خياط باريسي، حتى عرف فالموث، وهو يُفتش قاع حقيبة السفر، أنه قاع زائف.
قال: «مرحى!» وكان الهتاف، في ضوء أهمية اكتشافه، معتدلًا في قوته؛ إذ إنه وقع على المخططات، التي كانت مطوية بعناية، ومُخفاة بمكر. فحصها فحصًا سريعًا وأطلق صفيرًا. ثم طوى تلك المخططات ووضعها بحرص في جيبه.
أعطى أوامره قائلًا: «أبقوا المنزل تحت الملاحظة. لا أتوقع أن يعودا، لكن إن فعلا، فاقبضوا عليهما.»
ثم انطلق عبر الشوارع الخالية بسرعة كتلك التي كان بوسع سيارة أن تنطلق بها حاملة إياه، وأيقظ رئيس الشرطة من نوم عميق.
تساءل وهو يقود المحقق إلى غرفة مكتبه: «ما الأمر؟»
أطلعه فالموث على المخططات.
رفع رئيس الشرطة حاجبَيه، وأطلق صفيرًا.
قال فالموث معترفًا: «ذلك ما قلته.»
بسط رئيس الشرطة المخططات على طاولة كبيرة.
قال رئيس الشرطة: «واندزورث، وبينتوفيل وريدينج. مخططات، ومخططات جيدة بدرجة ملحوظة، للسجون الثلاثة جميعها.»
أشار فالموث إلى الكتابة التي كانت بخط يدوي تصعب قراءته والخطوط المرسومة باعتناء بواسطة مسطرة والتي رُسِمَت بحبر أحمر.
قال رئيس الشرطة: «نعم، أراها.» وقرأ ما كان مكتوبًا: «سُمك الجدار ٣ أقدام، ديناميت هنا، حارس في الخدمة هنا، يُمكن إطلاق النار عليه من الجدار، المسافة حتى دخول ساحة السجن ٢٥ قدمًا؛ زنزانة المحكوم عليه بالإعدام هنا، الجدران ٣ أقدام، نافذة واحدة، عليها قضبان على ارتفاع ١٠ أقدام و٣ بوصات من الأرض.»
«لقد خططوا للأمر على نحو ممتاز، أي سجن هذا، واندزورث؟»
قال فالموث: «الأمر نفسه في حالة السجنَين الآخرَين، يا سيدي. لقد توصلوا إلى المسافات، والارتفاعات والمواقع؛ لا بد أنهم قد استغرقوا سنوات للوصول إلى هذه المعلومات.»
قال رئيس الشرطة: «ثمة أمر واحد جلي، أنهم لن يفعلوا شيئًا إلا بعد المحاكمة، فكل هذه المخططات رُسِمَت وكان الهدف فيها هي زنزانة المحكوم عليه بالإعدام.»
في الصباح التالي تلقى مانفريد زيارة من فالموث.
قال: «عليَّ أن أُخبرك، يا سيد مانفريد، أن لدينا في حوزتنا تفاصيلَ كاملة عن عملية تحريرك المزمعة.»
بدا مانفريد متحيرًا.
«الليلة الماضية هرب صديقاك في اللحظة الأخيرة، تاركَين وراءهما مخططات مفصلة …»
سأله مانفريد، بابتسامته الخاطفة: «مكتوبة؟»
قال فالموث: «مكتوبة. أعتقد أن من واجبي أن أُخبرك بهذا؛ لأنه يبدو أنك تعتمد أكثر مما ينبغي على ما هو عمليًّا أمر مستحيل، وهو الهروب من السجن.»
أجاب مانفريد بشرود ذهن: «نعم، ربما يكون ذلك صحيحًا، أظن أنك قلت إنها مكتوبة.»
«أجل، كل شيء كان محسوبًا.» واعتقد أنه قد قال ما يكفي، وغيَّر الموضوع. «ألا تظن أن عليك أن تُغير رأيك وتُوَكِّل محاميًا.»
قال مانفريد ببطء: «أظن أنك على حق. أيُمكنك أن تُرتب لي مقابلة مع عضو في مؤسسة محترمة؟»
قال فالموث: «بالتأكيد، مع أنك قد تركت حقك في الدفاع …»
قال مانفريد بمرح: «أوه، إنه ليس من أجل دفاعي؛ كل ما في الأمر أنني يجب أن أضع وصية.»