جيسين، الشهير باسم لونج
مجددًا امتلأت الصفحة الأولى من كل صحيفة يومية لندنية كبيرة بقصة «رجال العدالة الأربعة».
قال محرر صحيفة «ميجافون» بحزن: «ما أريده هو نوع من الدعاية الرسمية من «الأربعة»؛ نوع من التصريح الملهم الذي يُمكننا أن نُفرد له ستة أعمدة.»
نشق تشارلز جاريت، المراسل «النجم» لصحيفة «ميجافون»، الذي كانت قبعته على مؤخر رأسه، وعينه تبدو غير منتبهة مثبتة على الثُّريا.
نظر المحرر إليه متأملًا.
«قد يستطيع رجل ذكي أن يتصل بهم.»
قال تشارلز، ولكن دون حماس: «نعم.»
قال المحرر متأملًا: «لو لم أكن أعرفك لقلت إنك خائف.»
قال تشارلز دون خجل: «أنا كذلك بالفعل.»
قال المحرر بحزن: «لا أريد أن أُوكل هذه المهمة إلى مراسل أصغرَ سنًّا. سيبدو هذا سيئًا في حقك؛ لكن يُؤسفني القول إنه يجب أن أفعل.»
قال تشارلز بحيوية: «افعل، افعل، وسأُسهِم بعشَرة شلنات لشراء إكليل الزهور الذي ستضَعونه على قبره.»
غادر المكتب بعد ذلك ببضع دقائق وشبحُ ابتسامة يعلو زوايا فمِه، وبتصميم راسخ في أعمق أعماق قلبه وأكثر تجاويفه سريةً. كانت تلك هي شيمةَ تشارلز الذي، بعد أن أثبت بحزم لا يلين حقَّه في رفض عملٍ ذي طبيعة خطرة، سيضطَلِع بمحض إرادته بالمهمة التي كان قد عارضها رسميًّا. من المحتمل أن رئيسه كان يعرفه مثلما يعرف نفسه؛ إذ عندما خرج تشارلز مغاضِبًا من المكتب، وهو يُصدر من أنفه زفرةَ تحدٍّ أخيرة، انعكست الابتسامة، التي ظهرت على شفتَيه، على وجه المحرر.
بينما كان تشارلز يسير عبر ممرات مقر صحيفة «ميجافون» التي يتردد فيها الصدى، كان يُصفر تلك الأغنية الشهيرة والساخرة، التي تقول فيها كلمات الجوقة:
بعد قليل، وجد نفسه في شارع فلييت، وبينما كان واقفًا عند حافَة الرصيف، أجاب نظرة متوقعة من سائق سيارة الأجرة بإشارة من رأسه.
سأله السائق: «إلى أين، يا سيدي؟»
«٣٧ شارع بريسلي، والورث؛ دُر حول «بلو بوب» واسلك المنعطف الثاني يسارًا.»
بينما كان يعبر جسر ووترلو خطرَ له أن سيارة الأجرة قد تلفتُ الانتباه؛ لذا في منتصف الطريق عبر طريق ووترلو أعطى أمرًا آخر، وبعد أن صرف السيارة، مشى بقية الطريق على قدمَيه.
قرع تشارلز باب البناية رقم ٣٧ في شارع بريسلي، وبعد قليل من الانتظار تردد صوتُ خطوة ثابتة في الممر، وانفرج الباب قليلًا. كان الممر مظلمًا، لكن كان بوُسعه أن يرى على نحو غير واضح الهيئةَ المكتنزة لرجل وقف ينتظر بصمت.
سأل: «هل أنت السيد لونج؟»
قال الرجل باقتضاب: «أجل.»
ضحك تشارلز، وبدا أن الرجل تبين الصوت وفتح الباب فتحةً أوسعَ قليلًا.
سأل في دهشة: «ألست السيد جاريت؟»
قال تشارلز: «هذا أنا.» ودخل إلى المنزل.
توقَّف مضيفه ليُحْكِم غلق الباب، وسمع تشارلز صوتَ انطباق القُفل المزيت جيدًا وصوت حكَّة سلسلة. ثم باعتذار دفعه الرجل مارًّا به، وبعد أن فتح الباب، قاده إلى غرفة جيدة الإضاءة، وأشار إلى تشارلز لكي يجلس على مقعد عميق، وجلس هو بالقرب من مائدة صغيرة، وقلب صفحة كتاب من الواضح أنه كان يقرؤه، ونظر بتساؤل إلى زائره.
