حادث عارض أثناء القتال
لن نعرف أبدًا من أي مكان سري في المدينة أعادت امرأة جراتس تنظيم قواتها؛ الأمر الذي أعاد إليها قوة الهدف وطاقتها غير المحدودة التي يُمكننا توقعها. بموت ستارك صارت افتراضيًّا وفعليًّا زعيمة منظمة المائة الحمر، ومن كل حدب وصوب في أوروبا أتت تعزيزات من الرجال والمال لتقوية قبضتها وإعادة توطيد المكانة المهتزة لأقوى تنظيم عرفته الأناركية على الإطلاق.
كانت بريطانيا العظمى دومًا منيعة أمام العمليات النشطة للأناركيين. كانت ملاذَ الثوريِّين لقرون، وكانت الأناركية قد تردَّدت في الإضرار بأمن اللاجئين بمتابعة دعايتها على التراب الوطني البريطاني. ومن المعروف أن متطرفي الحركة كانوا غاضبين في ظل القيد المفروض، وعندما أعلنت امرأة جراتس الحرب على إنجلترا جهرًا، لاقت استحسانًا كبيرًا.
تبع ذلك ما يُمكن أن يكون أكثرَ النزاعات استثنائيةً والتي لم يشهد العالم لها مثيلًا من قبل. تقاتل كِيانان قويان، كلاهما خارج نطاق القانون، بسرعة وبلا رحمة، لا يطلبان الرأفة ولا يمنحانها. والغريب في الأمر كله أن أحدًا لم يرَ عملاء أيٍّ من الطرَفَين المتقاتلَين. كان الأمر كما لو أن قوتَين روحيتَين كانتا منخرطتَين في معركة طاحنة. كانت الشرطة شبه عاجزة. استُؤنِفَت المعركةُ ضد منظمة المائة الحمر، من جانب رجال العدالة الأربعة بمفردهم تقريبًا، أو لنمنحهم اللقبَ الذي وقَّعوا به بيانهم الشهير، «مجلس العدالة.»
منذ أيام الغارات الفينيانية، لم تعِش لندن مطلقًا أجواء الرعب التي صنعتها منظمة المائة الحمر. لم يمرَّ يوم بدون تحضيرات لهجوم اكتُشِف أمره، وكان أكثر تلك الهجمات فظاعة محاولةَ الهجوم على مترو أنفاق لندن. إذا كنتُ أُشير إليها بأنها «محاولات»، وإذا كان تَكْرار تلك الكلمة يضجر القارئ، فذلك لأنه، بفضل اليقظة الفائقة لمجلس العدالة، انتهى أمرها.
قال وزير الداخلية بفظاظة في اجتماع لقادة الشرطة: «لا يُمكن لأمور من هذا القبيل أن تستمر. لدينا هنا، باعتراف الجميع، أفضل قوة شرطية في العالم، ولا بد بالضرورة أن نكون ملتزمين أمام الرجال الذين توجد مذكرات بشأنهم على خلفية اتهامٍ بالقتل العمد!»
تعرَّض رئيس الشرطة لمضايقات بما فيه الكفاية، وكان يميل إلى الاستياء من النقد الصادر من الوزير.
قال باقتضاب: «لقد فعلنا كل ما يُمكن فعله، يا سيدي. إن كنت تعتقد أن استقالتي ستُساعدك في الخروج من المأزق.»
احتج وزير الداخلية بأفضلِ ما يملك من سلوك غير برلماني: «بحق السماء، لا تكن أحمقَ. ألا ترى.»
قال رئيس الشرطة بعناد: «أرى أنه لم يقع ضرر حتى الآن»؛ ثم فاض به الكيل:
«اسمع، يا سيد! في أحيان كثيرة جدًّا يتعين على رجالنا توظيف شخصيات أسوأ بكثير من رجال العدالة الأربعة. وإذا لم نُوظفهم فإننا نستغلهم. لصوص صغار حقراء، يدعونهم «مخبرين»، سجناء سابقون مسنُّون، ولصوص منازل، وفي مرات قليلة أناس أسوأ. نحن موجودون لحماية العامة؛ وما دام العامة محميِّين، لا يستطيع أحدٌ أن …»
«ولكن لستم أنتم من يحمي العامة، فأنتم تتلقَّون معلوماتكم من …»
«من مجلس العدالة، هذا صحيح؛ ولكن لا يُهِم مصدرها. اسمع، يا سيد.»
كان جادًّا جدًّا وأكَّد ملاحظاته بطَرْقات خفيفة على المكتب.
قال بجدية: «أخرج أمير الإسكوريال من البلاد. لديَّ معلومات تُفيد بأن منظمة المائة الحمر تُريد سفك دمه. لا، لم أتلقَّ تحذيرًا من رجال العدالة الأربعة، وذلك هو الجانب الغريب في الأمر. وصلتني المعلومة مباشرةً من رجل يبيع لي المعلومات. سأراه الليلة إذا لم يقتلوه.»
