الفاصولياء الحمراء
بعث المجلس الداخلي باستدعاء عاجلٍ إلى الرجال القائمين على شئون منظَّمة المائة الحمر.
جاء ستارك، وفرانسوا، والفرنسي، وهولوم، والإيطالي، وبول ميرتيسكي، وجورج جريب، والأمريكي، ولودر بارثولوميو، وجاء أيضًا القائدُ السابق للفرسان غير النظاميِّين. كان بارثولوميو هو الأحسنَ هندامًا بين الرجال الذين تجمَّعوا حول الطاولة الخضراء في شارع جريك؛ لأنه كان في السابق يعقد اللجنة الملكية، وهي في حد ذاتها بمثابة تعليم لكيفية ارتداء الملابس. تذكر الرجال الذين التقَوا به بالكاد اسمه وعبسوا. كان لديهم فكرةٌ غير واضحة أن كان ثمة «أمر ضده»، لكنهم لم يكونوا متأكِّدين تمامًا من ماهيته. لا بد أنه كان له علاقة بما يُسمَّى الحرب الجنوب أفريقية وباستسلام؛ ليس استسلامًا عاديًّا، وإنما تنسيق مع العدو على أساس نقدي، وتحويل للمَئونة. أقيمت له محاكمة عسكرية، وسُرِّح من الخدمة، وبعد ذلك قَدِم بارثولوميو إلى إنجلترا وهاجم بإصرار، أولًا وزارة الحربية ثم الصحافة، بمجموعة من الشكاوى المكتوبة على الآلة الكاتبة. بعد ذلك دخل المجال المسرحي وظهر في مشاهد قصيرة في قاعة الموسيقى في دور «كابتن لودر بارثولوميو، بطل دوبفونتين».
كان ثمة فصولٌ أخرى مُسلية؛ فقد ظهر في قضية طلاق، وأدار صحيفة مجتمع، وامتلك بضعة خيول سباق، وحقق تميز الظهور في «قائمة السباق» في فقرة نصَّت بجدية وعلى نحو رسمي على منع وجوده في مضمار نيوماركت هيث.
كان ظهوره في المجلس الداخلي لمنظمة المائة الحمر جديرًا بالملاحظة فقط فيما دلَّل عليه ذلك من مدى البعد التام للسياسي الأوروبي العادي عن المشاعر والأوضاع البريطانية. فقد كان طلب بارثولوميو السري لإدراجه عضوًا في منظمة المائة الحمر قد استُقْبِل بالتزكية وكانت ترقيته إلى المجلس الداخلي سريعة. أليس ضابطًا إنجليزيًّا؛ أرستقراطيًّا؟ أليس عضوًا في الدائرة الأكثر تميزًا في المجتمع الإنجليزي؟ هكذا حاجَجت منظمة المائة الحمر، التي لم يكن شخص تابع في هيئة حقيرة يختلف لديها اختلافًا ملحوظًا عن قائد لسلاح الفرسان.
استعان بارثولوميو بالكذب للوصول إلى الدائرة؛ لأنه وجد، كما تشكَّك منذ البداية، أن ثَمة دورًا فعَّالًا للإرهاب. فكان ثَمة مِنَح لأعمال الخدمة السرية، وبخياله الخصب لم يكن صعبًا أن يجد مبرراتٍ وأسبابًا للتقرب من المسئول التنفيذي المالي لمنظمة المائة الحمر على فترات متكررة. فزعَم أن لديه صلاتٍ قويةً مع شخصيات مَلكية. ولم يذكر كحقيقة واقعة أنه كان موثوقًا به لديهم فحسب، بل أشار إلى وجود صلات عائلية لم تكن مَدعاة لكثير من الفخر لدى أسلافه.