قال تشارلز: «جئت لكي أستشيرك.»
ربما كان من شأن رجل أدنى مكانةً من السيد لونج أن يكون وقحًا إلى حد كبير، لكن هذا الشاب — الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره، لكنه بدا أكبر — لم ينحدر إلى مستوًى كهذا.
قال مجيبًا: «أردتُ أن أستشيرك.»
كانت لهجته لهجةَ رجل يُخاطب ندًّا له، لكن كان ثمة شيءٌ في سلوكه يوحي بالإجلال.
تابع قائلًا: «لقد تكلمت معي بشأن ميلتون، لكنني أرى أنني لا أستطيع أن أقرأ له. أظن أن ذلك بسبب أنه ليس حسيًّا بما يكفي.» ثم توقف قليلًا عن الكلام. «الشعر الوحيد الذي أستطيع قراءته هو شعر الكتاب المقدس؛ وذلك لأن الحسية والروحانية ممتزجتان فيه ببراعة.»
ربما يكون قد رأى شبح الاهتمام على وجه الصحفي، لكنه توقف فجأة.
قال: «يُمكنني أن أتحدث عن الكتب في وقت آخر.» لم يُبدِ تشارلز النفي التقليدي، وإنما قَبِل تأويل الآخر للحاجة الملحة إلى الشأن الذي جاء من أجله.
قال تشارلز: «أنت تعرف الجميع، جميع الأسماك الغريبة في السلة، ونسبةٌ منها تعرفك، في الوقت المناسب.» أومأ الآخرُ برأسه بجدية.
تابع الصحفي: «عندما تفشل مصادر المعلومات الأخرى، لم أتردَّد يومًا في أن آتيَ إليك، يا جيسين.»
ربما يُلاحَظ أن الرجل الذي كان يُدعَى «السيد لونج» على عتبة المنزل أصبح «السيد جيسين» في حميميَّة الغرفة الداخلية.
قال بجدية: «أنا مدين لك بأكثر مما يُمكن أن تكون مدينًا به لي في أي وقت مضى؛ فقد وضعتني على المسار.» ولوَّح بيده في الغرفة كما لو كان صفاء الغرفة هو رمز ذلك المسار الذي تحدث عنه. «أتذكُر ذلك الصباح؟ إن كنت نسيت، فأنا لم أنسَ — عندما قلتُ لك إنه لكي تنسى — يجب أن أشرب؟ وأنت قلت …»
قال المراسل بهدوء: «لم أنسَ، يا جيسين؛ وحقيقةُ أنك أنجزتَ كل ما أنجزتَه دليلٌ على أنه يوجد أشياء جيدة بداخلك.»
تقبَّل الآخر المديح دون تعليق.
تابع تشارلز: «والآن، أُريد أن أُخبرك بما كنتُ قد شرَعت في إخبارك به؛ أنا أتتبَّع قصة كبيرة. إنها قصة «رجال العدالة الأربعة»؛ هل تعرف كل شيء عنها؟ أرى أنك تعرف؛ حسنًا، لا بد أن أتصل بهم بطريقة ما. لا أتخيل للحظةٍ واحدة أنك تستطيع أن تُساعدني، ولا أتوقع أن يكون لهؤلاء الشباب أيُّ صلات وسط الناس الذين تعرفهم.»
قال جيسين: «ليس لديهم؛ لم أعتقد أن الأمر يستحق التقصيَ. أتريد أن تذهب إلى الرابطة؟»
زَمَّ تشارلز شفَتَيه في تفكير.
قال ببطء: «نعم، تلك فكرة؛ أجل، متى؟»
«الليلة، إن شئت.»
قال تشارلز: «الليلة إذن.»
نهض مُضيفه وغادر الغرفة.
عاود الظهور بعد قليل، وهو يرتدي مِعطفًا طويلًا داكنًا وحول عنقه وِشاح حريري أسود أكَّد على شحوب وجهه القوي المربَّع.
قال: «انتظر لحظة.» وفتح درجًا، أخذ منه مسدسًا دوَّارًا.
أدار خِزانة المسدس بحرص. وابتسم تشارلز.
سأله: «هل سيكون ذلك ضروريًّا؟»
هز جيسين رأسه نفيًا.
قال ببعض الحرج: «لا، ولكن، لقد تخليت عن كل حماقاتي وأهوائي، ولكن هذه ما زالت باقية.»
