الفصل الخامس
اعلم أن قوت أهل المدينة هو الحِنطة، وهي في الغالب صغيرة الحبوب، إلا إذا كانت منقولة من البلاد الغريبة فيطحنونها في طواحين الهواء والماء، ويخبزونها عند الفران فيباع الخبز في دكانه، وسائر الناس لها مرتب يومي تشتريه من الخباز، وعلة ذلك توفير الزمان والاقتصاد فيه؛ لأن سائر الناس مشغولون في أشغال خاصة؛ فصناعة العيش في البيوت تشغلهم.
ثم إن المحتسب يأمر الخبازين أن يكون عندهم كل يوم من العيش ما يكفي المدينة وفي الحقيقة لا يمكن فقد العيش أبدًا بمدينة باريس، بل ولا فقد غيره من أمور الأغذية.
وأدم أهل هذه المدينة اللحوم والبقول والخضراوات والألبان والبيض وغيرها، والغالب تعدد الأطعمة ولو عند الفقراء، ثم إن المذابح عندهم تكون بأطراف المدينة لا داخلها، وحكمة ذلك أمران: دفع الوخم، ودفع أضرار البهائم إذا انفلتت، وكيفية الذبح تختلف عندهم، فأما ذبح الضأن فإنه أهون من ذبح غيره، فإنهم ينفذون السكين وراء زوره يعني بين زوره ورقبته، ثم يقطعونه بعكس ما نفعل، وأما ذبح العجول فإنه مثله، وأما الثيران فيضربونها بمقامع من حديد في وسط رأسها فيدوخ من عِظم الخبط، ثم يكررون ذلك عدة مرات، فيقطع الثور النفس مع بقاء الحركة، ثم يذبحونه كما تقدم من ذبح الضأن، ولقد بعثت خادمًا لي مصريًا إلى المذبح ليذبح ما اشترى منه كما هو عادتي، فلما رأى معاملة الثيران بمثل ذلك الأمر البشع جاء يستجير، ويحمد الله تعالى؛ حيث لم يجعله ثورًا في بلاد الإفرنج، وإلا لذاق العذاب كالثيران التي رآها، والعجول والثيران تكون من البقر؛ إذ لا وجود للجواميس بهذه البلاد إلا للفرجة.
وأما ذبح الطيور فإنه على أنواع مختلفة: فمنهم من يصنع فيها كالغنم، ومنهم من يقطع لسان الطائر، ومنهم من يخنقه بفتلة خيط، ومنهم من يذبحه من قفاه إلى غير ذلك.
وأما الأرانب فإنها لا تذبح أبدًا، بل تخنق ليحقن فيها دمها.
وأواني الشرب دائمًا من البلور والزجاج، وعلى السفرة عدة أوان صغيرة من الزجاج أحدها فيه ملح، والآخر فيه فلفل، وفي الثالث خردل إلى آخره.
وبالجملة فآداب سفرتهم وترتيباتها عظيمة جدًا، وابتداء المائدة عندهم (الشوربة) اختتامها الحلويات والفواكه، والغالب في الشراب عندهم النبيذ على الأكل بدل الماء. وفي الغالب، خصوصًا لأكابر الناس، أن يشرب من النبيذ قدرًا لا يحصل به سكر أصلاً؛ فإن السكر عندهم من العيوب والرذائل، وبعد تمام الطعام ربما شربوا شيئًا يسيرا من العرقي، ثم إنهم مع شربهم من هذه الخمور لا يتغزلون بها كثيرًا في أشعارهم، وليس لهم أسماء كثيرة تدل على الخمرة كما عند العرب أصلاً، فهم يتلذذون بالذات والصفات، ولا يتخيلون في ذلك معاني ولا تشبيهات ولا مبالغات، نعم عندهم كتب مخصوصة متعلقة بالسكارى، وهي هزليات في مدح الخمرة، لا تدخل في الأدبيات الصحيحة في شيء أصلاً.
ويكثر في «باريس» شرب الشاي عقب الطعام؛ لأنهم يقولون إنه هاضم للطعام، ومنهم من يشرب القهوة مع السكر، وفي عوائد أغلب الناس أن يفتتوا الخبز في القهوة المخلوطة باللبن، ويتعاطوها في الصباح — وإذا أردت بعض شيء يتعلق بالمأكل والمشرب فراجع فصل المآكل والمشارب في ترجمتنا كتاب: «قلائد المفاخر».
ثم إن الغالب أن ما يقطعه أهل هذه المدينة من المآكل والمشارب كل سنة يكون هذا تقريبه، فمن الخبز ما تزيد قيمته على خمسة وثلاثين مليونًا من الفرنكات، وتأكل من اللحوم نحو واحد وثمانين ألف ثور، وأربعمائة وثلاثين ثورًا، ومن البقر نحو ثلاثة عشرة ألف بقرة، ومن الضأن أربعمائة وسبعين ألف كبش، ومن الخنازير الوحشية والأهلية نحو مائة ألف خنزير، ومن السمن بنحو عشرة ملايين من الفرنكات، ومن البيض بنحو خمسة آلاف فرنك.
ومن غرائب الأشياء أن فيها التحيل على عدم عفونة الأشياء التي من شأنها العفونة؛ فمن ذلك ادخار اللبن بكيفية خاصة خمس سنين من غير تغير، وادخار اللحم طريًا عشر سنوات، وادخار الفواكه لوجودها في غير أوانها، ومع كثرة تفننهم في الأطعمة والفطورات ونحوها، فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة، ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ.
وأما خماراتها فإنها لا تحصى؛ فما من حارة إلا وهي مشحونة بهذه الخمارات، ولا يجتمع فيها إلا أراذل الناس وحرافيشهم مع نسائهم، ويكثرون الصياح وهم خارجون منها بقولهم ما معناه: الشراب، الشراب! ومع ذلك فلا يقع منهم في سكرهم أضرار أصلاً.
وقد اتفق لي ذات يوم وأنا مار في طريق في «باريس» أن سكران صاح قائلاً: يا تركي، يا تركي، وقبض بثيابي، وكنت قريبًا من دكان يباع فيه السكر ونحوه، فدخلت معه، وأجلسته على كرسي. وقلت لرب الحانوت على سبيل المزح: هل تريد أن تعطيني بثمن هذا الرجل سُكْرًا أو نُقَلاً؟ فقال صاحب الحانوت: ليس هنا مثل بلادكم، يجوز التصرف في النوع الإنساني؟ فما كان جوابي له إلا أنني قلت: إن هذا الشخص السكران ليس في هذا الحال من قبيل الآدميين، وهذا كله والرجل جالس على الكرسي، ولا يشعر بشيء، ثم تركته بهذا المحل وذهبت.