كانت منظَّمة المائة الحمر مُضارَبة مجزية؛ إذ كانت عضوية المجلس الداخلي مربحة للغاية. كان قد قام بمجازفة عشوائية عندما كان في ضائقة — تمثلت في مذكرة حجز صدرت بإيعاز من مالك منزل مُلحٍّ بالطلب — إذ سَطَّر رسالة إلى شخصية ثورية، عارضًا أن يقوم بدور ممثل لندن لصالح منظمة كانت تُعرَف حينئذٍ باسم «أصدقاء الشعب»، لكنها أُدمِجَت منذئذٍ ضمن الكِيان الاعتباري لمنظمة المائة الحمر. من الضروري معالجةُ سوابق هذا الرجل معالجةً تامة؛ لأنه لعب دورًا في الأحداث المؤرَّخة في مجلس العدالة التي كان لها تأثيراتٌ أبعدُ أثرًا مما يُمكن لبارثولوميو، مرتزق الأناركية، أن يتخيَّل في أكثر لحظات خياله جموحًا.
كان واحدًا من سبعة اجتمعوا في غرفة الاستقبال القذرة في نُزُل في شارع جريك، وكان جديرًا بالإشارة أن خمسة من رفاقه حيَّوه باحترام يصل إلى حد التواضع. كان الاستثناء هو ستارك الذي، إذ وصل متأخرًا، وجد دائرة من المعجبين متحلقة حول كلمات هذا الشاب ذي العينَين الماكرتَين، وتجهَّم معرِبًا عن امتعاضه.
رفع بارثولوميو رأسه ونظر بينما كان ستارك يدخل وأشار إليه برأسه بلا مبالاة.
اتخذ ستارك مكانه على رأس الطاولة، وأشار بانعدام صبر إلى الآخرين أن يجلسوا. قام واحد من مقعده وأحكم إغلاق الباب، وتلك كانت مهمته. كانت النوافذ مغلقة، لكنه تحقَّق من المصاريع؛ ثم أخرج من جيبه مجموعتَي أوراق لعب، نثرهما في كومة فوضوية على الطاولة. أخرج كلُّ رجل حَفنةً من المال ووضَعها أمامه.
كان ستارك رجلًا ألمَعيًّا وكان قد تعلم أمورًا كثيرة في روسيا. من الممكن أن تتعامل الشرطة بصورة سريعة مع الرجال الذي يتجمعون حول طاولة خضراء مغطاة باللباد وأبواب موصَدة إذا لم يتَّضح عذر كافٍ لوجودهم، ودفع غرامة مائة روبل من أجل المقامرة أفضل من الزج في السجن دون سابق إنذار لمدة غيرِ محددة من الأشغال الشاقة في المناجم بناءً على شُبهة الضلوع في مخطط ثوري.
شرع ستارك حينئذٍ في عمل الليلة. والحق يُقال أنه لم يكن ثمة اختلافٌ كبير بين الإجراءات السابقة وإجراء اللجنة العادية.
كان يتعين التصويت على مبالغَ مالية؛ فقد احتاج بارثولوميو إلى مواردَ من أجل رحلة إلى باريس، حيث كان يأمُل، بصفته ضيفًا لشخصية لامعة، أن يحصل على معلومات ذات أهمية حيوية لمنظمة المائة الحمر.
قال ستارك بحدَّة: «هذا هو التصويت الرابع في شهرَين، يا رفيق. في المرة الأخيرة كان على معلومات من وزارة خارجيتكم، وثبَت أنها غيرُ دقيقة.»
هز بارثولوميو كتفَيه متظاهرًا بعدم الاكتراث.
قال: «إن كنت تشكُّ في حكمة التصويت على المال، فانسَ الأمر. إن تطلُّعات رجالي مرتفعة؛ فأنا لا أُعطي رشاوى لرجال شرطة أو موظَّفين دبلوماسيين في مراتبَ دنيا.»
قال ستارك بتجهم: «ليست مسألة مال. إنها مسألة نتائج. لدينا مال وفير، ولكن نجاح مسيرتنا المجيدة يعتمد على موثوقية معلوماتنا.»
أُقِرَّ التصويت، وبإقراره حلَّ وجومٌ على المجلس.
مال ستارك إلى الأمام وأخفض صوته.
