الأميرة الثائرة
كانت امرأة جراتس تتحلَّى بمشاعرَ إنسانية للغاية. لكنها كانت تبدو لبارثولوميو شيئًا مصنوعًا من الثلج، بدون مشاعر؛ مجرد امرأة جميلة كانت تجلس على مقعد مستقيم الظهر، تنظر إليه بعينَين هادئتَين متشككتَين. كانا في شقتها في بلومزبري في مساء اليوم التالي لمقابلته مع مينشيكوف. أصابه برودها بقُشَعْريرة، وضيق الخناق على الشغف في حديثه، وصدر ما قاله بتردد، وبدا ضعيفًا وغيرَ مقنِع.
«لكن لماذا؟» كان ذلك كلَّ ما سألَته. كان قد توقف عن الكلام ثلاث مرات بطريقة جذابة، آملًا في التشجيع، لكن جوابها كان هو نفسه.
تكلم بطريقة غير مترابطة، وعشوائية. كان الخوف من رجال العدالة الأربعة من جهة والرعب من المائة الحمر من الجهة الأخرى، يُشكلان ضغطًا على أعصابه.
رأى فرصة للهرب من الاثنَين، والتحرر من التحكم المطبق لهاتَين المنظمتَين، وأمامه النطاق الواسع لبرية غير مطروقة، لا يُمكن أن يلحقه فيها انتقامُ أيٍّ منهما.
كانت جنة عدن تلوح في الأفق؛ وكان ينشد حواء.
تغلبت فكرة الحرية المقبلة على الكآبة التي فرضها برودها.
«ماريا، ألا ترين؟ أنت تُضيعين حياتك في القيام بعمل هذا الرجل، عمل هذا القاتل! لقد خُلِقتِ من أجل الحب ومن أجلي!» أمسك بيدها ولم تسحبها، لكن الراحة التي ضغط عليها لم تكن تستجيب ولم تُشِح العينين الفاحِصتين عن وجهه.
سألت مجددًا: «لكن لماذا؟ وكيف؟ أنا لا أحبك، ولكن أحب أي رجل، ولك عملك ولي عملي. ثمة القضية وقَسَمك. رفاقك …»
هب واقفًا فجأة وطرح يدها. للحظة وقف جاثمًا عليها، محملقًا بعبوس في وجهها الشاخص لأعلى.
قال ضاحكًا وهو يصرُّ بأسنانه سخطًا: «العمل! الرفاق! هل تظنين أنني سأُخاطر بعنقي الثمين أكثرَ من هذا؟»
لم يسمع الباب وهو ينفتح بهدوء، ولا بوقع أقدام الرجلَين اللذَين دخلا.
تابع بعنف: «هل أنت عمياء مثلما أنت مجنونة؟ ألا ترين أن الأمر قد انتهى؟ رجال العدالة الأربعة يُمسكون بنا جميعًا في قبضتهم! لقد تمكَّنوا منا هكذا!» وفرقع بإصبعَيه بازدراء. «إنهم يعرفون كل شيء، حتى المحاولة المزمع القيام بها مع أمير الإسكوريال! ها! ذلك يُباغتكِ، لكنه حقيقي، كل كلمة أقولها، يعرفونها.»
قالت ببطء: «إن كان هذا صحيحًا، فثَمة خائن.»
أشاح بيده بلا مبالاة، مُقرًّا بالاحتمال ورافضًا له في الوقت نفسه.
قال ببساطة: «ثمة خونة دائمًا، عندما يكون مقابل الخيانة مُجزيًا، ولكن سواء كان يوجد خائن أم لا، فإن لندن تغلي على صفيح ساخن بالنسبة لي ولكِ.»
صححَت له الفتاة قوله قائلة: «لك أنت.»
قال بهمجية؛ مختطفًا يدها مجددًا: «ولكِ أنتِ. لا بد أن تأتي، أتسمعين، أيتها المرأة الباردة الجميلة، لا بد أن تأتي معي!»
شدها إليه، لكن يدًا أمسكت بذراعه، واستدار ليُواجه وجه ستارك، الذي كان حانقًا ومتوترًا، وتظهر عليه أماراتُ غضب صامت.
كان ستارك مستعدًّا للسكين أو للمسدس، ولكن ليس للمرفق الذي أصابه بالكامل في وجهه وألقى به مترنحًا على الحائط.
استعاد توازنه بسرعة، وأشار إلى فرانسوا، الذي استدار وأغلق الباب.
