المقدمة
الباب الأول
في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتجالنا إلى هذه البلاد، التي هي ديار كفر وعناد، وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف؛ لشدة غلو الأسعار فيها غاية الاشتداد.
أقول: إن هذا يحتاج إلى تمهيد، وهو أن الأصل في الإنسان الساذجية، والخلوص عن الزينة، والوجود على أصل الفطرة، لا يعرف إلا الأمور الوجدانية، ثم طرأ على بعض الناس عدةُ معارف لم يسبق بها، وإنما كشفت له بالصدفة والاتفاق، أو بالإلهام والإيحاء. وحكم الشرع أو العقل بنفعها، فاتبعت وأبقيت.
مثلاً: كان في أوائل الزمن، يجهل بعض الناس تنضيج المطعومات بالنيران؛ لجهل النار بالكلية عندهم، ويقتصرون على الغذاء بالفواكه أو بالأشياء المنضجة بالشمس، أو أكل الأشياء النيئة، كما هو باق في بعض البلاد المتوحشة إلى الآن، ثم حصل اتفاقًا أن بعضهم رأى خروج شرارة نار من الصوان، بمصادمة حديدة أو نحوها، ففعل مثل ذلك، وقدم وأخرج النار وعرف خاصيتها، وكان (ص ٧) في الناس من يجهل الصبغ والتلوين للثياب باللون الأرجواني مثلاً، فرأى بعضهم كلبًا أخذ محارة من البحر، وفتحها وأكل ما فيها، فاحمر حنكه، وتلون بما فيها، فأخذوها، وعرفوا منها صناعة الصباغة بهذا اللون، كما يحكى ذلك عن أهالي «صور» ببر الشام.
وكانت الناس في أول الأمر تجهل ركوب البحر، ثم بإلهام إلهي، أو باتفاق بشري، عرفوا أن من خواص الخشب السبح على وجه الماء، فصنعوا السفينة، ثم تبحروا في السفن، وعمروها، ونوعوها أنواعًا، فكانت أولاً صغيرة للتجارات، ثم ترفعوا فيها، حتى صلحت للجهاد والحرب، وقس على ذلك ما أشبهه، من المحاربة بالسهام والرماح أولاً، ثم بعد ذلك بالسلاح، ثم بالمدافع والأهوان.
- المرتبة الأولى: مرتبة الهمل المتوحشين.
- المرتبة الثانية: مرتبة البرابرة الخشنيين.
- المرتبة الثالثة: مرتبة أهل الأدب والظرافة، والتحضر والتمدن، والتمصر المتطرفين.
مثال المرتبة الأولى: همل بلاد [المتوحشين] الذين هم دائمًا كالبهائم السارحة، لا يعرفون الحلال من الحرام، ولا يقرءون، ولا يكتبون، ولا يعرفون شيئًا عن الأمور المسهلة للمعاش، أو النافعة للمعاد، وإنما تبعثهم الوجدانية على قضاء شهواتهم كالبهائم، فيزرعون بعض شيء، أو يصيدونه، لتحصيل قوتهم، ويخصون بعض أخصاص أو خيام، للتوقي من حر الشمس ونحوه.
ومثال المرتبة الثانية: عرب البادية، فإن عندهم نوعًا من الاجتماع الإنساني، والاستئناس، والائتلاف، معرفتهم الحلال من الحرام، والقراءة والكتابة وغيرها، وأمور الدين، ونحو ذلك غير أنهم أيضًا لم تكمل عندهم درجة الترقي في أمور المعاش، والعمران، والصنائع البشرية، والعلوم العقلية والنقلية، وإن عرفوا البناء، والفلاحة، وتربية البهائم، ونحو ذلك.
وهذه المرتبة الثالثة تتفاوت في علومها وفنونها، وحسن حالها، وتقليد شريعة من الشرائع، وتقدمها في النجابة والبراعة في الصنائع المعاشية.
مثلاً: البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها، ولبعضهم نوع مشاركة في بعض العلوم العربية، وتوصلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها، كما سنذكره، غير أنهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلُكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق.