قال: «ثمة أمور تحتاج إلى إيلاء اهتمام عاجل منكم.» وأخرج ورقة من جيبه، وفتحها باسطًا إياها أمامه. «لقد مضى وقت طويل دون نشاط منا حتى أصبح الطغاة الذين يمتلئون رعبًا من اسم المائة الحمر يعتبرون أنفسَهم بمنأًى عن الخطر.» انخفض صوته أكثر وهو يقول: «غير أننا اليوم في عشية أعظم إنجازاتنا، حين يتأثر من يقهرون الشعب بضربة واحدة! وسنضرب الملكية ضربةً سيذكرها تاريخ العالم إلى الأبد، حينما تُنسى انتصاراتُ قيصر والإسكندر، وحينما يغشى ترابُ وحطام ألف عام مشاهدَ أعمالنا. لكن ذلك اليوم العظيم لم يَحِنْ بعد؛ علينا أولًا أن نُزيح الرجال الأدنى شأنًا الذين ستُصيبهم الضربة بكل تأكيد؛ أولًا الخادم، ثم السيد.» ونخَز القائمة التي أمامه بسبَّابة غليظة.
قرأ: «فريتز فون هيدليتز، مستشار دوقية هامبورج — ألتونا.»
جال بناظِرَيه بين أفراد المجلس وابتسم.
«رجلٌ يمتلك بعضًا من روح المبادرة، يا رفاق؛ فقد أحبط محاولتنا مع سيِّده ببعض الدهاء؛ هل أُصرح برغبتكم حين أقول … الموت؟»
«الموت!»
كانت تلك همهمة جماعية ردَّدَت قوله.
قالها بارثولوميو، المتمرد والمغامر، تلقائيًّا. لم يكن يعنيه أن يموت سيد مهذَّب شجاع دون جريرة سوى أنه خدم سيده بإخلاص.
قرأ ستارك: «الماركيز دي سانتو ستراتو، السكرتير الخاص لأمير الإسكوريال.»
مجددًا جاءت الهمهمة: «الموت!»
قرأ ستارك الأسماء واحدًا تلو الآخر، متوقفًا بين فينة وأخرى ليُشدد على بعض الفظاعة المتسِم بها الرجلُ قيد الاستعراض.
قال وهو ينقر على الورقة: «ها هو هيندريك هوسمان، من شرطة برلين السرية؛ رجل متطفِّل وخطير. لقد تمكَّن بالفعل من القبض على أحد الرفاق وإيقاع العقاب به.»
همهم المجلس تلقائيًّا: «الموت.»
استغرقت القائمةُ نصفَ الساعة للفراغ منها.
قال ستارك: «ثمة أمر آخر.»
اضطرب أفراد المجلس في جلستهم؛ لأن ذلك الأمر الآخر كان الشاغلَ الرئيسي في ذهن كلٍّ منهم.
تابع رئيس المجلس، وقد فقد صوتُه تلك الثقةَ التي اتسم بها حديثُه السابق: «لقد تعرَّضنا، بوسيلةٍ ما، للخيانة. ثمة تنظيم — تنظيم يُمثل ردَّ فعل — عزَم على إفشالنا. ذلك التنظيم اكتشف هُويتنا.» وتوقف عن الكلام قليلًا.
تابع قائلًا: «هذا الصباح تلقيتُ رسالة دعَتني برئيس المجلس الداخلي، واحتوَت على تهديد لي.» ومجددًا توقف عن الكلام.
«كانت تحملُ توقيع «رجال العدالة الأربعة».»
استُقبِلَت عبارته بصمت تام — صمتٍ أربكه — إذ كان تعويضه النفسيُّ عن الصدمة التي تلقاها يكمن في توقع الشعور الذي من شأن تصريحه هذا أن يصنعه.
وسرعان ما اتضَح له سببُ الصمت.
قال فرانسوا بهدوء: «أنا أيضًا تلقيتُ رسالة.»
«وأنا.»
«وأنا.»
«وأنا.»
كان بارثولوميو هو وحده الذي لم يتكلم، وشعر بالاتهام غير المعلن من الآخرين.