«ابتعِد عن ذلك الباب!»
«انتظر!»
مسح ستارك الدمَ من على وجهه بظهر يده وقد تسارعَت أنفاسه.
قال بنبرته الصادرة من حلقه: «انتظر. قبل أن تذهب ثمة مسألة يجب تسويتها.»
قال الإنجليزي: «في أي وقت، وفي أي مكان.»
التقط ستارك نفَسًا وقال: «لا أقصد الضربة. تلك لا شيء؛ الأمر الذي أقصده هو مسألة المجلس الداخلي، أيها الخائن!»
مد ذقنه إلى الأمام وهو ينطق بالكلمة الأخيرة بصوت كالفحيح.
كان أمام بارثولوميو وقت قليل جدًّا ليتخذ قراره بشأن النهج الذي سيتبعه. كان أعزل؛ لكنه كان يعرف بغريزته بأنه لن يكون ثمة إطلاقٌ للرَّصاص. ما كان عليه أن يخشاه هو السكين؛ فأمسك بظهر كرسي. لو استطاع أن يُبقيهما على مسافة منه فقد يبلغ الباب ويخرج بأمان. لعن حماقته لتوانيه في القيام بالانقلاب الذي كان سينجح في الزج بستارك في السجن.
«لقد خنتنا لصالح رجال العدالة الأربعة، لكن ربما ما كنا سنعرف أبدًا بذلك؛ لأن رجال العدالة الأربعة ليس لديهم خدم يتكلمون. لكنك بعتنا للسفارة، وتلك كانت سقطتَك.» كان قد استعاد هدوءه.
«أرسلنا إليك رسالة نُخبرك فيها بنيتنا تدميرَ بنك إنجلترا. تلقى البنك تحذيرًا، من رجال العدالة الأربعة. أخبرناك بمحاولة الاعتداء على سفينة جروندوفيتش، فتلقى الربان تحذيرًا من السفارة؛ لقد أُدِنت مرتَين. لم نُفكر مطلقًا في القيام بأي اعتداءات من هذا القبيل. لقد اختُرِعَت من أجلك، وها قد سقطت في الفخ.»
أمسك بارثولوميو بالكرسي مجددًا. أدرك على نحو مبهم أنه في مواجهة مع الموت، ولثانية استحوذ عليه ذعر شديد.
تابع ستارك بتأنٍ: «الليلة الماضية اجتمع المجلس سرًّا، وتُلي اسمك من القائمة.» جف حلقُ الإنجليزي.
«وقال المجلس في صوت واحد …» توقف ستارك عن الكلام لينظر إلى امرأة جراتس. وقفت هادئة وأصابع يدَيها متشابكة، ولا يبدو عليها القَبول ولا الرفض. للحظةٍ نظر بارثولوميو هو الآخر إلى وجهها، لكنه لم يرَ لا الشفقة ولا الإدانة. كان وجه القدر؛ وجه متعنِّت، وغير عقلاني، ومحتوم.
قال ستارك بصوت ناعم جدًّا، حتى إن الرجل الذي كان في مواجهته كان بالكاد يسمعه: «كان الحُكم هو الموت.»
بحركة سريعة كالبرق رفع يده وألقى بالسكين. تأوه الرجل الذي تلقى الضربة قائلًا: «اللعنة عليك.» وتحسست يداه العاجزتان صدره، ونزل على ركبتَيه وضربه فرانسوا ضربة دقيقة.
نظر ستارك مجددًا إلى المرأة.
تمتم قائلًا: «إنه القانون.» لكنها لم تُجب.
فقط تفقدَت عيناها الجسدَ المكوَّم على الأرض وارتعشت شفتاها.
همس ستارك: «يجب أن نهرب من هنا.»
كان يرتعش قليلًا؛ إذ كان هذا عملًا جديدًا عليه. كانت قُوى الغيرة والخوف على أمانه الشخصي قد جعلَته يأخذ على عاتقه المهمة التي كان في مناسبات أخرى يتركها لرجال أدنى شأنًا.
«مَن الذي يقطن في الشقة المقابلة؟»
واختلس النظر عبر الباب.
أجابت بهدوئها المعهود، وبنبرة رصينة: «طالب، كيميائي.»
احمرَّ وجه ستارك، إذ جاء صوتها الذي بدا شبهَ حادٍّ بعد المباحثة الهامسة بينه وبين رفيقه.
ناشدها قائلًا: «بهدوء، بهدوء.»