ويعجبني أيضًا قولهم في هذا المعنى عند المكافأة:
وكذلك الملك «عبد الرحمن الناصر» صاحب الأندلس، فإنه طلب من ملك «قسطنطينية» المسمى «أرمانيوس» أن يبعث إليه رجلاً يتكلم باللسان اليوناني واللاطيني ليعلم له عبيدًا يكونون مترجمين عنده، فبعث له راهبًا يسمى: «نقولا» على غير ذلك.
فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الأمثال الحكمية: «الناس على دين ملوكهم».
وقد تشتت عز الخلفاء، وانهدم ملكهم، فانظر إلى الأندلس، فإنها بأيدي النصارى الأسبانيول، من نحو ثلاثمائة وخمسين سنة.
وقد قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم، وتدبيرهم، بل وعدلهم ومعرفتهم في الحروب، وتنوعهم واختراعهم فيها، ولولا أن الإسلام منصور بقدرة الله — سبحانه وتعالى — لكان كلاشيء، بالنسبة لقوتهم وسوادِهم، وثروتهم، وبراعتهم وغير ذلك. ومن المثل المشهورة: «إن أعقل الحكام أبصرَهم بعواقب الأمور».
ولا يتأتى لإنسان أن ينكر أن الفنون والصنائع الغربية بمصر قد برعت الآن، بل وقد أجدت بعد أن لم تكن، ويرجى بلوغُها درجة كمال وفوقان، فما أنفقه (الوالي) على ذلك كان في محله اتفاقًا، فانظر إلى «الورش» والمعامل والمدارس ونحوها، وانظر إلى ترتيب أمر العساكر الجهادية من «ألايات» ومدارس حربية، فإنه من أحسن ما صنعه، وأحق ما يؤرخ من فعل الخيرات، ولا يمكن إدراك ضرورية هذا النظام إلا لمن رأى بلاد الإفرنج، أو شاهد الوقائع.
وبالجملة والتفصيل، [فإن الوالي] آماله دائمًا متعلقة بالعمار، ومن الحكم المعروفة «العمارة كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل [إنسان] على قدر همته.
وقد سارع (الوالي) في تحسين بلاده، فأحضر فيها ما أمكنه إحضارُه من علماء الإفرنج، وبعث ما أمكنه بعثه من مصر إلى تلك البلاد، فإن علماءها أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية. وفي الحديث: «الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أهل الشرك». قال بطليموس الثاني: «خذوا الدر من البحر، والسمك من الفأرة، والذهب من الحجر، والحكمة ممن قالها». وفي الحديث: «اطلب العلم ولو بالصين» ومن المعلوم أن أهل الصين وثنيون وإن كان المقصود من الحديث السفر إلى طلب العلم، وبالجملة حيثما أمن الإنسان على دينه، فلا ضرر في السفر، خصوصًا لمصلحة مثل هذه المصلحة.
فينبغي لأهل العلم حيث جميع الناس على الاشتغال بالعلوم والفنون، الصنائع النافعة، وليس هذا الزمان قابلاً لأن يقال فيه كما قال بهاء الدين أبو حسين العاملي في صرف العمر في جمع كتب العلم وادَّخارها ومطالعتها، في شعره:
وقوله:
لأن هذا مقال من تجرد عن الدنيا، وانهمك على الآخرة، أو من اشترى العلوم بأغلى ثمن، فبخس صفقتها حادث الزمن.
الباب الثاني من المقدمة
ولنذكر لك هنا الصنائع المطلوبة، لتعرف أهميتها، ولزومها في أي دولة من الدول، وهذه الفنون إما واهية في مصر، أو مفقودة بالكلية.
- العلم الأول: علم تدبير الأمور الملكية، ويتشعب عنه عدة فروع: الحقوق الثلاثة التي يعتبرها الإفرنج، وتسمى بالنواميس. وهي الحقيق الطبيعية، والحقوق البشرية، والحقوق الوضعية، وعلم أحوال البلدان مصالحها وما يليق بها، وعلم الاقتصاد في المصاريف وعلم تدبير المعاملات والمحاسبات، والخازندارية وحفظ بيت المال.
- العلم الثاني: علم تدبير العسكرية.