فقال بضحكة خفيفة: «أنا لم أتلقَّ رسالة. فقط هاتَين.» تحسس جيب صدريته وأخرج حبتَي فاصولياء. لم يكن ثمة شيءٌ غير مألوف في هاتَين الحبتَين عدا أن إحداهما كانت سوداء بلونها الطبيعي والأخرى طُلِيَت باللون الأحمر.
تساءل ستارك بارتياب: «ماذا تعنيان؟»
أجاب بارثولوميو بابتسامة هازئة: «ليس لديَّ أدنى فكرة. لقد جاءتا في صندوق صغير، مثل الذي تُرسَل فيه المجوهرات، ولم يكن معها أي رسالة أو أي شيء من هذا القبيل. هذه الرسائل الغامضة لا تُقلقني كثيرًا.»
تساءل ستارك بإصرار: «ولكن ماذا يعني هذا؟» واشرأبَّت الأعناقُ كلها نحو البذرتَين؛ وتابع قائلًا: «لا بد أنَّ لها مدلولًا ما. فلتُفكر.»
تثاءب بارثولوميو.
قال بلا مبالاة: «على حد علمي، لا يوجد لهما تفسير. فلم يكن لحبوب الفاصوليا الحمراء أو السوداء أيُّ دور بارز في حياتي، على حد …»
توقف عن الكلام وشاهدوا موجة لون تندفع إلى وجهه، ثم تتلاشى، تاركةً إياه شاحبًا للغاية.
تساءل ستارك: «ما هذا؟» وكان ثمة وعيد في السؤال.
تلعثم بارثولوميو قائلًا: «دعني أرَ»، وأمسك بحبة الفاصولياء الحمراء بيد مرتعشة.
قلَّبها في يده مرارًا وتَكرارًا، مستدعيًا ما لديه من مخزون القوة.
كان ما أدركه هو أنه لم يكن باستطاعته التفسير.
ربما كان التفسير سيُصبح ممكنًا لو كان قد أدرك قبلئذٍ فحوى الرسالة التي تلقاها، ولكن الآن مع وجود ستة أزواج من العيون المتشككة مصوَّبة نحوه، ومع ارتباكه لاحظ في حينه أن تردُّده سيوحي بما في غير صالحه.
واضطُرَّ إلى اختلاق قصة من شأنها أن تكون مقبولة لديهم.
ابتدأ الحديث محافظًا على ثبات صوته، قائلًا: «منذ سنوات، كنت عضوًا في منظمة كهذه؛ و… وكان ثمة خائن.» حينئذٍ اتضحت له القصة، واستعاد توازنه. «اكتُشِف الخائن واقترعنا على حياته. وكانت نتيجة الاقتراع عددًا متساويًا ممن يريدون قتله ومَن يريدون الإبقاء على حياته، وتعين عليَّ بصفتي الرئيس أن أُعطي التصويت المُرَجِّح. وكانت حبة فاصولياء حمراء تُمثل الإبقاء على حياته وأخرى سوداء تُمثل قتله، وجاء تصويتي لصالح قتل الرجل.»
رأى الانطباع الذي صنعَته قصته المختلقة واستفاض في القصة. أخذ ستارك يفحص بعناية حبة الفاصولياء الحمراء التي كان يُمسك بها في يده.
«لديَّ سبب يجعلني أظن أن بتصرفي ذاك صار لي أعداء كثيرون، ومن المحتمل أن يكون أحدهم هو من أرسل رسالة التذكير هذه.» تنهَّد تنهيدة ارتياح داخلية عندما رأى غيوم الشك تنقشع عن الوجوه المحيطة به. ثم …
سأله ستارك بهدوء: «والألف جنيه؟»
لم يرَ أحد بارثولوميو وهو يعَض على شفته؛ لأن يده كانت تُمسد شاربه الأسود الناعم. ما لاحظوه جميعًا كان المفاجأة المصطنعة جيدًا والتي عبر عنها برفع حاجبَيه.
