نمور وأسود وتماسيح
أخذ «أحمد» يفكر في حديث «بالوتشي» لقد وقع الآن بين فكي الكماشة، أو بين فكي الأسد … عصابة «الوحش الأصفر» من ناحية، وعصابة «المافيا» من ناحيةٍ أخرى، وعاد «بالوتشي» … يسأل: ماذا ترى يا بني؟
قال «أحمد» على الفور: إنك تضعني في موضعٍ حرجٍ، وكأنني أحمل الفيلم في جيبي، ولو كان الأمر كذلك لما احتجتم إلى خطفي، إن الفيلم الآن في مكانٍ بعيد عن متناول أيدينا وليس لي أي سيطرةٍ على من يملكونه … إنه ملك للدول العربية … فكيف تتوقع أن أحصل عليه؟
رد «بالوتشي» بشيءٍ من القسوة: إنها مشكلتك يا بني … إن في إمكانك أن تُرسل برقيةً من هنا إلى المنظمة التي تعمل بها؛ ليرسلوا لك الفيلم مقابل حياتك.
أحمد: قد لا تكون حياتي بهذه الأهمية يا سنيور «بالوتشي»، ربما تفضِّل المنظمة التي أعمل بها أن تتركني لمصيري …
أشاح «بالوتشي» بيده وقال: دعنا نُجرب، المهم أن تكتب البرقية.
وأدار «بالوتشي» رأسه إلى الناحية الأخرى، وعرف «أحمد» أنه بهذا ينهي المقابلة، فوقف، ولكن «بالوتشي» عاد يقول: عندما كنت شابًّا في مثل سنك كان ما يهمني هو مصلحتي فقط، فدعك الآن من التفكير في المثل العليا!
تحرك «أحمد» خارجًا، ولم يتحدث «بالوتشي» مرة أخرى، حتى غادر «أحمد» الغرفة الزرقاء، ووجد حارسًا عند الباب اصطحبه إلى المكتب في الدور الأرضي، كان الرجل الذي استقبله أول مرةٍ ما زال موجودًا، وعندما دخل «أحمد» دفع إليه بنصِّ برقيةٍ مكتوبةٍ، وعرف «أحمد» أن «بالوتشي» قد اعتبر ما اقترحه عن البرقية سيتم تنفيذه. فأمسكها «أحمد» وأخذ يقرؤها على مهلٍ:
أرسلوا نسخة أخرى من الفيلم … سيتصل مندوبكم بمجرد وصوله إلى «روما» برقم تليفون ٣٥٢٢٢-٢٣٦. المهلة المحددة للوصول ثلاثة أيام …
وقدم الرجل قلمًا ﻟ «أحمد» منتظرًا توقيعه، ولكن «أحمد» لم يمسك بالقلم وقال: أريد أن أقابل «بالوتشي» … مرة أخرى!
قال الرجل بصراحة: إننا لا نهزل أيها الشاب … والسنيور «بالوتشي» قد نام الآن، ولن تستطيع أن تراه إلا بعد ثلاث ساعات!
أحمد: لا بأس … سأنتظر الساعات الثلاث!
عاد الرجل يقول: وقِّع البرقية، وضَعِ العنوان، إن هذه فرصتك الأخيرة.
أحمد: قلت لك إنني أريد مقابلة «بالوتشي»، لقد قدَّمتم شروطكم وسأقدم أنا أيضًا شروطي.
وسحب الرجل البرقية والقلم وقد احتقن وجهه غضبًا، ولكن لم يكن يملك أمام إصرار «أحمد»، إلا أن يصمت ثم دقَّ جرسًا أمامه، وظهر أحد الحراس، وقال الرجل: خذ هذا وضعه في الغرفة رقم «٩» ولا تغفل عنه …
قام «أحمد» وتبع الحارس، كان يريد فترة يُرتِّب فيها أفكاره؛ فقد اختلطت الأمور اختلاطًا شديدًا، وبعد أن مرَّا بعدد من الدهاليز العامرة بالحراس … وصلا إلى الجزء الخلفي من القصر، ووجد «أحمد» نفسه أخيرًا في غرفةٍ ضيقةٍ أشبه بالزنزانة، فيها فراش ومكتب وملحق بها دورة مياه خاصة.