- العلم الثالث: علم القبطانية، والأمور البحرية.
- العلم الرابع: فن معرفة المشي في مصالح الدول،١٣ يعني علم السفارة، ومنه (الإيلجبة)،١٤ وهي رسالة البلدان. وفروعه: معرفة الألسن، والحقوق، والاصطلاحات
- العلم الخامس: فن المياه،١٥ وهو صناعة القناطر، والجسور، والأرصفة، والفساقي، ونحو ذلك.
- العلم السادس: الميكانيقا،١٦ وهي آلات الهندسة، وجر الأثقال.
- العلم السابع: الهندسة الحربية.
- العلم الثامن: فن الرمي بالمدافع وترتيبها، وهي فن (الطوبجية).
- العلم التاسع: فن سبك المعادن، لصناعة المدافع والأسلحة وغيرها.
- العلم العاشر: علم الكيميا، وصناعة الورق، والمراد بالكيميا معرفة تحليل الأجزاء وتركيبها، ويدخل تحتها أمور كثيرة؛ كصناعة البارود والسكر وليس المراد بالكيميا حجر الفلاسفة، كما يظنه بعض الناس، فإن هذا لا تعرفه الإفرنج، ولا تعتقده أصلاً.
- العلم الحادي عشر: فن الطب، وفروعه: فن التشريح، والجراحة، وتدبير الصحة، وفن معرفة مزاج المريض، وفن البيطرة؛ أي معالجة الخيل وغيرها.
- العلم الثاني عشر: علم الفلاحة، وفروعها: معرفة أنواع الزروع وتدبير الخلا بالبناء اللائق به، وغيرها، ومعرفة ما يخصه من آلات الحراثة المدبر للمصاريف.
- العلم الثالث عشر: علم تاريخ الطبيعيات، وفروعه: الحيوانات، ومرتبة النباتات، ومرتبة المعادن.
- العلم الرابع عشر: صناعة النقاشة، وفروعها، فن الطباعة، وفن حفر الأحجار ونقشها، ونحوها.
- العلم الخامس عشر: فن الترجمة، يعني ترجمة الكتب، وهو من الفنون الصعبة، خصوصًا ترجمة الكتب العلمية، فإنه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلم المراد ترجمتها، فهو عبارة عن معرفة اللسان المترجم عنه وإليه، والفن المترجم فيه.
فإذا نظرت بين الحقيقة (ص ١٣، ١٤) رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئًا فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئًا مات بحسرته، فالحمد لله الذي (أنقذنا) من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا، وأظن أن من له ذوق سليم، وطبع مستقيم يقول كما أقول، وسأذكر بعضها بالاختصار في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وهو المستعان.
الباب الثالث من المقدمة
[في ذكر وضع البلاد الإفرنجية، ونسبتها إلى غيرها من البلاد، ومزية الأمة الفرنساوية على من عداها من الإفرنج، (وبيان وجه الحكمة في) إرسالنا (إليها)، دون ما عداها من ممالك الإفرنج.]
فنقول: اعلم أن الجغرافيين من الإفرنج قسموا الدنيا — من الشمال إلى الجنوب، ومن المشرق إلى المغرب — خمسة أقسام، وهي: بلاد أوروبا (بضم الهمزة والراء وتشديد الباء) وبلاد (آسيا «بكسر السين»)، وبلاد «الأفريقة»، وبلاد «الأمريقة «وجزائر البحر المحيط المسماة «الأوقيانوسية».
فبلاد «أوروبا» محدودة جهة الشمال بالبحر المتجمد، المسمى: ببحر الثلج الشمالي، وجهة الغرب ببحر الظلمات المسمى: البحر المظلم، والبحر الغربي، وجهة الجنوب ببحر الروم، المسمى: البحر المتوسط والأبيض، وبلاد «آسيا» وجهة الشرق ببحر «الخزر»، (بضم الخاء والزاي، آخره راء)، ويقال له: بحر الحَزَز، (بحاء مهملة مفتوحة، ثم زايين معجمتين، أولاهما مفتوحة)، ويسمى أيضًا: بحر جرجان وبحر طبرستان، وببلاد آسيا.