قال متحيرًا: «الألف جنيه؟» ثم ضحك. وأضاف بسخط: «أوه، أرى أنك أنت أيضًا قد سمعت القصة. لقد وجدنا أن الخائن قد قبل بهذا المبلغ ليخوننا. وصادرناه لصالح المنظمة. وذلك عن حق.»
أزالت همهمة الاستحسان عنه أي خوف نتيجة تفسيره. حتى ستارك ابتسم.
وقال: «لم أكن أعرف القصة، ولكنني رأيت عبارة «الألف جنيه» التي كانت منقوشة على جانب حبة الفاصولياء الحمراء؛ ولكن هذا لا يجعلنا نقترب من حل اللغز. من الذي خاننا لصالح «رجال العدالة الأربعة»؟»
وبينما كان يتحدث، جاء صوت طرق خفيف على باب الغرفة. بخفة قام فرانسوا، الذي كان يجلس عن يمين الرئيس، وسار على أطراف أصابعه إلى الباب.
سأل بصوت منخفض: «من الطارق؟»
تكلم شخص ما بالألمانية، وانتقل الصوت حتى عرَف الجميع هُوية المتكلم.
قال بارثولوميو: «امرأة جراتس»، وبدافعٍ من تلهُّفِه هب واقفًا.
لو كان أحدهم يبحث عن سبب الخصومة بين ستارك والقائد السابق للفرسان غير النظاميين، فهذه كانت نهاية البحث. فقد أفصح اللهيب، الذي ظهر في عينَي هذَين الرجلَين لدى دخولها الغرفة، عن القصة.
وقف ستارك، الرجل الضخم الجثة الشهواني، ليُحيِّيها ووجهه متوهج.
تمتم قائلًا: «سيدتي»، وقبَّل يدها.
كانت متأنقة بما يكفي، مرتديةً معطفًا فاخرًا من فراء السمور كان منطبقًا بإحكام على قوامها المتموج، وقبعة من الفراء على رأسها الجميل.
رفعت يدًا ترتدي قفازًا نحو بارثولوميو وابتسمت.
كان لبارثولوميو، مثل منافسه، طريقةٌ مع النساء؛ ولكنها كانت طريقة رقيقة، مُثقَلة بأعراف غربية ومقيدة بآداب محددة. صحيح أنه كان شريرًا حقيرًا حسب مفاهيمنا، لكنه تلقى تدريبًا أوليًّا في عالم السادة المحترمين. تحرك وسط الرجال الذين خلعوا قبعاتهم للجنس اللطيف، وتحكموا في تصرفاتهم بناءً على قواعد غامضة. ولكنه تصرف بمغالاة أكبر مما فعل ستارك؛ إذ أمسك بيدها، ناظرًا إلى عينَيها، بينما تململ ستارك بنفاد صبر.
أخيرًا قال بحدة: «أيها الرفيق، سنُؤجل حديثنا مع ماريا الصغيرة. سيبدو من السيئ لها أن تظن أنها تُعطلنا عن عملنا، وهنالك مسألة الأربعة …»
رآها ترتجف.
كرَّرت قائلةً: «الأربعة؟ إذن فقد كتبوا لك، أيضًا؟»
ضرب ستارك بقبضته على الطاولة.
«أنتِ، أنتِ! أتجرَّءُوا على تهديدك أنتِ؟ بحق السماء …»
قالت: «أجل»، وتابعت، وقد بدا أن صوتها العذب الرخيم قد صار مبحوحًا قليلًا: «لقد هددوني.»
أرخَت الفراء عن رقبتها كما لو أن الغرفة قد صارت فجأة حارةً وصار الجو خانقًا.
أوقفت النظرة التي بدَت على وجهها سيلَ الكلمات الذي تداعى باضطراب على شفتَي ستارك.
تابعت تقول ببطء: «ليس الموت هو ما أخشاه. في الواقع، لا أكاد أعرف ما الذي أخشاه.»
قاطع بارثولوميو السطحي الذي لم يتأثر بالغموض المأساوي لصوتها، الحديث عندما سكتوا؛ إذ أسكتهم ابتِئاس الفتاة.
