ثم كانت المفاجأة!
لقد شمَلَهم ضوءٌ قويٌّ كشفهم تمامًا، حتى إنهم ذُهلوا للحظة سريعة، لكنهم تصرَّفوا بسرعة، فانبطحوا على الأرض، زاحفين إلى أسفل السيارة، التي لا يستطيع الضوءُ أن يكشفَها …
غطَّى المكانَ صمتٌ غريب، ولم يكن يُسمَع صوتٌ لأيِّ شيء، ظل الشياطين في أماكنهم ينتظرون …
فكَّر «أحمد» بسرعة في مصدر الضوء: مَن أين أتى؟!
بدأ الشياطين يتحدثون بلغة اللمس، حتى لا يسمعَهم أحد … قال «عثمان» عندما سأله «أحمد» عن مصدر الضوء: لا أدري … لقد كانت لحظةً مفاجئة، ومع ذلك أعتقد أنه جاء من عدة أماكن في وقت واحد!
قال «بو عمير»: إن هذا الضوء يعني أكثر من شيء … أنهم في انتظارنا، أنهم سوف يتصرفون الآن على أساس وجودنا … ولذلك أظن أن خطَّتَهم تغيَّرت …
قال «خالد»: لا أظن، فالمؤكد أنهم لا يعرفون عن تحرُّكِنا أيَّ شيء …
صمتوا وأخذوا يتسمعون؛ فقد يأتيهم صوتٌ من أيِّ مكان، يمكن أن يحدِّد طريقةَ تحرُّكِهم، لكنهم لم يسمعوا شيئًا؛ لذا فكر «أحمد» بسرعة ثم قال: ما هي الخطوة القادمة هل نتحرك الآن، أم ننتظر قليلًا؟
قالت «هدى»: المهم أن يكون التصرُّف في صالحنا …
كانت هذه الكلمات من «هدى» كافيةً ليتخذ «أحمد» قرارًا وبسرعة، أصدر قراره للشياطين وقال: سوف نتحرك في مجموعتَين، يمينًا ويسارًا، على ألَّا يكونَ تحرُّكُنا في اتجاهَين متضادَّين، سوف تكون المجموعتان متوازيتَين، تفصل بينهما مسافةُ عشرة أمتار لا يزيد، تضم المجموعة الأولى معي «هدى» و«عثمان».
ثم انتظر لحظة وقال: سوف نبدأ التحرك الآن.
تحرَّكت المجموعتان؛ مجموعة «أحمد» إلى اليمين، ومجموعة «خالد» إلى اليسار. كان الصمت يلفُّ كلَّ شيء، ولم يكن هناك أيُّ ضوء في أيِّ اتجاه.
وضع «أحمد» أُذُنَه على الأرض، ثم تسمَّع، أخذ يركِّز تفكيرَه؛ فقد كان هناك صوتٌ يبدو بعيدًا لكنه كافٍ لأن يحدِّد «أحمد» طريقةَ تصرُّفِه.
أخرج بوصلة إلكترونية دقيقة، ثم وضعها على الأرض مباشرة، اهتزَّ مؤشر البوصلة، وحدَّدَ اتجاهًا … ضغط زرًّا في البوصلة، فانطلق شعاعٌ غيرُ مرئي في نفس الاتجاه الذي حدَّدَته البوصلة، وظهر رقم فوق الميناء، يشير إلى رقم ١٠٠٠، مدَّ يدَه وأمسك بيد «عثمان» وضغطَه ضغطاتٍ متوالية، فردَّ «عثمان» عليه بنفس الطريقة، كانَا يتفاهمان، وكان «أحمد» ينقل إليه ما حدَّدَته البوصلة، أسرع يُرسل إشارةً سريعة إلى «خالد» و«بو عمير» … قال لهما ما حدَّدَته البوصلة، فجاءه ردُّ «خالد»: سوف ننضمُّ إليكم حالًا في نفس الاتجاه.
زحفت المجموعة الأولى في الاتجاه المحدد … فكر «أحمد»: إن النقطة «ج» تبعد عن ذلك بخمسين كيلومترًا، وهذا يعني أن هذه ربما كانت نقطةَ حراسة متقدمة.
نظر في ساعته الإلكترونية، وقال لنفسه: لا تزال هناك ساعات حتى يتحرك «براك» من مكانه.
