بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان من سيَّر أقدام الأنام إلى ما مضى في سابقُ علمه، ويسر للإنسان الأقدام على
محتم
قضائه حكمُه، فلا محيص لقوي وضعيف، وشريف، عما جرى في أم الكتاب، ولا مفر لغني وفقير،
وخطير
وحقير، عن الاقتراب إلى مطوي ذلك الحجاب.
أحمده — سبحانه وتعالى — حمْد من أبلاه فصبر، وأغناه فشكر، وأشكره شكر من توجه بجنانه
للسير إلى مرضاته، فتنزه في رياض القبول وجناته، وأصلي وأسلم على من سارت ركائب شوقه
إلى
مدبره، وأشارت مواكب حسن خلقه إلى طيب عنصره: سيدنا محمد الذي سافر إلى الشام، وهاجر
إلى
المدينة، وسار من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وكان جبريل أمينه، وعلى آله وأصحابه،
وعترته وأحبابه.
أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى أمداد سيده ومولاه، السائر حيث وجهه وولاه، المعتمد
على
الكريم النافع، رفاعة ابن المرحوم السيد بدوي رافع الطهطاوي بلدًا، الحُسيني القاسمي
نسبًا،
الشافعي مذهبًا: لما منّ الله — سبحانه وتعالى — عليَّ بطلب العلم بالجامع الأزهر والمحل
الأنور، الذي هو جنة علم دانية الثمار، وروضة فهم يانعة الأزهار، كما قال أستاذنا العلامة
العطار:
لازم إذا رمت الفضائل مسجدًا
بشموش أنوار العلوم تنورا
فيه رياض العلم أينع زهرها
فلذلك المعنى تسمى «الأزهرا»
وقال بعضهم — وأحبِسنَّ — بيتين، معرضًا بعلماء الحرمين:
ومن يغترب عن «أزهر» العلم فليَنُح
على بعد دار العلم والعلماء
وحصلت ما يسر به على الفتاح مما يخرج به الإنسان من الظلام، ويمتاز به عن مرتبة العوام،
وكنت من معشر أشراف جارت عليهم الأيام، بعد أن أجرت غيثها في ديارهم، وأشارت إلى
نصبهم
٢ الأعوام، بعد أن صبت أعلام راحتها في مزارهم. ومن المركوز في الأسماع في القديم
والحديث، وعليه الإجماع بعد الكتاب والحديث — أن خيرَ الأمور العلم، وأنه أهمُّ كل مهم،
وأن
ثمرته في الدنيا والآخرة، صاحبه تعود، وأن فضله في كل زمان ومكان مشهود، سهل لي الدخول
في
خدمة صاحب السعادة أولاً في وظيفة واعظ في العساكر الجهادية، ثم منها إلى رتبة مبعوث
إلى
باريس صحبة الأفندية المبعوثين؛ لتعلم العلوم والفنون الموجودة بهذه المدينة البهيَّة،
فلما
رسم اسمي في جملة المسافرين، وعزمت على التوجه أشار علي بعض الأقارب والمحبين، لا سيما
شيخنا العطار.
٣ فإنه مولع بسماع عجائب الأخبار، والاطلاع على غرائب (ص ٤، ٥) الآثار، أن أنبه
على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما أراه وما أصادفه من الأمور الغريبة، والأشياء العجيبة،
وأن أقيده ليكون نافعًا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع، التي يقال فيها: إنها عرائس
الأقطار، وليبقى دليلاً يهتدي به إلى السفر إليها طلاب الأسفار، خصوصًا وأنه من أول الزمن
إلى الآن لم يظهر باللغة العربية — على حسب ظني — شيء في تاريخ مدينة باريس، كرسي مملكة
الفرنسيس. ولا في تعريف أحوالها وأحوال أهلها؛ فالحمد لله الذي جعل ذلك بأنفاس ولي النعمة
وفي عهده، وبسبب عنايته وتقويته للعلوم والفنون، فما قصرت في أن قيدت في سفري رحلة صغيرة،
نزعتها عن خلل التساهل والتحامل، وبرأتها عن زلل التكاسل والتفاضل، ووشحتها بعض استطرادات
نافعة، واستظهارات ساطعة، وأنطقتها بحث ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرانية والفنون
والصنائع، فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع، والحق أحق أن يتبع، ولعمر الله
إنني،
مدة إقامتي بهذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه، وإيَّاك أن
تجد
ما أذكره لك خارجًا
٤ عن عادتك، فيعسر عليك تصديقه، فتظنه من باب الهذر والخرافات، أو من حيز الإفراط
والمبالغات، وبالجملة فبعض الظن إثم، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب:
وإذا لم تر الهلال فسلم
لأناس رأوه بالأبصار
وقد أشهدت الله — سبحانه وتعالى — على ألا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق، وأن
أفشي
ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها، على حسب ما يقتضيه
الحال،
ومن المعلوم أنني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة
وأشرف التحية.
وليست هذه الرحلة مقتصرة على ذكر السفر ووقائه، بل هي مشتملة أيضًا على ثمرته وغرضه،
وفيها إيجاز العلوم والصنائع المطلوبة، والتكلم عليها، وعلى
٦ طريق تدوين الإفرنج لها، واعتقادهم فيها، وتأسيسهم لها؛ ولذلك نسبت في غالب
الأوقات (ص ٥) الأشياء التي هي محل للنظر أو للاختلاف، مشيرًا إلى أن قصدي مجرد حكايتها.
وقد سميت هذه الرحلة: «تخليص الإبريز،
٧ في تلخيص باريز»، أو «الديوان النفيس، بإيوان
٨ باريس».
وقد رتبتها على مقدمة، وفيها عدة أبواب، وعلى مقصد، وفيه عدة مقالات، وكل مقالة فيها
عدة
فصول، أو كتب مشتملة على فصول، وعلى خاتمة، راجع الفهرست في أول الكتاب.
وقد حاولت في تأليف هذا الكتاب سلوك طريق الإيجاز، وارتكاب السهولة في التعبير؛ حتى
يمكن
لكل الناس الورود على حياضه، والوفود على رياضه، ولو صغر حجمه، وقل جرمه، فهو مشحون بما
لا
يحصى، من فوائد الفرائد، وبما لا يستقصى، من جزائل الخراد. (شعر):
فإذا بدا لا تستقلوا حجمه
وحياتكم، فيه الكثير الطيب
وأسأل الله — سبحانه وتعالى — أن يجعل هذا الكتاب مقبولاً، (لدى الخاص والعام) وأن
يوقظ
به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم. إنه سميع مجيب، قاصده لا يخيب.