تساءل ضاحكًا: «مع وجود رجال مثلِنا حولك، لماذا يتعيَّن عليكِ أن تُلاحظي الأداء المزيف لأولئك «رجال العدالة الأربعة»؟» ثم تذكر حبتَي الفاصولياء وحلَّ عليه الصمت فجأة مع الباقين.
كانت الرجفة، التي حلت عليهم عند نُطق اسم عدوهم، بالغةً وبلا تفسير، وبالتأكيد أثَّر فيهم مشهد امرأة جراتس التي كانت الدموع على وشك أن تنسال من عينَيها، حتى إنهم سمعوا عندئذٍ ما لم يسمَعه أحدهم من قبل؛ وهو صوت دقات ساعة الحائط.
كانت العادة المتأصلة لأعوام كثيرة هي التي جعلت بارثولوميو يضع يده في جيبه، وبتلقائية أخرج ساعته، وبطريقة آلية نظر بعينَيه في أرجاء الغرفة بحثًا عن ساعة الحائط ليتأكد بواسطتها من الوقت.
كانت واحدة من تلك الأشتات المتضاربة من الأمور الاعتيادية التي تُقحِم نفسها عنوةً في الفاجعة، لكنها أطلقت ألسِنةَ أفراد المجلس، وتكلموا كلهم معًا.
كان ستارك هو من ضم يدَي الفتاة المرتعشتَين بين راحتَيه المكتنِزتَين.
وبَّخَها برفق قائلًا: «ماريا، ماريا. هذه حماقة. ماذا! امرأة جراتس التي تحدَّت روسيا كلها — التي وقفت أمام ميرتوسكي وتحدته وجهًا لوجه — ما الأمر؟»
كانت الكلمات الأخيرة حادة وغاضبة وكانت موجهة إلى بارثولوميو.
للمرة الثانية في تلك الليلة شحب وجه الرجل الإنجليزي، ووقف قابضًا على حافَة الطاولة بعينَين محدقتَين وفكُّه السفلي متدلٍّ.
صاح ستارك، ممسكًا بذراعه: «يا إلهي، أيها الرجل! ما الأمر. تكلم. إنك تُخيفها!»
قال بارثولوميو بصوت أجوف لاهث: «ساعة الحائط! أين، أين ساعة الحائط؟»
جالت عيناه المحدقتان بعجز من جانب إلى جانب. همس قائلًا: «أنصِت.» وحبسوا أنفاسهم. كانوا يسمعون الصوت بوضوح شديد بالفعل «تِك، تِك، تِك.»
تمتم فرانسوا: «إنها تحت الطاولة.»
أمسك ستارك بقطعة القماش ورفعها. تحتها، في الظل، رأى الصندوق الأسود وسمع الأزيز المشئوم لآلية الساعة. صاح مزمجرًا: «بالخارج!» وانطلق نحو الباب. كان موصَدًا، ومن الخارج.
أخذ يرمي جسده الضخم على الباب مرارًا، لكن الرجال الذين كانوا متزاحمين حوله، ينوحون وقد سال لُعابهم من خوفهم المثير للشفقة، احتشدوا حوله ولم يدَعوا له متسَعًا.
بيدَيه القويتَين قذفهم يَمْنة ويَسْرة، ثم اندفع نحو الباب بقوة، مستحضرًا كل وزنه وما بوُسعه من قوة، فانفتح الباب متحطمًا.
كانت امرأة جراتس هي الوحيدةَ في المجموعة التي حافظت على هدوئها. وقفت بجوار الطاولة، وقدمُها تكاد تلمس الآلة اللعينة، وشعرت بالذبذبات الضعيفة لعملها. ثم احتضنها ستارك بين ذراعَيه وعبر الممر الضيق قادها، وهو يكاد يحملها، حتى بلَغا الشارع بأمان.
شاهد المشاة المارون المجموعة المرتبكة، واحتشدوا حولهم، بعدما اشتمُّوا وجود خطبٍ ما.
همس فرانسوا: «ماذا كان هذا؟ ماذا كان هذا؟» لكن ستارك دفعه جانبًا مزمجرًا.