وهي نحو ثلاث عشرة أرضًا، أي ولاية أصلية: أربعة منها في الشمال: وهي بلاد الإنكليز، وبلاد «دانيمرق»، (بكسر النون وفتح الميم، وسكون الراء)، وبلاد «أسوج»، (بفتح الهمزة،، وسكون السين، وكسر الواو)، وبلاد «الموسقو».
وستة في الوسط، وهي: «بلاد الفلمنك»، وبلاد الفرنسيس، وبلاد «السويسة» وبلاد «النيمسة»، وبلاد البروسية (بضم الباء)، وبلاد «جرمانية» المتعاهدة.
وثلاثة في الجنوب، وهي: بلاد (ص ١٤، ١٥) إسبانيا مع «البورتوغال» وبلاد «إيطاليا»، وبلاد «الدولة العلية العثمانية» في بلاد «أوروبا» التي هي: بلاد الأروام، والأرناؤط والبشتاق، والسرب، (بالباء أو الفاء)، وبالبلغار، والأفلاق، والبغدان (بضم الباء، وسكون الغين).
فمن ذلك تعلم أن تفسير بعض المترجمين بلاد أوروبا وبلاد الإفرنج فيه قصور، اللهم إلا أن تكون بلاد الإفرنج تطلق على ما يعم بلاد الدولة العلية، ولكن يناقض ذلك أن (مترجمي) الدولة العثمانية يقصرون بلاد «أفرنجستان» على ما عدا بلادهم من بلاد أوروبا، ويسمون بلادهم ببلاد الروم، وإن كانوا يعممون أيضًا في لفظ الروم، فيريدون به بعض الأحيان ما يعم بلاد الإفرنج، وبعض البلاد الداخلية في حكمهم من بلاد «آسيا».
وهي تنقسم أيضًا إلى عشر أراض أصلية: واحدة جهة الشمال، وهي بلاد «سبير».
واثنان في الجنوب، وهي: بلاد العرب، وبلاد الهند؛ فبلاد الحجاز، وبلاد الوهابية تحت حكم الدولة العلية، وبلاد اليمن تحت حمايتها، وبلاد عمَّان مستقلة، وكلها أقاليم جزيرة العرب.
فهذه هي ولايات آسيا.
ثم بلاد «الأفريقية»، وهي محددة جهة الشمال ببحر الروم، وجهة الغرب بالبحر الأطلنتيقي، المسمى: بحر الظلمات ويسمى بحر المغرب، وجهة الجنوب بالبحر المحيط الجنوبي، وجهة الشرق ببحر الهند، «وببغاز باب المندب» وببحر «القلزم»، المسمى: البحر الأحمر، وببلاد العرب.
ويمكن تقسم «الأفريقية» إلى ثمان أراض أصلية: اثنتان في الشمال، وهي: بلاد المغاربة، وبلاد مصر.
فهذا ما يسمى الآن عند الإفرنج: بلاد أفريقية، وإن كانت «إفريقية» في الأصل بلدة (ص ١٦) معلومة جهة «تونس» وما حواليها، ثم أضيف إلى بلاد أوروبا ما قاربها من الجزائر، وكذلك لبلاد «آسيا» و«أفريقية» وهذه الأقسام الثلاثة يعني «أوروبا» و«آسيا» و«أفريقية» تسمى: الدنيا القديمة. أو الأرض القديمة، يعني المعروفة للقدماء.
وأما بلاد «أمريكة» أو «أمريقة»، (بالكاف أو القاف) فتسمى: الدنيا الجديدة، وتسمى أيضًا: الهند الغربي، وتسمى في بعض الكتب العربية (عجائب المخلوقات).
وهي إنما عرفت للإفرنج بعد تغلب النصارى على بلاد الأندلس، وإخراج العرب منها، فإن هذا الوقت كان مبدأ للسياحة، وجوب البحر المحيط، واستكشاف البلاد بإعانة الدول لأرباب الأسفار والملاحة.