«خوف الاكتشاف؟»
أومأ جيسين برأسه إيجابًا.
«إنها الحماقة الوحيدة الباقية، هذا الخوف. إنه بمثابة الذبابة الملتصقة بالدهان.»
قاد الطريقَ عبر الممر الضيق، بعد أن أطفأ المصباح أولًا.
وقَفا معًا في الشارع المظلم، بينما كان جيسين يتأكد من أنه أحكم إغلاق المنزل.
قال: «الآن»، وبعد بضع دقائق وجَدا نفسَيهما وسط الفوضى الصاخبة لليلة انعقاد أحد الأسواق في طريق والورث.
تابعا السير في صمت، ثم انعطفا إلى شارع إيست ستريت، وشقا طريقهما بين المتسوقين المتسكِّعين، وتفاديا الأكشاك المعلقة عليها مصابيحُ نفطية متوهجة، وانعطفا انعطافًا حادًّا في شارع ضيق.
كان يبدو أن الرجلَين واثقان من معرفتهما بالمنطقة التي هما فيها؛ إذ كانا يسيران بسرعة وبدون تردد، وبعد أن اجتازا ساحة صغيرة تصل طريقًا رئيسيًّا كريهَ الرائحة بآخر، توقفا في الوقت نفسه معًا أمام بابٍ ما، بدا أنه مصنعٌ مهجور.
مد شابٌّ ذو وجهٍ بارزِ العظام، كان يجلس بجوار الباب ويتصرف كبواب، يده إلى الأمام وهما يدخلان، لكنه إذ تبينهما تراجع دون أن ينبس بكلمة.
صعدا درجات سلَّم سيِّئ الإضاءة قابلاه، وأرشد جيسين صديقه إلى قاعة ضخمة بعد أن فتح بابًا في أعلى درجات السُّلم.
كان المشهد الذي وقعت عليه عينا الصحفي مثيرًا للفضول. ومع درايته الجيدة ﺑ «الرابطة»، وبتكوينها الاستثنائي، لم يكن قد وطئ بقدمه قبلئذٍ داخلَ بوابتها. ونظرًا إلى استناده في انطباعه إلى معرفته بأندية العمال والمؤسسات الخيرية التي تعمل على إعادة إنعاش الشباب المتدهور، أغفل طاولة البلياردو ذاتَ الوجود الحتمي، وأغفل أيضًا الطاولة المتناثر عليها أعمالٌ أدبية مضى على صدورها شهر، ولكن الأهم من ذلك كله أنه أغفل رائحة القهوة المجانية.
كانت الأرض مغطَّاة بنشارة الخشب، وبالقرب من نار المدفأة التي كانت تُطقطِق وتتوهج في أحد أطراف الغرفة، كانت توجد دائرة غير مكتملة من المقاعد جلس عليها رجالٌ من أعمار متباينة. شبَّان يبدون مسنِّين ومسنُّون يبدون شبابًا، ورجال بملابسَ رثة، ورجال بهندام حسن، ورجال يرتدون ملابسَ لافتة للنظر ويتألقون بمجوهرات رديئة. وكانوا يتناولون الشراب.
تشارك شابان في إحدى نهايتَي قوس المقاعد قدحًا من ربع جالون من البيوتر؛ وأمسك الرجل ذو المظهر اللافت الذي طغى صوته على الحديث بكوب من الويسكي بيد يرتدي فيها خواتم، وكان مع الرجل، ذي اللحية البيضاء والوجه ذي النُّدوب الذي جلس محنيَّ الرأس منصتًا، كأسٌ من شراب كحولي ممتلئ بسائل عديم اللون حتى نصفه.
لم ينهض أحدٌ من مجلسه ليُحيِّيَ القادمين الجدد.
أشار الرجل ذو المظهر اللافت برأسه بلطف، وأرجع أحد الجالسين في الدائرة مقعده إلى الوراء ليُفسح مكانًا لجيسين.
قال الرجل ذو المظهر اللافت: «كنت فقط أقول …» ثم نظر إلى تشارلز.
أشار جيسين بما يُفيد بأنه «لا بأس.»
فتابع الرجل ذو المظهر اللافت: «كنت فقط أقول لهؤلاء الفتيان إنه بالمقارنة بشيء بآخر، توجد أماكنُ أسوأ من «السجن».»
لم يردَّ جيسين على هذا القول الدوجماتي، وتابع الرجل الذي يضع الخواتم حديثَه.
