الصراع يبدأ في النقطة «ج»
كان الشياطين يأخذون طريقَهم إلى القاعة الكبرى؛ حيث سوف يُعقَد الاجتماع. ما إن اقتربَ «أحمد» من باب القاعة حتى انفتح، فتَبِعه الشياطين. كان ضوءٌ هادئ يغمر القاعة الصامتة، بينما كانت الخريطة الإلكترونية مطفأة.
أخذ كلٌّ منهم مكانَه، وتعلَّقَت أعينُهم بالخريطة في انتظار أن تظهر المعلومات الأولية التي تبدأ منها المغامرة؛ فقد تعوَّدوا على أن تكون الخريطة هي بداية المعلومات، فعن طريقها يعرفون بدايةً أين سوف تكون مغامرتهم الجديدة، وطبيعة الأرض التي سوف يتعاملون معها، ونوع الملابس التي سوف يلبسونها تبعًا لحالة الطقس هناك، وهكذا. في نفس الوقت يعرفون نوعيةَ المواصلات التي سوف يتنقلون بها. وكانت هذه كلُّها تُمثِّل دائمًا مرحلةً هامة في بداية المغامرة.
كان «أحمد» يَرقُب الشياطين الذين بدَت عليهم ملامحُ القلق، فهو يعرف كيف يفكرون؛ ولذلك فقد ابتسم ابتسامةً جعلَتهم جميعًا يبتسمون؛ فقد عرَفوا من ابتسامته أنهم مقبلون على عمل جديد.
ابتسمت «زبيدة» وهي تقول: هل لا يزال الإلهام في حالة عمل؟ كاد «أحمد» أن ينطقَ ردًّا عليها … إلا أن الخريطة الإلكترونية أوقفَت الكلماتِ في فمه؛ فقد أُضيئت إضاءة باهرة جعلتهم جميعًا ينظرون إليه في دهشة، فهذه أول مرة تُضاء فيها الخريطة بهذه الطريقة.
بدأت تفاصيل هامة تظهر فوق الخريطة، كانت التفاصيل للأمريكتَين؛ أمريكا الشمالية فوق، وأمريكا الجنوبية أسفل منها. كانت القارتان تَغْرقان في مياه المحيط الأزرق. بدأت سلسلة جبال «الإنديز» تظهر في أمريكا الجنوبية ممتدة من الشمال إلى الجنوب. ظلَّت أعين الشياطين معلَّقة بامتداد الجبال، عند نهايتها ظهرَت مرتفعاتُ «جيانا»، التي تغطِّي معظم المساحة في جمهورية «فنزويلا».
إن الشياطين يعرفون أن مرتفعات «جيانا» امتدادٌ لسلسة جبال «الإنديز» … أخذت تفاصيل «فنزويلا» تتحدد أكثر، ظهرت بحيرة «ماراكييو»، إن هذه المنطقة حول البحيرة تُمثِّل ثروة «فنزويلا» الحقيقة؛ فهناك توجد آبار البترول التي تعتبر أهم صادرات البلاد. ظهرَت مدينة «كراكاس» وهي عاصمة «فنزويلا». نظر الشياطين إلى بعضهم. إن هذه التفاصيل تعني أن المغامرة سوف تكون في «فنزويلا»؛ فلم تظهر حتى الآن أيُّ تفاصيل عن أمريكا الشمالية.
تحدَّدت أيضًا خطوط الطول والعرض، إن «فنزويلا» تقع بين خطَّي طول ٦٠ و٧٥ درجة، وبين صفر و١١ درجة عرض. وهذا يعني أنها تقع في المنطقة الاستوائية حيث يمرُّ خطُّ الاستواء، في نفس الوقت ظهر المحيط الأطلنطي في شرق البلاد، والبحر الكاريبي شمالًا، وفيه جزر «الأنتيل» الصغرى، أما غرب «فنزويلا» فتقع كولومبيا، وفي الجنوب جمهورية «البرازيل» الآن.
تأكد الشياطين أن ميدان المغامرة هو «فنزويلا» فعلًا … إن الشياطين يعرفون أن طبيعة هذه البلاد صعبة تمامًا، وأنهم سوف يدخلون مغامرة جديدة عليهم. ولكن ما هي طبيعة هذه المغامرة؟ … كان هذا السؤال الذي تردَّد في أذهان الشياطين.
إنهم يذكرون مغامرات سابقة لهم في أمريكا الجنوبية، لعل أقربها مغامرتهم في «بيرو»، فجأةً قطع أفكارَ الشياطين صوتُ أقدام رقم «صفر» يقترب، تعلَّقت أعينُ الشياطين بصوت الخطوات التي توقَّفت لحظة ثم صوت الزعيم يرحِّب بهم، توقَّف بعد كلمات الترحيب ثم قال: إن المغامرة الجديدة ليست شيئًا مذهلًا أو مخيفًا؛ فقد قمتم بمثلها عشرات المرات. إن المثير فيها هو ذلك المكان الصعب والظروف الجوية التي يمكن أن تكون أكثرَ صعوبة، خصوصًا وأننا لا نستطيع الانتظار.