«ولكن الأمير ضيفنا.»
قال رئيس الشرطة العملي وغير العاطفي: «لقد مضى على وجوده وقتٌ أطول من اللازم. دعه يعود إلى إسبانيا، سيتزوج في غضون شهر؛ دعه يعود إلى وطنه ويشتري جهاز العروس أو أيًّا كان ما يشتريه.»
«هل هذا اعترافٌ منك بأنك لا تستطيع حمايته؟»
بدا رئيس الشرطة غاضبًا.
«بوسعي حماية طفل في السادسة من عمره أو سيد رزين في الستين من عمره، ولكن لا يُمكنني أن أكون مسئولًا عن شاب يُصِر على أن يرى لندن بدون حراسة، ويقود السيارة في جولات منفردة، ويرفض أن يُعطينا أي معلومات مسبقة عن خططه لليوم، أو إذا فعل، لا يلتزم بتلك الخطط!»
كان الوزير يتمشى ببطء في الشقة مُطأطئ الرأس مستغرقًا في التفكير.
بعد قليل قال: «فيما يتعلق بأمير الإسكوريال، فقد نُقِلَت النصيحة بالفعل إلى سموه — من السلطة العليا — ليُغادر في أقرب ميعاد ممكن. الليلة، بالتأكيد، هي ليلته الأخيرة في لندن.»
أبدى رئيس الشرطة شعورًا مفرطًا بالارتياح.
قال وهو ينهض: «سيذهب إلى قاعة الأوديتوريوم الليلة.» تحدث بقليل من التأسِّي، وبالفعل كانت قاعة الأوديتوريوم، مع أنها قاعة موسيقية فاخرة جدًّا، كانت تتمتع بسمعة متواضعة. «سأضع اثنَي عشرَ رجلًا في المنزل، وسأجعل سيارته تنتظر أمام الباب الخلفي عند نهاية العرض.»
في تلك الليلة وصل سموه في الساعة الثامنة بالضبط ووقف يتحدث بود مع المدير الحاسر الرأس في المدخل. ثم مضى وحده إلى مقصورته وجلس في ظل الستارة المخملية الحمراء.
في الثامنة بالضبط وصل هناك سيدان آخران، يرتديان أيضًا ملابسَ السهرة. كان أحدهما هو أنطونيو سيلليني والآخر هو كارل أولمانز. كان كلاهما شابًّا، وقبل أن يترجلا من السيارة أنهيا ترتيبهما.
«ستشغل المقصورة التي في الجهة المقابلة، ولكني سأُحاول دخول المقصورة. إذا نجحت، سيكون الأمر قد انتهى. السكين هي أفضل وسيلة»، كان ثمة فخر في نبرة صوت الإيطالي.
«إذا لم أتمكَّن من الوصول إليه فسيكون الشرف من نصيبك.» كان يتسم بطريقة الشباب اللاتينيين المتكلفة. غمغم الرجل الآخر. وأجاب بفرنسية سيئة.
قال: «ذات مرة أصَبت بيضة من بين إصبعَين، هكذا.»
دخل كلٌّ منهما إلى القاعة بمفرده.
في مكتب المدير، خفف المفتش فالموث من ملل الانتظار بقراءة الإعلانات في صحيفة مسائية.
جاءه المدير يحمل رسالة بعدم ازعاج سموه في المقصورة «أ» تحت أي ظرف من الظروف حتى انتهاء العرض.
في ذلك الوقت مضى السيد سيلليني بحذر إلى المقصورة «أ». وجد الطريق خاليًا، وأدار المقبض برفق، ودخل بسرعة إلى داخل المقصورة المظلمة.
بعد ذلك بعشرين دقيقة وقف فالموث في خلفية مقاعد الملابس الرسمية يوجِّه التعليمات إلى معاون له.
«ضع رجلَين عند الباب الخلفي للقاعة، يا إلهي!»
فوق من صوت الموسيقى الناعمة، ومن همهمة الأصوات، رَنَّ صوت طلقة وصرخت امرأة. ومن المقصورة المقابلة لمقصورة الأمير تصاعدت دوامة رفيعة من الدخان.
كان كارل أولمانز، إذ سئم من الانتظار، قد أطلق النار على الجسد الساكن الجالس في ظل الستارة. ثم سار بهدوء خارجًا من المقصورة لتتلقفه أذرع مفتشَين متوترَين.
صاح فالموث وهو يجري: «طبيب!» كان باب المقصورة «أ» موصدًا، لكنه فتحه عَنْوة.
كان يوجد رجل راقد على أرضية المقصورة ساكنًا تمامًا ومتيبسًا على نحو غريب.
