الزعيم المريض!
سار «أحمد» هادئًا واجتاز باب مطار «ليونارد دافنشي» الدولي، ثم ذهب إلى أحد أكشاك بيع الجرائد، وأخذ ينتقي بعض الصحف والمجلات، ولكنه في الحقيقة كان يرقب الرجال الذين كانوا يتحرَّكون من بعيدٍ، ولكن تحرُّكاتهم لم تكن لتخدع «أحمد»، وحمل الصحف، وبدلًا من الاتجاه إلى الفندق اتجه إلى كافتيريا المطار وجلس وتظاهر بقراءة إحدى المجلات بينما عيناه تتجولان هنا وهناك، كان يفكِّر في حلٍّ لهذه المشكلة الطارئة، واستقرَّ رأيه على فكرةٍ لمعت في رأسه، وقام فورًا لتنفيذها. لقد اتجه إلى مكتب شركة الطيران البريطانية، وطلب حجز تذكرة إلى القاهرة في نفس الليلة.
قالت عاملة التذاكر: ولكن يا سيدي … إن التذكرة محجوزةٌ غدًا على الطائرة التي تُغادر المطار في التاسعة صباحًا!
أحمد: إنني مضطرٌّ للسفر هذه الليلة، هناك مسائل عاجلة …
قالت العاملة: إن الطائرة القادمة من «لندن» ستتوقف هنا في التاسعة تمامًا، وسوف أتصل بالمركز الرئيسي لأرى ما إذا كان أحد الركاب قد تخلَّف عن الحضور، إن قائمة الركاب أمامي كاملة العدد، ولكن إذا كان أحد الركاب قد تخلَّف … فسأجد لك مكانًا …
أحمد: أشكركِ كثيرًا … إنني في الانتظار بالكافيتريا …
وعندما استدار «أحمد» ليعود إلى الكافيتريا وجد شخصًا يقف خلفه تمامًا … كان من الواضح أنه استمع إلى حديثه، ولكنه لم يهتم … إن عصابة «كوجانا» لا يمكن أن تفكر في خطفه في المطار المزدحم؛ ولهذا عاد يسير متمهلًا إلى الكافيتريا، وطلب بعض الساندويتشات، وكوبًا من الشاي …
جلس «أحمد» مكانه، ومضت نحو نصف ساعة، ثم سمع حوله دقات حذاء ثقيل ورفع عينيه، فشاهد رجلَيْن من رجال الشرطة الإيطالية يتجهان نحوه، ثم وقفا أمامه فقال أحدهما: معذرةً يا سنيور … ولكنك مطلوبٌ لدقائق قليلةٍ في مبنى شرطة المطار!
أحمد: لماذا؟!
الشرطة: هناك اشتباهٌ في جواز السفر الذي تحمله يا سيدي … اشتباه أن يكون مزيفًا!
أحمد: عجبًا، لقد مررت بضابط الجوازات ولم يخطرني بذلك!
الشرطي: لا أدري يا سنيور … على كل حال لن نأخذ من وقتك سوى دقائق قليلة …
لم يجد «أحمد» مفرًّا من الذهاب مع الرجلين، على أن يعود بعد ذلك للسؤال عن التذكرة، وهكذا قام وسار بينهما، ووجدهما يتجهان إلى خارج المطار …
فقال: أين قسم الشرطة؟
الشرطي: إنه في المبنى المجاور للمطار يا سنيور!
خرج «أحمد» من المطار إلى الساحة الواسعة، كان المطر يهطل بشدة، والسماء ترعد، وأحس بقشعريرةٍ في بدنه، وسار بين الرجلين، ولكنه لم يستمر سوى بضع خطواتٍ؛ فقد توقفت سيارة بجوارهم، ثم فُتح بابٌ فيها، وقبل أن يدري «أحمد» ماذا حدث … كان أحد الشرطيين قد وضع مسدسًا ضخمًا في أضلعه وقال مهددًا: اركب!
أدرك «أحمد» عدة أشياء في وقتٍ واحد؛ أن رجلَي الشرطة مزيفان، أنه مخطوف للمرة الثانية في ٤٨ ساعة، وأنه كان ساذجًا عندما صدَّق كلامهما.
أدرك هذا كله، ولكن بعد فوات الأوان، وظلَّ المسدس بين أضلعه، بينما انطلقت السيارة في طريق المطار إلى «روما»، وتذكر «أحمد» مغامرة «ثلاث دقات وكلمة واحدة»، لقد جرت في إيطاليا أيضًا، ولكن في الشمال، في «ميلانو»، أما الآن فهذه مغامرة ثانية، ولكن في «روما» عاصمة إيطاليا.