صمتَ قليلًا ثم أضاف: أنتم تعرفون — طبعًا — طبيعةَ هذه الأرض الجبلية في معظمها، وهذا لن يُعطيَكم فرصةَ استخدامِ السيارات للوصول إلى المنطقة، غيرَ أن مدينة «كومانا» يمكن أن تكون بدايةَ انطلاقِكم. إن المدينة تقع على ساحل البحر «الكاريبي»، وهي تبعُد عن نهر «أورينوكو»، وإذا كانت هذه هي طبيعة الأرض هناك، فإن الظروفَ المناخية لن تكون في صالحكم؛ لأن المنطقة استوائية، فإن المطر يكون غالبًا في شهور «يونيو» و«يوليو» أكثر، وللأسف فإن عليكم أن تنطلقوا إلى هناك الآن، ونحن في شهر «يوليو».
سكت رقم «صفر» وتردَّد صوتُ أوراق تُقلَب. بعد لحظة قال: إن عصابة «سادة العالم» وضعَت خطةً لتدبير انقلاب «فنزويلا»، والاستيلاء على آبار البترول هناك، وهي ترمي من وراء ذلك إلى إغراق السوق العالمي بمزيد من البترول، وأنتم تعرفون أن السوق العالمي قد شَهِد هبوطًا شديدًا في أسعار البترول في الفترة الأخيرة، وقد أثَّر هذا إلى حدٍّ مخيف على أسعار البترول العربي؛ مما أثَّر على اقتصاديات بلادنا العربية. وعندما تقوم عصابة «سادة العالم» بإغراق السوق العالمي بمزيد من ملايين الأطنان من البترول … فإن ذلك سوف يجعل سعرَ البترول في مزيد من الانخفاض، وهذا يسبِّب كارثة بلا شك.
صمتَ الزعيم مرة أخرى، والتقَت أعينُ الشياطين. إنهم إذن مقبلون على مغامرة خطيرة؛ ففيها مستقبل المنطقة العربية، والبترول العربي.
جاء صوت رقم «صفر» يقول: إن عملاءَنا في أمريكا الجنوبية قد أرسلوا تقاريرَهم التي تؤكِّد أن العصابة سوف تتحرك في شهر «يوليو»، عندما تغطِّي البلادَ هناك الأمطارُ الموسمية، غيرَ أن حركتَهم مرهونةٌ بخطة مرسومة يملكون أوراقها، فهي التي سوف تتحرك على أساسها قُوَّاتُهم، وأنتم تعرفون ما تملكه عصابة «سادة العالم».
إن خطة العصابة، لم تَصِل إلى قواتها بعد، وعليكم الوصول إلى هذه الخطة قبل أن تَصِل إلى قوات العصابة.
صمت رقم «صفر» ومرَّت دقائق بدَت وكأنها ساعاتٌ طويلة. كان الشياطين يفكِّرون خلالها في عصابة «سادة العالم» التي طالما تعاملوا معها، فهي ليست جديدة عليهم.
ومن جديد جاء صوتُ رقم «صفر»: إن قوات «سادة العالم» لا تزال خارج «فنزويلا»، وهي سوف تدخلها تبعًا للخطة، فإذا استطعنا أن نحصل على خطَّتِهم يصبح أمامنا موقفان … إما أن نضع خطةً مقابلة للقضاء على القوات في حالة تحرُّكِها، وإما أن نمنع تحرُّكَ القوات من البداية … فلا تدخل «فنزويلا» وتظل في أماكنها …
وتردَّدت إشارة ضوئية من أعلى الخريطة الإلكترونية، فقال الزعيم: سوف أترككم لحظة؛ يبدو أن هناك رسالة هامة في الطريق …
أخذت أصوات أقدام رقم «صفر» تبتعد حتى اختفت تمامًا. نظر الشياطين إلى بعضهم، لم يكن هناك ما يمكن أن يُقال؛ فالعمل هو المطلوب الآن؛ ولذلك ظلَّت نظراتُهم تحمل معنى الرغبة في الانطلاق، فجأة قطع الصمتَ صوتُ رقم «صفر» يقول: إن هناك أنباءً هامةً سوف آتيكم بها بعد قليل … التقَت نظراتُ الشياطين من جديد … قال «عثمان»: إن أمامنا عملًا عظيمًا في مغامرتنا الجديدة.
ردَّت «إلهام»: وشاق في نفس الوقت.
قطع الحوارَ صوتُ أقدام رقم «صفر» فتعلَّقت أعينُ الشياطين بمصدر الصوت … وعندما توقَّفَت الأقدام، أمسك الشياطين بأنفاسهم. إن أخبارًا جديدة تعني كشفًا جديدًا في المهمة الصعبة.