«وما نفع رجل يُحاول أن يكون مستقيمًا؟ ستقبض عليك الشرطة مع ذلك: عدم الإبلاغ بتغيير العنوان، التسكع عمدًا؛ لا يُهم ما تفعله إن كنت قد وقعت في المشاكل مرة؛ فمن المؤكد أنك ستقع فيها مجددًا.»
سرى صوتُ همهمة بالموافقة.
قال المتحدث بفخر: «انظروا لي. لم أُحاول مطلقًا أن أُصبح مستقيمًا، ودخلت السجن مرتَين واستلزم الأمر ستة من رجال الشرطة للإمساك بي آخرَ مرة، وتعين عليهم استخدامُ «العصا».»
نظر جيسين إليه بفضول طفيف.
«ما الذي يُثبته ذلك، عدا أن رجال الشرطة كانوا لينين جدًّا؟»
انتصب الرجل واقفًا وقال: «مطلقًا!»
تحت غطاء التأنق المبهرج، تبين تشارلز القوة الحيوانية للمجرم.
تابع الرجل قائلًا: «عجبًا، عندما أكون لائقًا، كحالي الآن، لا يستطيع شرطيان، ولا حتى أربعة، الإمساك بي.»
انطلقَت يد جيسين وأمسكت به من ساعِده.
قال مقترحًا: «حرِّر نفسك»، واستدار الرجل كالبرق، لكن جيسين أمسك بذراعه الأخرى بقبضة من حديد.
قال مجددًا: «حرِّر نفسك»؛ لكن الرجل كان بلا حول ولا قوة، وأدرك ذلك، وبعد توقف قصير أخلى جيسين سبيله.
تساءل: «كيف كان ذلك؟»
لم يخْجَل المقبوضُ عليه من ابتسامات تندُّر الرجال.
قال مفسرًا ببساطة: «السيد مختلف؛ فلديه مهارة خاصة لا تملكها الشرطة.»
سحب جيسين كرسيًّا، وأيًّا ما كان ذا دلالة ومغزًى في هذا التصرف، فقد كان كافيًا ليُسبب صمتًا فوريًّا.
جال بناظره في الوجوه المنتبهة التي كانت متجهة نحوه. رأى تشارلز، الذي كان مُشاهِدًا مهتمًّا، الوجوه المتلهفة التي مالت في اتجاه صديقه، وتعجب كثيرًا من المناقب المنتجة للبذرة التي زرعها.
بدأ جيسين يتكلم ببطء، ورأى تشارلز أن ما قاله اكتسى بطابَع خُطبة. كان واضحًا من الانتباه الذي كانت تُتلقَّى به خطب جيسين هذه أنها لم تكن أمرًا غير معتاد، وأنها كانت موضعَ ترحيب.
قال جيسين، مشيرًا إلى الرجل ذي الخواتم: «ما كان فالك يقوله لكم صحيح، إلى حد بعيد. ثَمة أماكنُ أسوأ من «السجن»، وصحيح أن الشرطة لا تُعطي رجلًا مسنًّا فرصة، ولكن ذلك لأن الرجل لن يُغير مهنته. ولن يُغير الرجل مهنته؛ لأنه لا يعرف أي صنعة أخرى يُمكنه أن يحصل منها على المال بهذه السرعة الكبيرة.» هز رأسه تجاه شابٍّ ذي مظهر واهن: «والي، والي هذا حُكِم عليه بالسجن من أجل ماذا؟ من أجل أغراض جلبَت ثلاثين جنيهًا من تاجر بضائع مسروقة. اثنا عشر شهرًا من الأشغال الشاقة مقابل ثلاثين جنيهًا! إن قيمتها تصل إلى ١٠ شلنات و٦ بنسات للأسبوع. وكلفه محاميه والناطق بلسانه خمسة جنيهات من ذلك المبلغ.» ثم أشار إلى الرجل ذي الرأس المكتسي بالشيب ويحمل شراب الجِن، قائلًا: «جارث العجوز سُجِن خمس سنوات مقابل ما هو أقلُّ من ذلك، وخرج منذ فترة وجيزة. وقيمة جزائه تصل إلى نحو شلن في الأسبوع.»
رصد الحركة الضجرة التي أتى بها فالك.