مرة أخرى أكَّد لنفسه: إنها نقطة حراسة بلا جدال …
تقدَّمت المجموعةُ شعَر «أحمد» بدفء جهاز الإشارات، فوضع يدَه عليه، كانت هناك إشارة من «خالد» يقول فيها: «إنهما يتقدمان في خطٍّ موازٍ لهما تمامًا، ولا يبعد سوى عشرة أمتار …»
أخرج من جيبه جهازَ الرصد، وثبَّته على الأرض، اهتزَّ مؤشرُ الجهاز وحدَّد رقمًا، كان الرقم ٥٠٠. قال في نفسه: إن هناك أحدًا على بُعد ٥٠٠ متر فقط …
أرسل رسالة سريعة إلى «خالد» يحدِّد له المسافة، في نفس الوقت نقل إلى «هدى» و«عثمان» نفس المعلومات …
ظل تقدُّمُهم مستمرًّا … فجأةً أصدر جهازُ الرصد صوتًا خافتًا؛ فتوقَّف «أحمد» وتوقَّف «عثمان» و«هدى». قال «أحمد» بطريقة اللمس: إن أحدًا بجوارنا الآن؛ فقد رصَد الجهاز شيئًا.
فجأة ارتفعَت طلقةُ إضاءة، فكشفت المكانَ كلَّه، إلا أن «أحمد» كان سريعَ التصرف؛ فقد أطلق قنبلةَ دخان غطَّتهم تمامًا، في نفس الوقت فعل «خالد» نفسَ الشيء …
وبسرعة كانت «هدى» تتصرَّف التصرفَ المكمل لتصرُّفِ «أحمد»؛ فقد صوَّبت طلقةَ غاز إلى نقطة محددة، وكانت هي النقطة التي انطلقَت منها طلقةُ الضوء … ولم تمرَّ دقيقة، حتى كان سعالُ بعضِ الرجال يرتفع، أمسك «أحمد» يدَ «هدى» وضغط عليها مهنِّئًا على تصرُّفِها …
في نفس الوقت كان «خالد» و«بو عمير» يزحفان بسرعة في اتجاه أصوات الرجال … كان ضوء الطلقة قد تلاشى، وغرق المكان في الظلام … لكن صوت الرجال كان كافيًا ليكشف موقعهم.
اتجه الشياطين بسرعة إلى الموقع، وفي لحظة كانت المعركة قد بدأت …
وجَّه «أحمد» ضربةً إلى أول رجل قابلَه، فدار الرجل حول نفسه وقبل أن يسقط كانت «هدى» قد تلقَّته بضربة فورية، فسقط الرجلُ على الأرض، همس «أحمد» لها: راقبي الموقف؛ فقد يحدث شيء لا نتوقعه.
في نفس اللحظة كان «خالد» قد التحم بأحد الرجال في معركة، وقد فاز عليه …
رأى «أحمد» «عثمان» وقد اشتبك مع آخر، في الوقت الذي أخرج أحدُهم مسدسَه ليصوِّبَه في اتجاه «عثمان» … كان «أحمد» أسرعَ منه؛ فقد أخرج خنجرَه وقذفه به بقوة فأصابه، وقبل أن يفكر كان يطير في الهواء وضربَه ضربةً جعلَت الرجلَ يدور مقتربًا من «بو عمير» الذي كان قد ضرب أحدَهم فأسقطه على الأرض، فعاجل الآخر بضربة قوية جعلَته يطير في الهواء ثم يسقط.
فجأةً شمل المكانَ ضوءٌ قويٌّ جعل الشياطين يتوقفون للحظة سريعة، إلا أن «هدى» كانت في انتظار ما يحدث، فأسرعَت بإلقاء قنبلتَي دخان انفجرتَا فغطَّت المكانَ سحابةٌ كثيفة من الدخان، جعلت الرجالَ يتهاوون الواحد بعد الآخر.
أما الشياطين فقد كانوا أسرعَ إلى أخذ الكبسولات المضادة للدخان، فابتلعوها.
قال «أحمد» بسرعة: إنني أتوقع هجومًا شاملًا الآن.
ثم أضاف: علينا أن نقيد هؤلاء الرجال، ثم ننسحب حتى لا يضيعَ الوقت.
ردَّ «عثمان»: ينبغي أن نقضيَ على الهجوم القادم قبل أن نقعَ في مصيدة أخرى.