ألقى بنفسه على الفراش، واستغرق في النوم بعد مُضي لحظات، لقد كان متعبًا ومرهقًا وفي حاجةٍ إلى تجديد نشاطه، وكان قد استقر بينه وبين نفسه على خطة خفية تعطيه فسحة من الوقت، وفجأة استيقظ «أحمد» على يد تهزه، ووجد الحارس يحمل إليه بعض الطعام والشاي، فقام واغتسل، وتناول طعامه بشهيةٍ، وعندما نظر إلى ساعته أدرك أنه نام نحو ساعتَيْن، وأحسَّ بنشاطه يتجدَّد وبذهنه يصفو.
بعد نحو نصف ساعةٍ جاء الحارس، واستدعاه لمقابلة «بالوتشي»، ووجد نفسه مرة أخرى في الغرفة الزرقاء، كان «بالوتشي» أكثر شحوبًا من ذي قبل، وكان من الواضح أنه يعاني من مرضٍ خطيرٍ، فلم يكن قد بقي من رجل العصابات الإرهابي الخطير سوى عينيه، أما جسده فقد أذابه المرض.
قال «بالوتشي» على الفور: تريد أن تقابلني، هل من جديدٍ؟!
أحمد: نعم يا سنيور «بالوتشي» … لا أدري إذا كنتم تعرفون أن عصابة «الوحش الأصفر» تحتفظ بزميلين لي رهينة مقابل إحضار الفيلم، وهذا هو سبب الإفراج عني.
بالوتشي: نعم … نعلم هذا جيدًا!
أحمد: إن لي شرطًا واحدًا للتعاون معكم هو الإفراج أولًا عن زميليَّ! …
بالوتشي: تشترط؟!
أحمد: نعم …
فكر «بالوتشي» … قليلًا، ثم مدَّ يده ليتناول شرابًا أبيض اللون، بعدها ضغط على زر بجواره، وأمسك سماعةً صغيرة، وأخذ يتحدث في صوت واهنٍ، واستطاع «أحمد» أن يستمع إلى بضع كلماتٍ مما قاله «بالوتشي» وفهم على الفور أنه يبحث عن مساعديه لإمكانية الإفراج عن زميلي «أحمد».
وبعد لحظات وضع «بالوتشي» السماعة وقال: وإذا لم نقبل شروطك؟
أحمد: في هذه الحالة سأتصور أنكم تخافون من دخول معركة مع الوحش الأصفر!
بالوتشي: إنك تدفعنا دفعًا إلى الدخول في هذه المعركة!
أحمد: إن اللجوء إلى الخطف مسألة سهلة يمكن أن تقوم بها أية عصابة، ولكن الانتصار الحقيقي يكون بالصدام والمواجهة!
بالوتشي: إنك تذكرني بشبابي يا بني؛ فعندما كنت في مثل سنك لم أكن أعرف حَكَمًا إلا المسدس أو المدفع الرشاش.
أحمد: وماذا ترى الآن؟
بالوتشي: إن فرع «المافيا» في هذه المنطقة يقوده رجلٌ من أفضل رجالنا هو «كاسينا»، وسوف تسافر إليه مع «كوجانا» لأن «كوجانا» يعمل هناك أيضًا، وقد أعطيته التعليمات اللازمة لإنجاز المهمة.
أحمد: إذن فأنت قد وافقت يا سنيور «بالوتشي»؟
بالوتشي: لقد أعجبني الاقتراح يا بني، وكل ما أرجوه ألا تحاولوا الهرب بعد ذلك، وعلى كل حال فإن رجالي هناك أقوياء، وليس معنى أنك انتصرت مرة على «كوجانا» أن في إمكانك الانتصار عليهم جميعًا.
وقال «أحمد» متسائلًا: ومتى نسافر يا سنيور «بالوتشي»؟
بالوتشي: إنهم يتخذون الإجراءات الآن للسفر، وأعتقد أنكم ستسافرون خلال ساعات.
أشار «أحمد» بيده مودعًا «بالوتشي» وخرج، فوجد الحارس في انتظاره، نزل معه إلى غرفة المكتب، وكان خمسة من رجال «بالوتشي» من بينهم «كوجانا» يجلسون معًا يتحدثون، فاختار «أحمد» ركنًا جلس فيه وأخذ يرقبهم.
كانت خواطره تدور حول ما سيحدث في الساعات أو الأيام القادمة، هذه أول مرةٍ يتعاون فيها مع عصابة من أجل زملائه، ولا أحد يستطيع أن يتنبَّأ بالنتائج، ولكن لم يكن أمامه ما يفعله سوى هذا.