تابع بلين بسلاسة قائلًا: «أعرف أن فالك سيقول إن ما أقوله ليس من ضمن الصفقة؛ فعندما أعددتُ لإقامة «الرابطة»، تعهدت أنه لن يكون ثمة حديثٌ شخصي ولا غناء من قبيل «هلموا، يا جميع المؤمنين». الجميع يعرف أن الوجود في عالم الإجرام هو عمل أحمق لا يأتي بخير، ولا أريد أن أزيد الطين بلَّة. ما كنت وما زلت أقوله وأفعله دومًا هو في اتجاه جعلكم، أيها الرفاق، تجنون أموالًا أكثر من صنعتكم.
ثمة رجلٌ يكتب عن الجيش كان يُحاول أن يجعل الجنود يتعلمون مهنًا، وبدأ بدايةً صحيحة بجعل المجنَّدين غيرَ راضين عن مهنتهم؛ وذلك ما أُحاول فعله. ماذا فعلتُ مع إيزاك الشاب؟ لم أُوجِّه إليه مواعظ، ولم أُصلِّ من أجله. لقد كان آيك واحدًا من أفضل المحتالين في لندن. كان يصنع عملاتٍ من فئة نصف كراون من أواني البيوتر كان يستعصي كشفُها. كانت ذات رنةٍ حقيقية ولم تكن تنثني. حُكِم على آيك بثلاثة أعوام، وعندما خرج وجدتُ له عملًا. هل حاولت أن أجعله حطابًا، أو عاملًا يقود حيوانات الحراثة في منظمة جيش الخلاص؟ كلا. كان سيعود إلى الاحتيال بعد أسبوع لو كنتُ فعلت ذلك. جعلت شركة من صانعي الميداليات في بريمنجهام تضمه، وعندما وجد آيك نفسه وسط قوالب الجِصِّ والحمامات الكهربائية، واكتشف أنه يستطيع أن يعمل في مهنته بشرف، تمسَّك بها.»
زمجر فالك بسخط: «لسنا محتالين.»
تابع جيسين: «الأمر نفسُه في كل الفروع. كل ما في الأمر يا رفاق أنكم لا تعرفون ذلك. مثلًا، تلفيق الحكايات.»
لن يكون من الإنصاف متابعة جيسين عبر الخطاب المفصل الذي أثبت به على نحوٍ أرضى مستمِعيه أن النصَّاب هو بائع متجول بالسليقة. كان كثير من حججه باطلًا لا محالة؛ فقد تجاهل المبادئ الأولى، وتعامى عما بدا لمستمع ذكي مثل تشارلز عقباتٍ لا يُمكن تجاوزها في مخطط إعادة التأهيل. لكنَّ مستمعيه اقتنعوا. وتعزز الاقتناع لدى الرجال المتحلقين حول نار المدفأة مع متابعته. دخل رجال إلى الغرفة فُرادى، ومَثنى، وثُلاثَ، وانضموا إلى المجموعة عند المدفأة. كانت الأنباء قد ذاعت بأن جيسين يتحدث — كانوا يدعونه «السيد لونج»، بالمناسبة — ووصل بعض القادمين الجدد يلهثون، كما لو كانوا يُهرولون من أجل ألا يفوتهم أي جزء من الخطبة.
كان من المؤكد أن ذلك الداعيَ إلى السخط والتبرم قد نجح في أن يُدخل في عقول مستمعيه ذلك الاضطرابَ وعدم الرضا اللذَين اعتبرهما أساس قاعدة أخلاقية جديدة. فقد بدا على كل وجه من الوجوه طابَعُ الشك المتعمق.
بقدر ما كان الأمر كلُّه مثيرًا للاهتمام، لم يغِب عن بال تشارلز جاريت الغرضُ من زيارته، وتململ قليلًا بينما كان المتكلم يُتابع حديثه.
فور دخوله الغرفةَ كان قد استوعب العلاقة الدقيقة التي كان جيسين يُمثِّلها لتلاميذه. لم يكن جيسين الذي كان يعرفه يستطيع أن يطرح سؤالًا مباشرًا عن معرفتهم بمن يُدعَون «رجال العدالة الأربعة» دون إثارة شعور بالشك كان من شأنه أن يُقوِّض نجاح المهمة، ومن المؤكد أنه كان سيعرض وجود «الرابطة» نفسه للخطر.
عندما فرغ جيسين من الكلام، وبعدما أجاب عن عشَرة أسئلة انطلقت في الوقت نفسِه من عشَرة أشخاص، وبعدما أجاب عن الأسئلة التي أثارتها هذه الاستفسارات، عندئذٍ جاء استهلالٌ من شخص غير متوقَّع.