كان الصمت يشمل الموجودين كلهم؛ السائق، والشرطي المزيف الجالس بجواره، والشرطي المزيف الجالس بجوار «أحمد»، ولم يكن يسمع في الصمت إلا صوت المحرك؛ محرك السيارة، والعجلات وهي تمرق على الأرض الزلقة، ومضت نصف ساعة، وأحسَّ «أحمد» بالسيارة تهتز، ثم تنحرف يمينًا وتدخل في طريق فرعي، وسمع صوت آلاتٍ بعيدةٍ تدور، وعرف أنه بالقرب من أحد المصانع.
توقفت السيارة بعد أن دارت دورةً واسعة، ووجد «أحمد» نفسه يدور أمام ساحة قصرٍ مضاء، وسمع صوت سلاسل تُرفع، ثم فُتح باب حديدي ضخم، ومرقت السيارة بعد أن تحدث السائق مع البواب، ولاحظ «أحمد» على أضواء القصر أنه يُشبه قلعةً من القلاع القديمة على الطراز الروماني، وصعد سلمًا من الرخام بين رجلَيْن مسلحَيْن حلَّا محل الشرطيين، ومرة أخرى سمع حديثًا في جهاز تليفون على الباب قبل أن يفتح.
ودخل إلى القصر، كانت الصالة من فرط ضخامتها تُشبه ملعبًا مستديرًا، وقد تدلَّت عشراتٌ من الثريات تُضيء المكان، وظهر رجلٌ في ثياب الخدم، وأشار إلى غرفةٍ تحت السلم الداخلي، وسار الثلاثة «أحمد» والحارسان إلى الغرفة، ودقَّ أحدهما الباب ودخل، وبعد لحظاتٍ دخل «أحمد».
كانت غرفة مكتب … ذكَّرته بغرفة مكتب «مارتينز» في الأرجنتين، ولكن الرجل الجالس خلف المكتب كان يبدو قليل الأهمية بالنسبة للرجل الأسطورة «مارتينز».
قال الرجل على الفور: إنك يا سنيور ضيفنا … ونحن نعامل الضيوف بكل احترامٍ، كل ما أرجوه أن تستمع إلينا جيدًا!
وقبل أن يرد «أحمد» فُتح باب جانبي وظهر «كوجانا» بوجهه الذي يُشبه وجه الغوريللا … وقوامه الضخم غير المنسق … «كوجانا» الذي هزمه «أحمد» في جزيرة «سنتشوزا» واستعاد منه الفيلم بعد أن حصل عليه من «إلهام» …
كانت عينا «كوجانا» تقذفان بالشرر، وهو يرى المغامر الشاب الذي هزمه تحت أشجار «سنتشوزا» وقال بصوت خشن: إذن فقد وقعت أيها الفأر الصغير! …
قال الرجل الجالس خلف المكتب: صمتًا يا «كوجانا» … إن المسألة خرجَت من يدك الآن، إن الزعيم هو الذي سيتولَّى الحديث معه …
كوجانا: بيني وبينه ثأر لا بد من أن أحصل عليه.
الرجل: دعك الآن من هذه التخاريف.
ورفع الرجل سمَّاعة التليفون الداخلي، وتحدَّث فيه همسًا، كان يبتسم كأنه قد حصل على أثمن جوهرةٍ في العالم، وبعد لحظات من الحديث، وضع السماعة وقال ﻟ «أحمد»: سيراك الزعيم بعد لحظات، إنني أنصحك بالاستماع إليه …
أحس «أحمد» بالضيق … فهذه المغامرة فيها أحاديث كثيرة وأكاذيب ومحاولات لا معنى لها، لم يرد على الرجل ولكنه طلب كوبًا من الشاي، سرعان ما أحضروه، وأخذ «أحمد» يرشفه على مهل، ولم يكن يفكِّر في شيء، لقد ترك التفكير لحين لقاء هذا الزعيم، ولم يَطُل انتظاره، فبعد لحظاتٍ دقَّ جرس التليفون، وبعد أن تحدَّث الرجل لحظاتٍ قال ﻟ «أحمد»: تعال معي …
وأنهى «أحمد» كوب الشاي على مهلٍ بينما كان الرجل يقف منتظرًا ينظر إليه في دهشةٍ … ثم قام «أحمد»، وسار مع الرجل، اجتاز صالة القصر الواسعة، ولاحظ «أحمد» أنها تعجُّ بالحراس، ثم ركبا مصعدًا فاخرًا لا يتسع لأكثر من شخصَيْن صعد بهما متمهلًا إلى الدور الثالث من القصر ثم توقف، وخرجا، سارا في دهليزٍ طويلٍ يقف في كل طرفٍ منه حارس مسلح، ثم توقف الرجل أمام أحد الأبواب، وشدَّ قامته، ودق الباب ثم دخل، وراء «أحمد».