استدعى سيارة أجرة كانت تمر، وأصعد الفتاة إلى داخلها، وصاح في السائق بالاتجاهات وقفز خلفها راكبًا السيارة.
بينما كانت السيارة تلتف مبتعدةً، نظر أفراد المجلس المذهولين بعضُهم إلى بعض.
كانوا قد تركوا باب المنزل مفتوحًا على مِصراعَيه وفي البهو كانت شعلة غاز خفاقة تهتز بشدة.
قال بارثولوميو وهو يلهث: «ابتعدوا عن هنا.»
قال الآخر وهو يعتصر يديه: «ولكن الأوراق، السِّجلات.»
فكَّر بارثولوميو سريعًا.
لم يكن من الممكن تركُ السجلات ملقاةً هناك من دون عواقب وخيمة. كان كل ما يعرفه أن هؤلاء الرجال المجانين قد أورَدوا ما يُدينه في كتاباتهم الشيطانية. لم تكن تنقصه الشجاعة، لكن الأمر كان يستلزم كل ما يملك من جُرأة ليُعاود الدخول إلى الغرفة التي كانت فيها آلة صغيرة في صندوق أسود تدقُّ بطريقة غامضة.
تساءل: «أين هي؟»
قال الآخر وهو يكاد يهمس: «على الطاولة.» قال الإنجليزي وقد حزم أمرَه: «يا إلهي! يا للمصيبة!»
انطلق صاعدًا الدرجات الثلاث إلى البهو. وبعد خطوتَين وصل إلى الباب، وبخطوة واسعة أخرى وصل إلى الطاولة. سمع صوت «تكتكة» الآلة، وألقى نظرة واحدة على الطاولة وأخرى على الأرض، وخرج مجددًا إلى الشارع قبل أن يأخذ نفسَين طويلَين.
وقف فرانسوا منتظرًا، وكان بقية الرجال قد اختفَوا.
صاح الفرنسي: «الأوراق! الأوراق!»
أجاب بارثولوميو وهو يجزُّ على أسنانه: «اختفت!»
على بعد أقلَّ من مائة ياردة كان ثمة اجتماع آخر منعقد.
قال بويكارت فجأة؛ إذا ساد الحديثَ فترة هدوء مؤقَّت: «مانفريد، هل سنحتاج إلى صديقنا؟» ابتسم مانفريد. وقال: «أتقصد السيد جيسين الرائع؟»
هزَّ بويكارت رأسه إيجابًا.
قال مانفريد بهدوء: «أعتقد ذلك. لست متأكدًا تمامًا من أن المنبه الرخيص الذي وضعناه في صندوق البسكويت سيكون تحذيرًا كافيًا للمجلس الداخلي، ها هو ليون.»
سار جونزاليس داخلًا إلى الغرفة وخلع معطفه الطويل بتأنٍ.
حينئذٍ رأَوا كم كان رداؤه ممزقًا، ولاحظ مانفريد المنديل الملطَّخ الذي كان معصوبًا برفق حول إحدى يدَيه.
قال جونزاليس مفسرًا باقتضاب: «زجاج. اضطُرِرت إلى أن أتسلَّق سورًا.»
سأله مانفريد: «هل كل شيء على ما يُرام؟»
أجاب الآخر: «على خير ما يُرام. لقد فرُّوا كالخِراف، ولم أفعل سوى أنني دخلت وأخذت سجلَّ الجمل المثيرَ للاهتمام للغاية الذي أغفلوه.»
كان جونزاليس مستمتعًا قليلًا وهو يقول: «ماذا عن بارثولوميو؟» «لقد كان أقلَّ ذعرًا من الباقين؛ فقد عاد ليبحث عن الأوراق.»
«هل سيقوم؟»
قال ليون: «أظن ذلك. فقد لاحظت أنه ترك حبة الفاصولياء السوداء عند فراره، لذلك أظن أننا سنرى الحمراء.»
قال مانفريد بجدية: «هذا سيُبَسِّط الأمور.»