وأما الآن فقد كانت السياحة تكون عند الإفرنج فنًا من الفنون، فليس كل أحد يحسنها، ولا كان دولة تتقنها؛ وذلك أنه لما كثرت الآلات الفلكية والطبيعية، سهلت الاستكشافات البرية والبحرية، وتداولت الأسفار، واستكشفت الأماكن والأقطار، وضم إلى ما يعرف من قديم الزمان، هذه الدنيا الجديدة التي انتظمت في سلك معرفة أولى العرفان.
ثم زاد الحال باختراع سفن النار، ومراكب البخار، فتقاربت الأقطار الشاسعة، وتزاورت أهالي الدول، وصارت المعاملات والمخالطات بينها متتابعة.
ومما قام مقام آلات السياحة قبل ابتداعها، وناب عن أدوات الملاحة قبل اختراعها، الأنوار المحمدية، والغيرة الإسلامية، بل والمعارف الوافرة في العلوم الرياضية والفلكية والجغرافية، في زمن الخلفاء العباسية، ففتحوا بلاد مصر، والسودان، والمغرب، والعجم، وبلاد قابول، وبخارى، والهند، والسند، وجزائر سيلان، وسومطرة، وبلاد التبت، والصين، وعدة ولايات ببلاد أوروبا، مثل ممالك الأندلس، وصقلية، وبلاد الروم، وغير ذلك.
وهي قسمان: الأمريقة الشمالية، والأمريقة الجنوبية.
«والأستورالية»، (بضم الهمزة، وسكون السين، وضم التاء، وكسر اللام) «والبولينيزية»، (بضم الباء، وكسر اللام، والنون والزاي).
«ثم بلاد» أوروبا فيها أربعة بنادر أصلية مشهورة بالتجارة: «إسلامبول» تخت الدولة العلية، و«لوندرة»، (بضم اللام، وسكون النون، وفتح الدال) تخت بلاد الإنكليز، «وباريس» تخت بلاد الفرنسيس، «ونابُلي»، (بضم الباء) ببلاد «إيطاليا».
والبنادر الأصلية ببلاد آسيا أربعة أيضًا: بكين، (بكسر الباء والكاف) قاعدة بلاد الصين، «وقلَقوطة»، (بفتح القاف واللام، وضم القاف)، ويقال «كلكتة»، (بكافين) قاعدة بلاد الهند التي تحت حكم الإنكليز، «وصورة»، ببلاد الهند أيضًا، ويقال: هي التي كانت تسمى: «المنصورة»، «ومياقو»، (ص ١٨) (بكسر الميم، وضم القاف) في بلاد جزيرة «يابونيا».
والبنادر الأصلية ببلاد «الأفريقية» أربعة: «القاهرة» قاعدة مصر، «وسنار» قاعدة حاكم بلاد النوبة، والجزائر، وتونس ببلاد المغاربة.
وأربعة في «أمريقة الجنوبية»، وهي: «ريوجانير» (بكسر الراء، وضم الياء وكسر النون) في بلاد «أبريزيلة» «وبنو سيرس»، (بكسر الباء والسين والراء) في بلاد «بلاطة»، «وليمة»، (بكسر اللام) في بلاد «برو»، «وقيطو»، (بكسر القاف) في بلاد «غرناطة الجديدة».
وفي بلاد البحر المحيط بندران شهيران، وهما: مدينة «بتاويا»، بندر جزيرة «جاوة»، ومدينة «مانيلة»، الواقعة في جزيرة «مانيلة» إحدى جزائر «فيليبينة» فهذه المدينة هي قاعدة جميع هذه الجزائر.
ثم إن بلاد «أوروبا» أغلبها نصارى، وبلاد الدولة العلية هي بلاد الإسلام بهذه القطعة.
وأما بلاد «آسيا» فإنها منبع بلاد الإسلام، بل وسائر الأديان، وهي أوطان الأنبياء والمرسلين، وبها نزلت سائر الكتب السماوية، وهي تتضمن أشرف الأماكن والأرض المباركة، والمساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وفيها منشأ ومضم عظام سيد الأولين والآخرين، والصحابة، وهي منشأ الأئمة الأربعة (رضي الله تعالى عنهم) لأن منشأ الإمام الشافعي (رضي الله عنه) غزة، ومنشأ الإمام مالك (رضي الله عنه) المدينة المشرفة، ومنشأ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان الكوفة، ومنشأة الإمام أحمد بن حنبل بغداد، التي كانت (كما قيل) في أيام الخلفاء، بالنسبة للبلاد، كالأستاذ في العباد، وكلها من بلاد «آسيا».