تراجع بحذر شديد إلى الموضع الذي تمدَّد فيه الجثمان، ودار حوله دورة كاملة، وأنزل الستارة. لم يكن بوسعه تفسيرُ الدافع الغريزي الذي جعله يفعل هذا. ثم عاد إلى الباب وأدار المقبض برفق، وهو يُشير إلى الشخصَين الآخرَين. بدا له أن المقبض أدار نفسَه، أو أن أحدًا ما على الناحية الأخرى كان يُديره في الوقت نفسه.
كان هذا هو ما اكتشفه، إذ ارتجَّ الباب منفتحًا فجأة، مما جعله يتراجع مترنحًا إلى الوراء، ووقف رجلٌ على عتبة الباب.
كانت الستارة منسدلة؛ لذا كانت الغرفة شبهَ مظلمة، ولم يستطع الدخيل، الذي كان واقفًا بلا حَراك عند المدخل، أن يرى أي شيء سوى الأجساد غير الواضحة للموجودين بداخل الغرفة.
وبينما كان ينتظر انضمَّ إليه ثلاثة آخرون، وتكلم بسرعة بلغة لم يستطع ستارك، الذي كان بارعًا في اللغات، أن يفهمها. فتح أحد رفقائه باب غرفة الطالب وجلب شيئًا أعطاه للمراقب الواقف على عتبة الباب.
ثم دخل الرجل إلى الغرفة بمفرده وأغلق الباب خلفه، ولكنه لم يُغلقه تمامًا؛ لأنه كان يجرُّ خلفه ما بدا وكأنه سلكٌ سميك ومنع هذا الشيء البابَ من أن ينغلق.
استعاد ستارك النطق أخيرًا.
سأل بصوت منخفض: «ماذا تريد؟»
أجاب الدخيل: «أريد بارثولوميو، الذي دلف إلى هذه الغرفة منذ نصف الساعة.»
قال ستارك: «لقد غادر منذ نصف الساعة»، وفي الظلام تحسس بقدمه جسد القتيل؛ إذ كان بحاجة إلى السكين.
قال الغريب ببرود: «كذب، فلم يُغادر هو ولا أنت، يا رودولف ستارك، ولا امرأة جراتس، ولا القاتل فرانسوا.»
قال ستارك باتزان: «السيد يعرف أكثر من اللازم.» واندفع إلى الأمام، ملوحًا بسكينه.
قال الغريب محذرًا: «ابق بعيدًا.» وفي تلك اللحظة اندفع ستارك وفرانسوا الصامت إلى الأمام وضربا.
شلَّ الألم الشديد للصدمة التي قُوبِلا بها حركتهما للحظة. فقد أدَّت الخيوط المرشوشة الخارجة من السلك «المكهرب» الذي كان الرجل يُمسك به أمامه كدرع، إلى اهتزاز السكين في يد ستارك، وسمع فرانسوا يئنُّ وهو يسقط أرضًا.
قال الصوت مجددًا: «أنت أحمق، وأنتِ، يا سيدتي، لا تتحركي، أرجوكِ، أخبريني بما جرى لبارثولوميو.»
ساد صمت.
ثم قالت امرأة جراتس: «لقد مات.»
سمعت الرجل يتحرك.
تابعت بهدوء كافٍ: «لقد كان خائنًا، ولذلك قتلناه. ما الذي ستفعله، يا مَن تقف وكأنك نصبت نفسك قاضيًا؟»
لم يُجِب، وسمعت صوت الحفيف الخافت لأصابعه على الحائط.
قالت دون أن تتحرك: «أنت تنشد الضوء؛ مثلما ننشده جميعًا.» وأضاءت النور.
رآها واقفة بالقرب من جسد الرجل الذي استدرجَته إلى حتفه، هازئة، ومتحدية، مبديةً اكتراثًا غريبًا بخسَّة الفاجعة التي كانت هي المحرِّضةَ عليها.
رأَت رجلًا ذا سُمرة في الخامسة والثلاثين من عمره، له عينان غامضتان حادَّتان، وجبهة عريضة، ولحية مشذبة مدببة. كان رجلًا طويلًا، وكانت القوة بادية في كل جزء من أجزاء جسمه الحسن القوام، وبادية في كل ملامح وجهه.
حدقت فيه بوقاحة ولا مبالاة، ولكن أمام هيمنة عينَيه وثباتهما، أرخت جفنَيها.