ردَّ «أحمد»: لا داعيَ الآن؛ فقد تكون هذه الهجمات من أجل تعطلينا …
في الوقت الذي كان يدور فيه هذا الحوار، كانت عمليات قيد الرجال قد انتهت … قال «أحمد»: علينا أن نُخبِّئَهم في أقرب مكان … جُرُّوهم الواحد بعد الآخر، وفي ظلِّ تلٍّ صخري أخفوهم …
في الوقت الذي كانت «هدي» تمحو آثارَ جرِّ الرجال حتى لا يُكتشفَ مكانهم كانت سحابة الدخان قد بدأت تخفُّ؛ فأطلق «أحمد» قنبلتَين أخريَين وهو يقول: يجب أن ننسحب بأقصى سرعة …
انسحب الشياطين في الاتجاه الذي حدَّدته البوصلة، حيث يوجد ما أشار إليه عمل رقم «صفر» في «كراكاس» … كانت النقطة تبعد كيلومترًا واحدًا، قطَعه الشياطين في سرعة البرق، بالرغم من أن الأرض كانت صعبة … فتلالُ الرمل وقِطَعُ الصخور كانت تعطِّلُهم بجوار أن المسارات المعروفة للتقدم لم تكن تظهر في الظلام …
عندما أشارَت البوصلة إلى المكان المحدَّد، اتجه «أحمد» بسرعة إليه. كان عبارة عن مغارة لا يستطيع أحدٌ العثورَ عليها، وداخلُها كانت تقف خمسة موتوسيكلات حديثة، حتى إن «عثمان» هتف في فرح: رائع، كم كنتُ أتمنَّى أن أجد واحدًا منها … وفي لمح البصر كان الشياطين فوق الموتوسيكلات التي كانت موجهةً بردارات صغيرة تُثبَّت في مقدمة الموتوسيكلات، كان ذلك يعطي الشياطين فرصةَ التقدم بسرعة؛ لأن الموتوسيكل يعرف طريقَه جيدًا، بجوار أنها موتوسيكلات بلا صوت. انطلق الشياطين في طابور واحد، يتقدَّمهم «أحمد»، وفي الليل كانوا يشقُّون طريقهم إلى النقطة «ج» كما هو محدَّد، ولم تكن الخمسون كيلومترًا بالمسافة الطويلة، نظرًا لسرعة الموتوسيكلات، كما أن الردارات المُثبَّتة فيها كانت تجنِّبهم وعورةَ الطريق.
في نفس الوقت كان يحميهم ارتفاعُ الجبال حولهم؛ فقد كان تقدُّمُهم يتمُّ في مسار ضيق وسط الجبال، لكنهم لم يتوقعوا وسط بداية الصدام، ما حدث فجأة …
بدأ المطر في النزول … كان مطرًا عاديًّا في البداية … لكنه أخذ يتكاثف ويشتد، حتى يمكن القول إنَّ قِرَبًا من الماء كانت تُصَبُّ فوقهم … وتحول الطريق ليصبح أكثرَ وعورة، فقد امتلأ مسارُهم بالماء، واختلط بالتراب، إلا أن ما حدث خفَّف الموقف قليلًا، لقد ظهرت نقطةٌ حمراء في مقدمة الموتوسيكل تُشير لسهم إلى مكانٍ …
مدَّ «أحمد» يدَه في اتجاه السهم، كانت هناك نقطةٌ حمراء واضحة، ضغط عليها، فانفتح بابٌ صغير وظهرت قطعةٌ من القماش، جذبها فإذا بها تنتشر وتُصبح كالمظلة، وضعها «أحمد» فوق جسمه ففعل الشياطين نفسَ الشيء، لكن المظلة لم تكن مظلةً حقيقية، فقد كانت «سويتر» مضادًّا للماء، اكتشف «أحمد» ذلك بسرعة فلَبِسه، ونفذ الشياطين نفسَ طريقته، بعدها لم يُصبح المطرُ عائقًا أمامهم … أصبح العائقُ الوحيد هو الطريق … الذي امتلأ بالطين؛ ولذلك كانوا يتقدمون ببطء …
قال «أحمد»: أخشى أن يفوتَنا الوقت.
مرَّت لحظة قبل أن يقول «خالد»: من الضروري أن يكون الموتوسيكل مزودًا بشيء ضد الطرق الطينية …
أخذ «أحمد» يبحث في الأزرار الكثيرة الموجودة أمامه، وفجأة قال: هذا صحيح.
ضغط «أحمد» أحدَ الأزرار وفي لحظة كان الموتوسيكل ينطلق بطريقة سهلة، وكأنه عربة الزحلقة فوق الجليد، أو الاندفاع فوق الماء … وقبل أن ينقل إلى الشياطين تعليماتِه، كانوا قد نفَّذوا نفسَ الشيء …
ووسط الأمطار الغزيرة، والطرق الطينية، كانت موتوسيكلات الشياطين تنطلق في سرعة، وكأنها فوق طرق مجهَّزة، نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: حتى الآن لا يزال الوقت في صالحنا …
وما كادت تنتهي جملتُه حتى دوَّى انفجارٌ في نفس المنطقة التي يمرون بها … اهتزت الموتوسيكلات بالشياطين وكادوا يفقدون توازنهم … إلا أنهم تصرَّفوا بسرعة فقد أوقفوا الموتوسيكلات … ثم نظروا حولهم ولم يكن هناك أيُّ أثر للانفجار …
قال «بو عمير»: لا بد أنه انفجار نتيجة تفريغ هوائي.
