رجال العدالة الأربعة في مواجهة المائة الحمر
رأى بعض العمال، أثناء عودتهم إلى منازلهم في إحدى الأمسيات من طريق مختصر عبر حقل يبعد ميلَين عن كاتفورد، رجلًا معلقًا مشنوقًا من شجرة.
جرَوا عبر الحقل ووجدوا سيدًا يرتدي ملابسَ عصرية وذا مظهر أجنبي. قطع أحدُ العمال الحبل بسكينه، لكن الرجل كان قد مات بالفعل عندما قطعوا الحبل وأنزلوه. تحت الشجرة كانت توجد حقيبة سوداء، كان أحدٌ ما قد ثبت عليها بطاقة تحمل التحذير «ممنوع اللمس. هذه الحقيبة تحتوي على متفجرات. أبلغ الشرطة.» غير أن الأمر الأجدر بالملاحظة كان بطاقة الأمتعة المربوطة في طيَّة صدر معطف الرجل. كان مكتوبًا عليها ما نصه: «هذا هو فرانز كيتسينجر، مُدانٌ في براغ في عام ١٩٠٤، بتهمة إلقاء قنبلة؛ هرب من السجن في ١٧ مارس من عام ١٩٠٥، وكان أحدَ ثلاثة رجال مسئولين عن محاولة الاعتداء على جسر البرج اليوم. أُعْدِم بأمر من مجلس العدالة.»
قال رئيس الشرطة عندما نقلوا إليه الخبر: «إنه اعتراف مهين، ولكن وجود هؤلاء الرجال يُزيل حِملًا ثقيلًا عن ذهني.»
لكن منظمة المائة الحمر كانت مستمرةً بصلابة.
في تلك الليلة، تَمَشَّى رجل، يُدخن سيجارًا، على غير هدًى مارًّا بالشرطي الواقف عند نقطة خدمة عند ناصية حدائق كنسينجتون بارك، وسار على نحو عادي داخلًا إلى ميدان لادبروك. تابع سيره المتمهل، وسلَك منعطفًا، عابرًا طريقًا، ووصل إلى حيث تُوجَد حديقة كبيرة أمام صفٍّ مزدوج من منازل الطبقة المتوسطة. كانت خلفية هذه المنازل تُطِل على الميدان. تلفَّت حوله، ولما رأى أن المنطقة خالية، تسلق الحواجز الحديدية وهبط في ساحة الألعاب الترفيهية الكبيرة، ممسكًا بحرص شديد بشيء برَز من جيبه.
ألقى نظرة متمهلة على المنازل قبل أن يختار الضحية. كانت ستائرُ هذا المنزل بالتحديد مرفوعة وكانت النوافذ الفرنسية لغرفة الطعام مفتوحة، واستطاع أن يرى مجموعة ضاحكة من الشباب حول المائدة. كان حفل عيد ميلاد أو شيء من هذا القبيل يجري؛ لأنه كان ثمة استعراض كبير لقبَّعات بارثية وقبعات ورقية واقية من الشمس.
كان من الواضح أن الرجل كان راضيًا عن احتمالات حدوث فاجعة، وخطا خطوة مقتربًا.
أحاطت به ذراعان قويتان، بدَت عضلاتهما مثل حبال من الفولاذ.
همس صوت في أذنه: «ليس هكذا، يا صديقي.»
ظهرت أسنان الرجل في ابتسامة مرعبة.
تلقَّى الرقيب المناوب في مخفر نوتينج هيل رسالة قصيرة سلمها له أحد أطفال الشوارع القذرين، الذي نال سمعة سيئة لأيام بعدها.
قال الصبي: «طلب مني أحدُ السادة أن أُحضر لك هذه.»
الرجل الثاني من الرجال الثلاثة المعنيِّين بمحاولة تفجير جسر البرج سيكون موجودًا في حديقة ميدهام كريسينت، تحت شجيرات الغار، أمام البناية رقم ٧٢.
كانت ممهورة بتوقيع «مجلس العدالة.»
كان رئيس الشرطة جالسًا يتناول قهوته في فندق الريتز، عندما أبلغوه بالخبر. كان فالموث ضيفًا يُظهِر الاحترام في مسلكه، ومرَّر رئيس الشرطة الرسالة القصيرة إليه دون تعليق.