إذ، مع طابع الجدِّية الذي اتخذه اللقاء، سلكَت الأسئلةُ المنحى التهكميَّ الحتمي.
سأله فالك باستخفاف وبقعقعة ضحك بسيطة: «ما المهنة التي ستُعطيها لمن يدعون «رجال العدالة الأربعة»؟»
التقَت عينا الصحفي بعينَي المصلح لثانية، وعبْر عقلي كِلا الرجلَين سطعَت الإجابة. اختلج فمُ جيسين قليلًا، وصارت يداه القلقتَين أكثرَ اضطرابًا وهو يُجيب ببطء:
«إذا كان بوُسع أيِّ أحد أن يُخبرني بالضبط من هم «رجال العدالة الأربعة»؛ ما مجال عملهم بالتحديد، يُمكنني أن أُجيب عن ذلك.»
كان الرجل المسنُّ الذي يحتسي شرابَ الجِن في صمت هو من تكلم لأول مرة.
سأله: «هل تذكر بيلي ماركس؟»
كان صوته أجشَّ، كحال رجلٍ يستخدم صوته على فترات نادرة.
تابع قائلًا: «لقد مات بيلي ماركس، مات وشبع موتًا. كان يعرف «رجال العدالة الأربعة»؛ سرق ساعة أحدهم ومفكرته وكاد أن يسرقهم.»
كان ثَمة رجل يجلس بجوار فالك وكان يتطلع إلى تشارلز بانتباه مسترق.
عندئذٍ استدار إلى جيسين وتكلم في صلب الموضوع. قال: «لا تدَع أي أفكار تُراودك في رأسك بأن أمثالنا لن يكون لهم أيُّ صلة برجال العدالة الأربعة.» وتابع قائلًا: «عجبًا، يا سيد لونج، إن احتمال أن يتصل رجال العدالة الأربعة بك يُضاهي احتمال أن يتصلوا بنا؛ ومع كونك مسئولًا حكوميًّا، فالأمر محتمل جدًّا بالفعل.»
مجددًا تبادل جيسين وتشارلز نظرة خاطفة، وفي عينَي الصحفي لاح بريقٌ غريب.
افترض أنهم اتصلوا بجيسين! لم يكن أمرًا غيرَ محتمل. ذات مرة في السابق، أثناء السعي وراء ثأرهم في دولة أمريكية جنوبية، كانوا قد اتصلوا برجل مثل جيسين. كانت خاطرة، وخاطرة جديرة بالمتابعة.
وقف تشارلز غارقًا في التفكير يُقلِّب الاحتمالات في ذهنه بينما كان جيسين لا يزال يتكلم، وساعده أحد الرجال على ارتداء معطفه الطويل.
ثم بينما كانا يُغادران القاعة معًا، مرورًا بحارس المكان أسفل الدرج، استدار الصحفيُّ إلى رفيقه.
«هل من الممكن أن يتصلوا بك؟»
هز جيسين رأسه نفيًا.
قال: «ذلك غير محتمل؛ فهم لا يحتاجون إلى مساعدةٍ خارجية.»
سارا بقيةَ الطريق في صمت.
تصافح تشارلز مع جيسين عند باب منزل الأخير.
وقال له: «إذا تصادف واتصلوا …»
ضحك جيسين.
قال ببعض السخرية: «سأُحيطك علمًا.»
ثم دخل منزله، وسمع تشارلز مجددًا صوتَ انطباق القُفل بينما كان الرجل الغريب يُغلق الباب وراءه.
لقد أخذنا السيد لونج؛ لكونه ضروريًّا لغرضنا.
رجال العدالة الأربعة
كان ارتباط المسألة برجال العدالة الأربعة كافيًا لإعطائه قيمةً إخبارية غير عادية. وغنيٌّ عن القول إن الصحافة كانت مرتبكة. وسبب ذلك أن السيد لونج كان رجلًا غيرَ مهم إلى حد ما ولديه بعضٌ من التعليم الذاتي وهوسٌ بإصلاح الطبقات الإجرامية. ولكن وزارة الداخلية، التي كانت تعرف السيد لونج باسم «السيد جيسين»، كانت منزعجة للغاية، واستُخدِمت عبقرية سكوتلاند يارد للكشف عن مكان وجوده.