الفصل التاسع
والحكماء في باريس كثيرون جدًا، حتى يوجد في كل خط عدة حكماء، بل الطرق مملوءة من الحكماء حتى إن الإنسان إذا أصيب في الطريق بداء فإنه لا بد أن يجد الحكيم حالاً؛ لكثرة الحكماء بهذه البلدة.
ووضع المرضى بالنسبة للأطباء مختلف، فمن المرضى من يطلب الطبيب ليزوره عنده، وللحكيم قدر معلوم على كل مرة يأتيها إليه، ومن المرضى من يذهب إلى الطبيب في بيته، وللطبيب ساعات معينة يمكث فيها قصدًا في بيته لتلقي الناس، ومن المرضى من ينتقل مدة معينة في بيت يسمى بيت الصحة، معَد لمن يدفع قدرًا معينًا في نظير أكله وشربه وسكناه وتطبيب بدنه وخدمته ونحو ذلك.
وفي باريس بيوت حكماء معدة لمن ابتلي بخلل شيء من عظام البدن؛ كالأحديداب فإنه يدخل بيتًا من هذه البيوت للتطبيب، فيقومون بدنه بشيء من علم الحيل، كما إذا كان إنسان مقطوع أحد الأطراف، فإنهم يجبرون ذلك بأن يضعوا له من المعدن أو الخشب شيئًا في محله.
وفي هذه المدينة أيضًا بيوت يدخل فيها النساء الحوامل المشرفات على الولادة، ليلدن فيها ويقضين فيها مدة النفاس، وفي هذه البيوت توجد القوابل وسائر ما يحتاج إليه في الولادة.
ومن المواضع المعدة للمرضى والتي يوجد فيها الأطباء المارستانات العامة، فيدخلها المرضى للعلاج والإقامة مدة المرض بلا عوض.
ثم إن الأطباء في باريس فرقتان: إحداهما أطباء عامة لمطلق الأمراض على تنويعها، والأخرى لداءات خاصة، وبذلك أن علم الطب متسع جدًا، فقلّ أن يشتغل إنسان بسائر فروعه ويحققها، فاحتاج أطباء الفرنساوية إلى أن الطبيب بعد أن يقرأ فروع العلوم الطبية ينبغي له أن يختار منها فنًا ليصرف فيه همته، ويتقوى فيه ويتبحر؛ حتى يشتهر ويمتاز عن غيره من الأطباء بتحقيق ذلك الفن؛ حتى يجلب إليه من به داء يدخله شيء من ذلك الفن؛ فلذلك يوجد في باريس أطباء مثلاً لخصوص مرض الرئة، وأطباء لمرض العين تسمى: «المحلاتية» وأطباء لأمراض الأذنين، وأطباء لداء الأنف وتجبيره، حتى إن من أطباء الأنف من يمكنه بالحيلة أن يرجع الأنف المجدوع صحيحًا.
وفي باريس أطباء تستعمل جاذبية المغناطيس الإنسانية، للاستعانة على مداواة الإنسان. وتفصيل ذلك أن في باريس جماعة من الطبائعية، تزعم أنه ثبت عندهم أن بدن الإنسان يشتمل على مادة سيالية، يعني جاذبية المغناطيس الإنسانية، يعني أن هذه المادة لها خاصية المغناطيس: وتحصل هذه بتقريب اليد عدة مرات كالمسح، فينعس الإنسان، أو تغيب حواسه، حتى لا يحس شيئًا، فإذا غاب وكان مريضًا بمرض شديد عالجه الحكماء بقطع شيء أو بفتح شيء من بدنه من غير أن يشعر بشيء أبدًا، وقد جرب ذلك في قطع ثدي امرأة، بعد مغناطيسيتها، فمكثت عدة أيام ثم ماتت، فقال علماء المغناطيسية: إنها ماتت بسبب آخر لا بألم القطع، فإنها عاشت بعده، فالمغناطيسية نافعة لمعالجة الأمراض العصبية.
وفي باريس أيضًا حكماء لخصوص مداواة خلل العقل، أو لألم أعضاء التناسل، أو الحصوة، ولخصوص الأمراض الجلية المنفرة وغيرها؛ كالجذام والجرب.
وفي باريس أيضًا حكماء لتوليد النساء، فإن العادة أيضًا في باريس أن المرأة يولدها رجل حكيم عارف بأمور الولادة.
ثم إن فروع العلوم الطبية كثيرة، فالمشهور منها فن التشريح، وفن تمييز أمراض الإنسان من حال طبيعته، وفن الكيمياء العقاقيرية، وفن أسباب الأمراض الباطنية الطبية، وعلم الجراحة الطبية، ووضع العصابة على الجراح، والتضميد بالمراهم، وفن تطبيب ملازم الفراش المبتلى بأمراض ظاهرية، وفن تطبيب ملازم الفراش المبتلى بأمراض باطنية، وفن معالجة النفساء، وتوليد الحامل، وعلم الطبيعة التي تدخل الطب، وعلم العقاقير والأدوية المفردة أو المركبة، وصناعة المعاجلة ومباشرة المريض.
ومدارس الحكمة بمدينة باريس منافعها شهيرة؛ فمنها مدرسة كبيرة تسمى «أكدمة الصكمة السلطانية، وهي ديوان الحكماء السلطانية وهي مجعولة لحاجة المملكة الفرنسية، ومباشرة الأمراض العامة الضرر، كالأمراض الوبائية، والأمراض التي يعتقد الفرنساوية أنها معدية، وكمرض فصل البهائم.
ومن وظيفة علماء «أكدمة الحكمة» معالجة سائر الناس بما تجعله المملكة موقوفًا على النفع العام، كإشهار تلقيح البقري، لإخراج الجدري، وامتحان الأدوية الجديدة، والأدوية المكتومة، وامتحان الأدوية المعدنية الأصلية أو المصطنعة، لإدخالها في الأدوية، وبالجملة فأهل هذه الجمعية السلطانية أعظم الحكماء الفرنساوية.
ولنذكر هنا بعض ما يتعلق بمارستانات باريس في فصل فعل الخير، وقد أسلفنا بعض شيء من ذلك في الفصل السابق.
ولنذكر لك نبذة من فن قانون الصحة، وتدبير البدن؛ حتى تتم فائدة هذه الرحلة، وهذه النبذة ترجمتها في باريز لقصد استعمال جميع الناس بمصر لها، لصغر حجمها، فهي وإن كانت تخرجنا عما نحن بصدده، إلا أن منفعتها عظيمة، وثمرتها جسيمة.