وبها، يعني ببلاد «آسيا» العرب، وهم أفضل القبائل على الإطلاق، ولسانهم أفصح الألسن باتفاق، وفيهم بنو هاشم، الذين هم مُلَح الأرض، وزُبَدة المجد، ودرع الشرف.
ومما يدل على فضلها أن بها الأماكن المفضلة؛ كالقبلة، التي يجب على كل إنسان أن يتوجه إليها خمس مرات في اليوم والليلة، والمدينتين اللتين نزل بهما القرآن العظيم، ففضائلها لا تحصى، وآثار أهلها لا تستقصى، قال بعض أهلها:
•••
ومع إن الإسلام قد تولد فيها، وانتشر منها إلى غيرها، ففيها جزء عظيم باق على الاتباع أو الكفر؛ كبلاد الصين، وبعض بلاد الهند، وجزء سالك في إسلامه طريق الضلال، كروافض العجم.
وأما بلاد «أفريقية» فإنها تشتمل على أعظم البلاد؛ كبلاد مصر التي هي من أعظم البلاد وأعمرها، وهي أيضًا عش الأولياء والصلحاء والعلماء، وكبلاد المغرب التي أهلها أهل صلاح وتقى وعلم وعمل، وإن شاء الله يمتد بها الإسلام.
وأما «أمريقة» فهي بلاد كفر؛ وذلك أنها كانت عامرة في الأصل بهمل عبدة الأصنام، فتغلب عليها الإفرنج لما قويت شوكتهم في الفنون الحربية، ونقلوا إليها جماعة من بلادهم، وأرسلوا إليها قسيسين، فتنصر كثير من أهلها، فالآن بلاد «أمريقة» غالبها نصارى إلا الهمل، فهم وثنيون ولم يوجد بها دين الإسلام، وسببه قوة الإفرنج في علم ركوب البحر، ومعرفتهم العلوم الفلكية والجغرافية، ورغبتهم في المعاملات والتجارات، وحبهم للسفر، قال الشاعر:
وقال آخر:
وقال الحريري:
وقال غيره:
وقال:
ومن المعلوم أن الدر والمسك لا يشرفان ما لم يفارقا وطنهما ومعدنهما، وكل هذا لا ينافي أن حب الوطن من شعب الإيمان؛ لأن المقصود السياحة، والأخذ في أسباب طلب الرزق، وهذا لا يمنع من تعلق الإنسان بوطنه ومسقط رأسه، فإن هذا أمر جبِلِّي، قال الشاعر:
وقال غيره:
ولا ينافي أيضًا هذا الأمر مادة التوكل والاعتماد على المولى، كما يفهم من كلام الشاعر في قوله:
وقول الآخر:
فإن هذا معناه التسلية لمن لا يحب الأسفار، أو النهي عن السفر للطمع.
وأما بلاد (ص ٢٢) جزائر البحر المحيط، فإنها قد فتح كثير منها بالإسلام، كجزيرة «جاوة»، فإن أهلها مسلمون، وبالجملة فبلاد «النوتازية» أغلبها إسلام، وندر وجود دين النصرانية فيها.
ومن ذلك كله تعلم أنه يمكن أن أقسام الدنيا الخمسة يصح تفضيل بعضها على بعض، ويعني تفضيل جزء بتمامه على الآخر بتمامه، بحسب مزية الإسلام وتعلقاته، فحينئذ تكون «آسيا» أفضل الجميع، ثم تليها «أفريقية» لعمارها بالإسلام والأولياء والصلحاء، خصوصًا باشتمالها على مصر القاهرة، ثم تليها بلاد «أوروبا» لقوة الإسلام، ووجود الإمام الأعظم، إمام الحرمين الشريفين، سلطان الإسلام فيها، ثم بلاد الجزائر البحرية؛ لعمارها بالإسلام أيضًا مع عدم تبحرها في العلوم كما هو الظاهر، فأدنى الأقسام بلاد «أمريكة»؛ حيث لا وجود للإسلام بها أبدًا، هذا ما يظهر لي، والله أعلم بالصواب.