بعد جلوسه بدقائق استدعاه «كوجانا» قائلًا: تعال لحظات!
قال «أحمد» دون أن يقوم من مكانه: في إمكاني أن أستمع وأنا هنا!
ثار «كوجانا» قائلًا: إنك يجب أن تسمع كلامي!
أحمد: إنني أسمعه وأنا هنا …
تدخَّل الحاضرون لتهدئة «كوجانا» الذي قال: لقد تمَّ حجز التذاكر … سنطير بعد ساعةٍ ونصف، سننزل أولًا في «سنغافورة» لمقابلة زعيم المنطقة هناك … فهل عندك اعتراض؟
أحمد: أبدًا …
كوجانا: إذن استعد للسفر …
أحمد: مستعد!
كوجانا: هيا بنا!
سار «كوجانا» في المقدمة وخلفه «أحمد»، وحوله رجلان مسلَّحان … وخلفه رجل آخر، حلقة محكمة من المراقبة … ولكن «أحمد» لم يكن يفكر في الفرار؛ فهذه فرصةٌ ذهبيةٌ لإنقاذ «عثمان» و«قيس» من قبضة «الوحش الأصفر» …
كان الظلام يشتمل مدينة «روما» في هذه الساعة المتأخرة من الليل … ولم يكن قد بقي على طلوع الفجر سوى ساعةٍ أو أقل، وأخذت السيارة الضخمة التي حملتهم من أمام القصر تطير على طريق المطار، ومضَت الإجراءات عاديةً حتى ركب الرجال الأربعة ومعهم «أحمد» الطائرة، وسرعان ما كانت تجتاز سماء إيطاليا جنوبًا إلى «سنغافورة»، وجلس «أحمد» صامتًا مستسلمًا لراحةٍ ذهنيةٍ وبدنية، استعدادًا للأيام القادمة.
بعد خمس ساعات من الطيران المتواصل … حلَّقت الطائرة فوق سماء الجزيرة الصغيرة … «سنغافورة» … ثم هبطت … وكان في انتظارهم سيارة سوداء حملتهم إلى الشاطئ … وفي قاربٍ كبيرٍ عبروا الممر المائي الفاصل بين «سنغافورة» و«سنتشوزا» وتذكَّر «أحمد» تلك الليلة التي طارد فيها «كوجانا» في الظلام واستعاد منه الفيلم … وعندما ساروا تحت الأشجار ووصلوا إلى المنطقة التي دار فيها الصراع، زمجر «كوجانا» … كأنه يريد أن ينسى ذكرى الهزيمة؛ هزيمته.
بعد سير استغرق نحو عشر دقائق وصلوا إلى أبواب حديقة ضخمة … نمت حولها الأشجار الاستوائية فأخفَتْها عن العيون، وسمع «أحمد» همسات ثم فُتح الباب، ولم يكد يصل إلى منتصف الحديقة حتى سمع زمجرةَ حيوانٍ مفترسٍ محبوس … وتلفَّت «أحمد» حوله حتى استقرَّت عيناه على نمرٍ مخطط من النوع الضخم … ولم يكن النمر وحده … كانت معه أنثاه … ثم دارت عينا «أحمد» في المكان كله، وأدرك أنه دخل أغرب مكان شاهده في حياته، كانت الحراسة عبارة عن بشرٍ مسلحين، وعن عشراتٍ من الحيوانات المتوحشة التي إذا أُطلِقت من أقفاصها افترسَتْ كل ما يصادفها …
وكان هناك حمام كبير للسباحة … في جانب منه معزول عن بقية الحمام شاهد ثلاثة تماسيح من أضخم التماسيح التي شاهدها في حياته … وكان الرجال الذين صحبوه قد ابتعدوا عنه … فلم يكن هناك داعٍ لحراسته …
ووجد «أحمد» نفسه يتجه إلى مجموعة من الرجال يجلسون حول مائدة صغيرة … وفي وسطها جلس رجل شديد الطول، قد وضع ساقًا على ساق … وقد جلس بجواره على الأرض فهد أسود كان يطعمه بيده … وقال أحد الرجال مشيرًا إلى «أحمد»: هذا هو الشاب الذي أرسله «بالوتشي» …
ورفع الرجل النحيف الطويل القامة عينيه إلى «أحمد» ونظر إليه … باستهتار … كان واضحًا أنه شديد الثقة فيما حوله … وأحسَّ «أحمد» بالضيق والتوتر.