دهش «أحمد» عندما وجد نفسه في غرفة نوم واسعة لم يرَ لها مثيلًا من قبل، كانت مزدانةً كلها بدرجاتٍ من اللون الأزرق، سواء الستائر أو السجاجيد أو الفراش الفخم، وعلى الفراش وتحت الأغطية الزرقاء تمدَّد رجلٌ ضئيل الحجم، شاحب اللون، ضخم الرأس، لامع العينين بطريقةٍ مدهشةٍ، وقد استند على بعض الحشايا البيضاء المطرَّزة بالأزرق، وانحنى الرجل القادم مع «أحمد» وهمس بصوتٍ مسموعٍ للنائم في الفراش: هذا هو الشاب المطلوب أيها الزعيم.
أشار الرجل بإصبعه فانصرف المتحدث على الفور، ثم أشار ﻟ «أحمد» ليجلس على كرسي بجوار الفراش، وأخذ ينظر إليه بعينيه النافذتين لحظات.
ثم قال: تستطيع أن تناديني «بالوتشي»! …
تذكَّر «أحمد» على الفور هذا الاسم … «بالوتشي» «فوتوريو بالوتشي» رجل العصابات الرهيب، زعيم مافيا وسط إيطاليا التي تسيطر على النشاط الصناعي الضخم … ويقدَّر عدد أفرادها ببضعة ألوفٍ.
وتذكَّر «أحمد» المعلومات التي درسوها عنه في المقر السري «ش. ك. س» وأحس برعدةٍ في أعماقه؛ فهذا الرجل الشاحب المتمدد تحت الأغطية الزرقاء من أكثر زعماء العالم السفلي بطشًا وأكبرهم نفوذًا …
عاد «بالوتشي» يقول بصوته الناعم: هل تعرفني أيها الشاب؟ إن من يقرأ ملامح وجهك الآن لا يشك لحظةً في أنك تتذكر بعض المعلومات عنِّي … فماذا قالوا لك؟
تحدَّث «أحمد» لأول مرةٍ منذ وصل القصر قائلًا: ليس لك صيتٌ ذائعٌ في عالم الجريمة يا سنيور «بالوتشي»!
ابتسم الرجل ابتسامةً واهنة وقال: أرجو ألَّا يكونوا قد أساءوا الحديث عنِّي …
لم يرد «أحمد» على هذه الملاحظة ومضى «بالوتشي» يقول: إنني لم آتِ بك إلى هنا لنتحدث عن نفسي، ولكني في الحقيقة أحببت أن أراك بعد أن استطعت التغلُّب على «كوجانا» الغوريللا في جزيرة «سنتشوزا» … إن ذلك شيءٌ مدهش يا بني، وإذا كنت تعمل مع أية منظمة مقابل النقود، فإنني أعرض عليك أي مبلغ تريده أو تحدده مقابل أن تنضمَّ إلينا!
قال «أحمد» وقد أحس أنه يريد أن يسمع أكثر من هذا الرجل الرهيب: لقد عرضوا عليَّ كثيرًا هذا العرض يا سنيور «بالوتشي» … والمشكلة أنني لا أعمل من أجل المال … ولكن من أجل المبدأ.
بالوتشي: نعم يا بني … إنها بذلك مشكلة حقًّا … فإن الرجل الذي يرفض المال رجلٌ خطيرٌ.
وصمت «بالوتشي» لحظاتٍ ثم قال: إذن ماذا تريد أيها الشاب؟
قال أحمد: إنني أريد أن أسألك هذا السؤال يا سنيور «بالوتشي» … لقد اختطفت ومن حقي أن أعرف لماذا؟
قال «بالوتشي»: لا تدعني أشكُّ في ذكائك … إنك تعرف بالقطع لماذا أتينا بك إلى هنا.
أحس «أحمد» بالخجل؛ فليس الحديث مع «بالوتشي» بهذه الطريقة مناسبًا، وأنقذه «بالوتشي» فأكمل حديثه قائلًا: إنك تتصور أننا مهتمون بهذا الفيلم الذي حصل عليه «كوجانا» ثم استعدته أنت، ثم حصلت عليه عصابة الوحش الأصفر! …
كانت هذه أول مرة يسمع فيها «أحمد» هذا التعبير، «الوحش الأصفر»، ومضى «بالوتشي» يقول: وقد استطعتم خداع الوحش الأصفر … وكما علمنا أن الفيلم قد احترق بمجرد محاولة تصويره، إنها خدعةٌ بارعةٌ وأنا أهنِّئكم عليها.
ابتسم «أحمد» … فقال «بالوتشي»: إن المسألة لم تعد مسألة الفيلم … إنه يساوي حقًّا بضعة ملايين من الجنيهات، ولكن المهم الآن هو كرامة المافيا، إن حصول الوحش الأصفر على الفيلم يعني أنه هزمنا، ونحن لا نقبل أن يهزمنا أحد، إذن فالفيلم ليس هو القضية، القضية الآن من الذي يستطيع الحصول عليه؟! … عصابة الوحش الأصفر … أم عصابة المافيا … فما رأيك؟