وهذا كله بالنظر للإسلام، والأمور الشرعية، والشرف الذاتي، فإن المراد بالشرف ما يعم الشرعي وغيره، فلا يقال: أن أغلب ذلك من باب المزية، وهي وحدها لا تستدعي أفضلية.
ولا ينكر منصف أن بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكمية وأعلاها في التبحر في ذلك، بلاد الإنكليز، والفرنسيس، والنمسا، فإن حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين، كأرسطاطاليس، وأفلاطون، وبقراط، وأمثالهم، وأتقنوا الرياضيات، والطبيعيات، والإلهيات، وما وراء الطبيعيات أشد إتقان، وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين؛ لما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى، وبقاء الأرواح، والثواب والعقاب.
فأعظم مدائن الإفرنج مدينة «لوندرة»، وهي كرسي الإنكليز، ثم «باريز»، وهي قاعدة ملك فرنسا، و«باريز» تفضل على «لوندرة» بصحة هوائها، كما قيل، وطبيعة القطر والأهل، وبقلة الغلاء التام.
وإذا رأيت كيفية سياستها، علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة في وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولو اختلف الدين؛ وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما له من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا ينتحل دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسّنة والمقبّحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام في مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها، من حيث (ص ٢٣) إنها كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وإذا ذكرته له في مقابلة العلوم الطبيعية قال: إنه لا يصدق بشيء مما في كتب أهل الكتاب؛ لخروجه عن الأمور الطبيعية.
وبالجملة ففي بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم في بنائه مسجدًا، ولا يهودي في بنائه بيعة، إلى آخره، كما سيأتي في ذكره سياستها، ولعل هذا كله هو علة وسبب إرسال البعوث فيها هذه المرة الأولى أبلغ من أربعين نفسًا، لتعلم هذه العلوم المفقودة، بل سائر النصارى تبعث أيضًا إليها، فيأتي إليها من بلاد «أمريكة» وغيرها، من الممالك البعيدة، وقد بعث أيضًا عدة طلاب للعلوم ببلاد الإنكليز، لكنهم ليسوا عديدين، وكذلك ببلاد النمسا، وبالجملة فسائر الأمم تطلب العز، وتسعى إليه، كما قال الشريف الرضي: «اطلب العز، فما العز بغال».
ولا أعز من العلوم والفنون تطلبها الولاة والحكام، فإنهم كلما كانوا أجلَّ خطرًا، وجب أن يكونوا أدق نظرًا.
الباب الرابع
- فأولهم: صاحب الرأي التام، والمعرفة والأحكام، حائز فضيلتي السيف والقلم، والعارف برسوم العرب والعجم. حضرة عبدي أفندي المهردار.
- والثاني: صاحب الرأي السديد، والطالع السعيد، حضرة مصطفى مختار أفندي الدويدار.
- والثالث: الحاوي بين العلم والعمل، واليراع والأسل: حضرة الحاج حسن أفندي الإسكندراني، بلغه الله في الدارين الأماني. (آمين).
وكان لسائر الثلاثة اجتهاد زائد، وتحصيل بالغ، مع أن الأمرية في الغالب تأنف ذلك، وقد كان حكم هؤلاء الثلاثة بالنوبة (ص ٢٤، ٢٥) فكانت نوبة الواحد يومًا، والآخر يومًا آخر وهكذا، فآل الأمر إلى أن صارت شهرًا شهرًا، ثم صار الأفندي المهردار وحده.
الغالب أن هذه الخصلة في سائر علماء الإفرنج، فإن مثل الكاتب كالدولاب إذا تعطل تكسر، وكالمفتاح الحديد، إذا ترك ارتكبه الصدأ، وجناب «مسيو جومار» يشتغل بالعلوم آناء الليل، وأطراف النهار، وسيأتي ذكره عدة مرات، وسنذكر لك عدة من مكاتيبه التي وصلت بيدي، إن شاء الله تعالى.
وهنا انتهت المقدمة.