لم يردَّ أحدٌ لحظة، غير أن ما قاله «بو عمير» كان هو المبرِّر المعقول.
قال «خالد»: نحن إذن هدفٌ بالنسبة لهم، لا بد أن أخبارًا وصلَت إليهم بوجودنا في المنطقة خاصة بعد معركتنا السابقة.
قال «أحمد»: إن هذا يؤكد أن المعركة كانت مع نقطة حراسة متقدمة.
رفعت «هدى» رأسَها، وأنصتَت فتَبِعها الشياطين، لقد كانت هناك أصواتٌ تتردَّد من بعيد. قالت «هدى»: إنه صوت موتوسيكلات.
ابتسم «عثمان» وقال: إذن فليلحقوا بنا …
رفع «أحمد» يدَه مشيرًا إلى الانطلاق، وعندما أنزل يده، انطلق الشياطين في صفٍّ واحد خلف بعضهم … ورغم أن الشياطين كانوا ينطلقون بسرعة عالية، إلا أن الأصوات التي سمعوها كانت تقترب أكثر فأكثر … حتى إن «أحمد» تحدَّث في جهاز الإرسال إلى الشياطين: ينبغي أن نفكر في طريقة فإنهم يقتربون منا بسرعة.
أجابت «هدى»: إنها حيلة قديمة، لكنها مؤكدة، فلنُوقع بهم.
أعطى «أحمد» إشارة فتوقَّف الجميع، وبسرعة كانوا يسحبون الموتوسيكلات على جانبي الطريق فعلى جانبي الطريق يرتفع جبلان …
وقال «أحمد»: سوف نمدُّ سلكًا بين الجبلَين …
وبسرعة كانت «هدى» تنضمُّ إلى «أحمد» و«عثمان»، وفي الجانب الآخر كان يختبئ «خالد» و«بو عمير»، وبين المجموعتين كان يمتدُّ سلكٌ رفيع لا يظهر خصوصًا مع خيوط المطر المتساقط، فيبدو كأنه جزءٌ منها.
ظلَّت الأصوات تقترب، أرسل «أحمد» إشارة إلى «خالد» و«بو عمير»: «كونَا على استعداد؛ فاللحظة القادمة حاسمة ولا بد أن ينتهيَ خلالها كلُّ شيء.»
اقتربت الأصواتُ أكثر … وعند منحنى طريق لمع ضوءٌ … فَهِمت «هدى»: لقد وصلوا.
تحفَّز الشياطين على الجانبَين، مرَّت دقائق ثم ظهرَت الموتوسيكلات في سرعة عالية جدًّا، وعندما تقدَّم أولها اصطدم بالسلك، فطار في الهواء في الوقت الذي اصطدم به الآخرون في نفس اللحظة …
كان الشياطين قد خرجوا من خلف الجبل، وانقضُّوا عليهم في قوة، كانوا أربعة لكن أحدًا لم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا؛ فقد كان اصطدامُهم ببعض عنيفًا، حتى إنهم تجاوروا على الأرض التي بلَّلَها المطر، بينما كانت الموتوسيكلات لا تزال تدور، وهي مُلقاةٌ على جانبَي الطريق …
قال «أحمد» بسرعة: إنها فرصة فلنترك الموتوسيكلات دائرة، فهي يمكن أن تشغل مَن يأتي خلفنا، إذا كان هناك أحد …
في لحظة، كان الشياطين ينطلقون متقدمين إلى هدفهم … غير أن ما حدث لم يكن يخطر لهم على بال، فلم يكادوا يقطعون بعض المسافة حتى لمع ضوءٌ من بعيد … فقال «بو عمير»: يبدو أن مجموعةً أخرى في الطريق …
نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: إن ما حدث هو نوع من تضييع الوقت بالنسبة لنا، إن «براك» لا بد أن ينطلق مع الفجر، وإلا فإن خُطَطَهم جميعًا سوف تفشل … ولم يكَد ينتهي «أحمد» من كلامه حتى ظهرَت أمامهم ساحةٌ واسعة؛ فالطريق يتسع في هذا المكان حتى يبدوَ كأنه ميدان … فكَّر «أحمد» بسرعة: هل هي خطة أن يُدخلوهم في هذا المكان؟ … قال في نفسه: لا بأس … إنها فرصة طيبة بالنسبة لنا …
قال «أحمد» لبقيةِ المجموعة: ينبغي أن نقطع هذه الساحة بسرعة حتى لا ننحصرَ وسطها.
وعندما أصبحوا على مشارفها، رفعوا السرعة ليقطعوا الساحة قبل أن يقعوا في المصيدة، لكن قبل أن يتجاوزوا منتصفها حدثت المفاجأة …