قال المفتش: «عجبًا! ما …» كان القتيل مكبَّل اليدَين والقدمَين.
كان ثمة حشدٌ بالفعل عند باب المقصورة، وسمع صوتًا آمرًا يطلب الدخول.
نظر خلفه لتلتقيَ عيناه بعينَي رئيس الشرطة.
قال بمرارة: «لقد قتلوه، يا سيدي.»
سأله رئيس الشرطة متحيرًا: «قتلوا من؟»
«صاحب السمو.»
ارتفع حاجبا رئيس الشرطة في ذهول تام وقال: «صاحب السمو! عجبًا! لقد غادر الأمير محطة قطارات تشارينج كروس متجهًا إلى القارة منذ نصف الساعة!»
شهق المفتش مذهولًا.
«إذن مَن هذا بحق الرب؟»
كان إم مينشيكوف، الذي كان قد دخل مع رئيس الشرطة، هو من أجاب.
قال: «أنطونيو سيلليني، أناركي من ميلانو.»
تزوج كارلوس فرديناند بوربون، أمير الإسكوريال، ودوق بودا جراتس، ووريث ثلاثة عروش، وشعَر أبناء عمومته النبلاء الكثيرون المتفرقون في سائر أنحاء أوروبا بارتياحٍ عميق.
أمير ذو رُؤًى تقدمية حقًّا، ومؤمن بالمثل العليا، وبمخططات مثالية لإعادة تشكيل البشرية، وفيما يتعلق بالجانب العملي الاعتيادي للحياة، كان قائد سيارات متهور، وفارسًا جريئًا على نحو لا يُحتمَل، وتُسيطر عليه لا مبالاة بالرأي العام التي هي عتاد الحمقى والعظماء على السواء، وكانت البلاطات الملكية في سائر أنحاء أوروبا تتطلع إلى زواجه باعتباره إنجازًا عالميًّا. قال صاحب الجلالة إمبراطور أوروبا الوسطى لمستشاره الأشيب:
«يا إلهي، أتفهم، يا فون هيدليتز؟ في كل كنيسة.»
قال المستشار، وهو يهز رأسه بتفكر: «إنه مصدر ارتياح كبير.»
قال الإمبراطور: «ارتياح!» ومد جسمه كما لو كان الارتياح جسديًّا، وأضاف: «ذلك الشاب مدين لي بسنتين من الحياة. هل سمعت بمقالة لندن؟»
كان المستشار قد سمع بها — في الواقع، سمع بها ثلاث مرات أو أربعًا — لكنه كان مستشارًا مهذبًا وأصغى بانتباه. كان جلالته يمتلك حقًّا مَلَكة رواية القصص، وأسهب في سرد المقدمة.
«… لو كنت سأُصدق سموه، فإنه كان جالسًا بهدوء في المقصورة عندما دخل الإيطالي. رأى السكين في يده وانتصب جزئيًّا ليتعامل مع الدخيل. فجأة، ومن مكان غير محدد، هب ثلاثة رجال، أسقطوا القاتل على الأرض مكبلًا ومكمَّم الفم. يُمكن أن يخطر على بالك أن رجلَنا كارلوس فرديناند قد صرخ! لكنه ليس هو من يفعل ذلك! لقد جلس ساكنًا، مُقَسِّمًا انتباهه بين خشبة المسرح والرجل المسجَّى أرضًا وقائد هذه المجموعة الغامضة من المنقذين.»
أضاف المستشار: «رجال العدالة الأربعة!»
صحح الإمبراطور الراوي للقصة: «ثلاثة، حسبما أستطيع استخلاصه. حسنًا، يبدو أن هذا القائد، بهدوء منطقي جدًّا، وبطريقة الأمر الواقع، قد اقترح أنه يتعين على الأمير أن يُغادر بهدوء؛ إذ كانت سيارته عند الباب الخلفي، وكان صالونًا قد حُجِز له في قطار مغادر من محطة قطارات تشارينج كروس، وقُمرة في سفينة مُغادِرة من ميناء دوفر، وقطار خاص في كاليه.»
كان لدى جلالته سمةٌ غريبة تتمثَّل في تدليكه لرُكبَته عندما يسرُّه أي شيء، وهذا ما فعله حينئذٍ.
«أطاع كارل كالطفل، وهي ما تبدو النقطة الغريبة على نحو لافت بشأن الوقائع كلها، ورُبِط الأناركي المقبوض عليه وكُبِّل وأُجْلِس على الكرسي، وتُرِك لأفكاره غير السارة.»
قال المستشار: «وقُتِل.»
صحَّح الإمبراطور: «لا، لم يُقْتَل؛ فجانبٌ من القصة التي أرويها لك يرجع إليه؛ إذ أخبر به الشرطة في المستشفى، لا، لا، لم يُقْتَل؛ فلم يكن صديقه راميًا ماهرًا كما ظن.»