قال فالموث: «هذا سيُنهي على منظمة المائة الحمر. فهؤلاء الناس يقاتلونهم بأسلحتهم؛ الاغتيال بالاغتيال، والإرهاب بالإرهاب. ما دورنا في هذا؟»
قال رئيس الشرطة، متخيرًا كلماته بلطف كبير: «دورنا يأتي في النهاية، بأن نُزيل الفوضى، وننسب لأنفسنا أي فضلات باقية من الفضل من شأنها أن …» ثم توقف عن الكلام وهز رأسه. وشرع يقول: «آمُل، يُؤسفني …»
قال المحقق بإخلاص: «وأنا أيضًا»، لأنه عرَف أن رئيسه كان منشغلًا بالسلامة القصوى للرجال الذين كان القبض عليهم مسئوليته هو في الواقع. قطَّب رئيس الشرطة حاجبَيه في تفكير.
قال متأملًا: «اثنان. كيف بحق السماء يعرف رجال العدالة الأربعة العدد في هذه، وكيف تتبَّعوهم، ومن الثالث؟ بحق السماء! يُمكن للمرء أن يستمر في طرح الأسئلة طوال الليلة!»
في مرحلة ما ربما يكون رئيس الشرطة قد أُبلِغ في وقت سابق في المساء، أما هو فلم يكن قد أُبلِغ حتى الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي. كان الرجل الثالث هو فون دونوب. من الواضح أنه خرج لتمضية اليوم، غافلًا عن مصير رفاقه الإرهابيين.
بدأ الحشد أمام باب أحد المسارح في سلسلة من الأفكار المتلاحقة، لكنه أبى الإفصاح عن تطلعاته. كان الأمر علنيًّا أكثر من اللازم، وفرصة الهروب كانت معدومة. لم يفقد هذا الجمهور البريطاني صوابه بسرعة؛ فقد رفضوا أن تُربِكَهم الضوضاء والدخان، وجسد يتلوى هنا وهناك. لم يكن فون دونوب من دعاة مدرسة مجد الموت. كان يرغب بشدة في المجد، لكن كلما كانت المخاطرة أقل، كان المجد أعظم. كان هذا هو قانونه.
وقف برهة خارج فندق الريتز. كانت مجموعة ممن كانوا يتناولون طعام العشاء تُغادر، وكانت السيارات تنطلق لتحمل هؤلاء الأثرياء الملعونين ذوي النفوذ إلى المسرح. أبدى الأناركي اهتمامًا بسيد ذي طلة عسكرية وشارب رمادي، ويُرافقه رجل هادئ، متيقظ، حليق الوجه. تبادل النظرات مع الرجل العسكري.
تساءل رئيس الشرطة وهو يترجل من سيارة الأجرة: «بحق الشيطان من كان ذلك الرجل؟ يبدو أنني أعرف هذا الوجه.»
قال فالموث: «لقد رأيته من قبل. لن أذهب معك يا سيدي. لديَّ عمل يتعين عليَّ أن أقوم به في هذا الأنحاء.»
فيما بعد لم يتمكَّن فون دونوب من الاستمتاع بتمشيته في عزلة، إذ «اقتفى أثره» رجل غير معروف له وتبعه طوال الأمسية. ومع مرور الوقت، انضم إلى ذلك الرجل آخر، وعند الساعة الحادية عشرة صاروا ثلاثة، وعند الساعة الثانية عشرة إلا الربع، عندما كان فون دونوب قد حدد مكان عمله البطولي ونطاقه، انعطف من شارع بارك لين إلى شارع بروك ستريت، وأزعجته رؤيته لعدد كبير من الناس في الجوار. لكنه لم يشكَّ في شيء. لم يشك بشأن الرجل الذي كان يتجول ليلًا متسكعًا على الرصيف ومتجهًا بناظِرَيه إلى أسفل، يُفتش في المزراب عن عُقب سيجار شارد؛ ولا شكَّ بشأن الرجلَين اللذَين كانا يتبادلان الحديث بصوت مرتفع ويرتديان بذلتَين من قماش مربع بنفسجي واللذَين كانا يتجادلان أثناء سيرهما بشأن المزايا النسبية لخيول سباق الديربي المفضَّلة؛ ولا شك بشأن الحاجب الذي كان يمشي متثاقلًا عائدًا إلى بيته يحمل حقيبته في يده وغليونًا في فمه؛ ولا شك بشأن الرجل حليق الوجه الذي كان يرتدي ملابس سهرة.