بدا أن المشاركين الآخرين في الحدث المثير كانوا أتفهَ من أن يكونوا جديرين بالملاحظة. القتيل المسجَّى في وضعية غريبة، والقاتل الغائب عن الوعي عند قدمَيه، وستارك المصاب بدوار والمصعوق والذي كان يزحف بجوار الحائط.
تابعت قائلة: «ها هو الضوء الذي أردته. لا يسهل علينا نحن أعضاءَ المائة الحمر أن نُضيء عتمة اليأس والاستبداد.»
قال مانفريد ببرود: «وفري خطبكِ»، وأذهلتها السخرية في صوته كضربة سوط. فلأول مرة يتورد وجهها وتبرق عيناها غضبًا.
تابع مانفريد قائلًا: «لديكِ مستشارون سيئون. أنتِ يا من تتحدثين عن المستبدين والملوك الفاسدين؛ ماذا أنتِ سوى دمية تقتات على المديح؟ لديكِ هوًى أن يُنظَر إليكِ كمتآمرة، شارلوت كورداي أخرى. وعندما تمتدحين بأنك الأميرة الثائرة، فإن ذلك يُرضي غرورَكِ، ربما أكثر من لقب الأميرة الجميلة الذي يُهللون لكِ به.»
تخير كلماته بعناية.
«إلا أن الرجال، رجالًا كهؤلاء»، وأشار إلى ستارك، «يُفكرون فقط في الأميرة الجميلة، وليس السيدة صاحبة الأفكار الملهِمة؛ ليس الوطنية البطلة الضئيلة صاحبة الكلمات الحماسية، وإنما المرأة التي من لحم ودمٍ، المرأة المحبوبة والفاتنة.»
تكلم بالألمانية، وكانت ثَمة فوارقُ دقيقة في المعاني لا يُمكن ترجمتها بالضبط أو حرفيًّا. كان كلامه ذا مغزًى، ومتزِنًا وخاليًا من العاطفة. كان يقصد أن يكون كلامه جارحًا، وأن يكون الجرح غائرًا، وكان يعرف أنه نجح في مسعاه.
رأى الارتفاع والانخفاض المتسارعين لصدرها وهي تُجاهد لكي تستردَّ زمام السيطرة على نفسها، ورأى أيضًا الدم على شفتَيها حيث عضَّتهما بأسنانها الحادة البيضاء.
قالت بانفعال شديد جعل صوتها يرتجف: «سوف ألتقي بك مجددًا. سأبحث عنك وأجدك، وسواءٌ كنتُ أنا الأميرة الثائرةَ أو الأميرة الجميلة التي ستُلحِق بك عقابَك، تأكَّد أني سأضرب بقوة.»
انحنى لها مُحييًا.
وقال بهدوء: «ربما يحدث ذلك؛ أما الآن وأنتِ عاجزة، إذا أردتُ فستُصبحين عاجزة إلى الأبد، الآن إرادتي أن تذهبي.»
وتنحى جانبًا وفتح الباب.
جذبتها الجاذبية التي في عينَيه إلى الأمام نحوه.
قال عندما ترددت: «امضي لحال سبيلكِ.» كانت بلا حول ولا قوة؛ وكان الإذلال الذي تشعر به يُثير جنونها.
وإذ ترددَت عند عتبة الباب، شرعت تقول: «صديقاي …»
قال بهدوء: «صديقاكِ سيُلاقيان المصير الذي ينتظركِ يومًا ما.»
استدارت شاحبةً منفعلة، مواجهةً إياه.
«أنت! تُهددني! يا لك من رجل شجاع حقًّا إذ تُهدد امرأةً!»
كان يُمكن أن تعضَّ لسانها عندما زَلَّت. كانت كامرأة قد راقت له كرجل! وكان هذا أعظمَ إذلال على الإطلاق.
قال مجددًا، بلباقة ولكن دون تهاون: «امضي لحال سبيلكِ.»
كانت بالكاد على بُعد قدم واحدة منه، واستدارت وواجهته، وتباعدت شفتاها وبدا شيطان الكراهية الأسود في عينيها.
قالت وهي تلهث: «يومًا ما، يومًا ما، سأردُّ لك الصاع!» ثم استدارت بسرعة واختفَت عبر الباب، وانتظر مانفريد حتى تلاشى صوتُ وقع أقدامها وبعد ذلك انحنى نحو ستارك الذي كان واعيًا جزئيًّا وأوقفه على قدمَيه.