قال رقم «صفر»: لقد تحدَّدت ساعة الصفر. إن أحد رجال العصابة سوف يتحرك بعد غد في طريقه إلى خارج البلاد لتوصيل خطة العصابة إلى القوات، وسوف ينطلق من نقطة «ج». إن مهمة الشياطين تحدَّدت إذن في هذا الرجل الذي يحمل الخطة، وهو رجل لم يتحدَّد بعدُ، ولا نعرف شيئًا عنه، وهذه هي الصعوبة الجديدة في المهمة.
سكت رقم «صفر» … بينما كان «أحمد» مستغرقًا في تفكيره … إن رجلًا غيرَ معروف في منطقة شاسعة نائية يُصبح هدفًا شديدَ الصعوبة.
قطع تفكيرَه صوتُ رقم «صفر»: سوف تكون اتصالاتُكم بعملائنا هناك، بجوار أن عملاءَنا في أمريكا الشمالية سوف يكونون في انتظارِ أيِّ شيء يقومون به، وسوف تظل اتصالاتُنا مستمرة، فربما حدث شيءٌ جديد.
سكت لحظة ثم أضاف: إنني في انتظار أسئلتكم.
مرَّت لحظاتٌ سريعة لكن أحدًا من الشياطين لم يكن لديه ما يمكن أن يقولَه …
قال الزعيم: إنني في انتظار نتائج ناجحة في مهمتكم. ثم أضاف بعد لحظات: إن «أحمد» و«عثمان» و«بو عمير» و«هدى» و«خالد»، سوف يقومون بالمغامرة الجديدة … وعلى بقية الشياطين أن يكونوا مستعدِّين، فنحن لا نعرف ماذا سوف يحدث، وربما طار آخرون إليهم للاشتراك في المهمة، أتمنَّى لكم التوفيق.
في الوقت الذي بدأَت فيه أصواتُ أقدام رقم «صفر» تبتعد، كان الذين وقع عليهم الاختيار يمتلئون سعادة؛ فالشياطين تسعدهم دائمًا المغامرات الصعبة. أخذ الشياطين طريقَهم للخروج، واتجهوا مباشرةً إلى حجراتهم لإعداد حقائبهم السرية، عندما أغلق «أحمد» بابَ حجرته كان يفكر في شيء واحد هو النقطة «ج» …
قال في نفسه: هل هي نقطة سرية، أو أنها رمز لمكان محدد؟ …
ظل السؤال يتردَّد في خاطره، بينما كانت يداه تعملان في تجهيز الحقيبة، إنه يعرف أن المنطقة التي سوف يتحركون منها تحتاج إلى أشياءَ محددة؛ مصباح إلكتروني، خناجر، قنابل دخان، أسلاك، وهكذا أخذ يجهِّز حقيبتَه.
لكن فجأةً لمع خاطرٌ في رأسه، جعل يدَيه تتوقفان عن العمل، كان هذا الخاطر هو: هل تعني النقطة «ج» مرتفعات «جيانا»؟!
أخذ يقلِّب السؤالَ في ذهنه: إن العصابة قد اختارت «فنزويلا» بالذات لتشنَّ منها حربَ البترول، وما دامت قد اختارَتها فسوف تختار مقرَّ قيادتها داخل البلد نفسه، وهي لن تجازفَ بوجود المقر في «كراكاس» العاصمة مثلًا، أو في أيِّ مدينة أخرى، وهي لهذا سوف تختار منطقة نائية، حتى لا تكشفَ نفسها، وحتى تكون بعيدة عن مناطق الأمن؛ ولهذا تصبح منطقةُ مرتفعات «جيانا» هي أنسب مكان، خصوصًا وأنها ليست بعيدة عن منطقة آبار البترول …
ارتاح «أحمد» لوصوله إلى هذه الإجابة؛ ولذلك قال في نفسه: إن منطقة المرتفعات سوف تكون مكانًا طيبًا للصراع …
بدأت يداه تعملان بسرعة، حتى انتهى من إعداد الحقيبة، وحتى يحدِّد لبقية المجموعة موعدًا للقاء في منطقة السيارات، حيث ينطلقون في مغامرتهم الجديدة.
عندما انتهى من تجهيز حقيبته أسرع إلى جهاز «الفيديو» الصغير في حجرته، ثم ضغط عدة أزرار فظهرت خريطة على شاشة التليفزيون، كانت الخريطة لفنزويلا. أجرى بعضَ الحسابات ثم ضغط زرًّا في جهاز «الفيديو»، ثم رفع عينَيه إلى الخريطة وملأَت وجهَه ابتسامة؛ فقد تحدَّدَت دائرةٌ حمراء حول منطقة مرتفعات «جيانا»، وقال في نفسه: لقد أصبت، لقد حدَّد الكمبيوتر منطقةَ مرتفعات «جيانا» كمكان لمقرِّ عصابة «سادة العالم». رفع سماعة التليفون وتحدَّث إلى «عثمان» الذي ردَّ مباشرة: نحن جاهزون.
وبسرعة كان يأخذ طريقَه إلى حيث نقطة اللقاء.