كان وزير الداخلية يمتلك منزلًا في ساحة بيركلي. كان فون دونوب يعرف الرقم تمام المعرفة. أبطأ الخطى حتى يسمح للرجل في ملابس السهرة أن يتجاوزه. كان يتعيَّن عليه قَبول مخاطرة وجود سيارة الأجرة التي تسير ببطء على بعد خمسين ياردة منه. كانت هذه السيارة تُلاحقه باستمرار طيلةَ الساعة الماضية، لكنه لم يكن يعرف ذلك.
أدخل يده في جيب معطفه الطويل وأخرج الآلة. كانت واحدةً من روائع كالفيري وكانت، نوعًا ما، تجريبية؛ كان الزعيم قد أخبره بهذا محذرًا إياه في رسالة حملت ختم «ريجا». تحسس بإبهامه بحثًا عن مفتاح صغير «يشغل» الآلة وضغط عليه.
ثم دخل منسلًّا عبر مدخل البناية رقم ١٩٦ ووضع القنبلة. فعل هذا في ثانية، وعلى حد علمه لم يكن أي رجل قد رآه يُغادر الممر وعاد إلى رصيف المشاة بسرعة كبيرة. لكن ما إن خطا متراجعًا، حتى سمع صيحة وانطلق رجلٌ عبر الطريق، داعيًا إياه إلى الاستسلام. ومن اليسار جاء رجلان يُهرولان، ورأى الرجل الذي كان يرتدي ملابس السهرة يُطلق صافرة.
لقد قُبِض عليه؛ كان يعرف هذا. كانت توجد فرصة للهرب؛ فقد كانت الجهة الأخرى من الشارع خالية، فاستدار وأطلق ساقَيه للريح. كان بوسعه أن يسمع وقع أقدام مطارديه من خلفه. التقطت أذناه، اللتان كانتا متأهبتَين لكل مرحلة من المطاردة، صوت قدمَين تتفقدان سلالم البناية رقم ١٩٦ وتنزلان عليها بسرعة. ألقى نظرة سريعة خلفه. كانوا يقتربون منه، واستدار فجأة وأطلق النار ثلاث مرات. سقط أحدهم؛ كان ذلك مقدار ما رآه. ثم ظهر أمامه من الظلال شرطي طويل القامة وأمسك به من خصره.
صاح فالموث، وهو يجري نحوهما: «أمسك بذلك الرجل!» أقبل المتجول الليلي وهو يزفر بقوة، وكان شخصًا رثَّ الثياب لكنه كان ماهرًا، وكَبَّل يدَي فون دونوب على الفور.
كان هو مَن لاحظ عرَج المقبوض عليه.
قال: «مرحبًا!» ثم رفع يده وقال: «سلِّطوا ضوءًا هنا.»
كان يوجد ستة من رجال الشرطة وحشد لا يُمكن تفادي وجوده في المكان نفسِه حينئذٍ، وتركزت أشعة فوانيس عين الثور على يد المفتش. كانت ملطخة بالدماء. أمسك فالموث بفانوس وسلط ضوءه على وجه الرجل.
لم يكن ثمة حاجةٌ إلى إمعان النظر أكثر من ذلك. لقد مات؛ مات وعلى جثته البطاقة المحتومة المثبتة على مقبض السكين الذي قتله.
أطلق فالموث سبة.
«هذا لا يُصَدَّق! مستحيل! لقد كان يجري حتى أمسك الشرطي به، ولم يُفلت من أيدينا! أين الشرطي الذي أمسك به؟»
لم يُجِب أحد، من المؤكد أنه لم يكن الشرطي الطويل القامة، الذي كان في تلك اللحظة يركب سيارة متجهةً شرقًا، ويُغير ملابسه بسرعة ويلبس ثيابًا مسائية تقليدية لسيد إنجليزي.