الفصل العاشر
اعلم أن غالب الناس ببلاد الإفرنج وسائر البلاد التي تكثر الصناع والنجامة فيها يعيشون من كسب أيديهم، فإذا حصل للإنسان منهم مانع كمرض أو نحوه، فقد معيشته واضطر إلى أن يعيش من غير كسب يده، كأنّ يتكفف الناس، أو نحو ذلك، فشرعت المارستانات المعدة لفعل الخير، حتى إن الإنسان لا يسأل ما في أيدي الناس، وكلما كثرت صنائع بلدة وكثر كسبها كثرت أهاليها فاحتاجت إلى مارستانات أكثر من غيرها، ومعلوم أن مدينة «باريس» من أعمر المدن وأكثرها صناعة ونجامة؛ فلذلك كثرة مارستاناتها وجمعيات فعل الخير بها سادة لخلل شح أفراد أهلها وبخلهم؛ لما تقدم أنهم بمعزل عن الكرم من العرب، فليس عندهم حاتم طي، ولا ابنه عدي، ولم يخرج من بلادهم معن بن زائدة الشهير بالحلم والندى الذي قال فيه الشاعر:
وفي مدينة باريس ديوان لتدبير المارستانات، وأهله خمس عشرة نفسًا للمشورة العامة، وفي هذا الديوان خمس نظارات: النظارة الأولى: لمباشرة المارستان، النظارة الثانية: لمباشرة مهمات المراستان، والخدمة للمرضى والعقاقير العامة، النظارة الثالثة: مباشرة الأوقاف، النظارة الرابعة: مباشرة الفقراء في بيوتهم وإعانتهم، النظارة الخامسة: مباشرة مصاريف المارستان وتوابعها.
ولا يدخل الإنسان المارستان إلا إذا أثبت مرضه. يقول الحكماء: ومن قام من مرضه في المارستان وأراد أن يخرج منه قبل أن يتم شفاؤه وترجع له قوته أخذ من الوقف بعض شيء يستعين به على قوته؛ حتى يمكنه الرجوع إلى أشغاله.
وأعظم مارستان «بباريس» المارستان المسمى: «أوتيل ديو» يقرب أن يكون معناه «بيت الله» وهو موقوف على المرضى والجرحى، ولا يدخل فيه الأطفال ولا أرباب الداء العضال، ولا المجانين ولا النفساء ولا أرباب الأمراض المزمنة، ولا المبتلى بالإفرنجي، فإن كل داء من هذه الأشياء له مارستان خاص.
ومن المارستانات الشهيرة في «باريس» مارستان يسمى «ستلويز» وهو معد لأرباب الأمراض المزمنة، ولأرباب الدمامل والقوبة، والحكة، والجرب، ونحو ذلك.
وفي باريس مارستان للقطاء، يعني الأطفال الذين يلتقطونهم من الطرق فيدخل فيه الذين يهملهم أهلهم كأولاد الزنا ونحو ذلك.
«وبباريس» مارستان أيضًا للأيتام، وفيه يدخل الأولاد الفاقدون لأهاليهم، وهو موقوف على نحو ثمانمائة ذكر وأنثى. فالذكور فيه في جهة، والإناث في أخرى، ويباشر هذا المارستان ديوان يدبره فلا يوضع الصغير في المارستان إلا بأمر هذا الديوان، وإذا بلغ الإنسان إحدى عشرة سنة في السن فإنه يخرج بإذن أهل ذلك الديوان من هذا المارستان، ويسكن عند معلم صنعة ومصرفه يخرج من وقف المارستان، ولمعلم الصنعة أن يتبنى الصغير، أي يأخذه وينزله منزلة ابنه، ولكن بشرط أن يثبت لأهل ذلك الديوان يساره وفضله وحسن حاله.
ومن جملة مارستانات «باريس» مارستان موقوف لتلقيح الجدري بوضع البقري.
ومنها مارستانان يسمَّيان «مارستاني الشيخوخة والهرم» فأحدهما للذكور، والآخر للنساء، ومنها مارستان لأصحاب الداء العضال، موقوف على أربعمائة وخمسين مريضًا ذكرًا وخمسمائة وعشرين مريضة».
ومنها: مارستان العميان، من أهل «باريس» أو غيرها من العمالات، فلهم فيه الأكل والشرب، وسائر ما يحتاجون إليه في تعليمهم ونحو ذلك.
ويوجد في «باريس» زيادة عن هذه المارستانات ديوان عام يسمى «ديوان الإحسان» المقصود منه تكميل الخير الذي لا يمكن في المارستانات، كما إذا أحرقت تجارة تاجر أو انكسر، فإنه يجبر من هذا الديوان بشروط معلومة.
وفي كل خط «بباريس» ديوان إحسان، والإحسان فيه قسمان: إحسان حالي وإحسان حولي، فالأول يعطى للفقير الذي وقف حاله أو حدث له ما يعطله، والثاني لمن به حالة دائمة تمنعه من الشغل، ومن فعل الخير بمدينة «باريس» إنه يوجد بشاطئ نهرها علب وحوائج بها روائح لتشميم الغريق والمغمى عليه والجريح ونحو ذلك ليفيق، ويوجد أيضًا بهذه المواضع عدة رجال من أهل الخبرة، لينهضوا لإسعاف من وقعت له حادثة عارضة.
ومن هذا كله يتبين أن فعل الخير بمدينة «باريس» أكثر منه في غيرها بالنسبة للجملة أو للمملكة، لا لكل واحد على حدته فإنه قد يشاهد في طرقها أن بعض الناس الذين لا يذهبون إلى المارستانات الموقوفة ونحوها يقع في وسط الطريق من الجوع، وربما تراهم ينهرون السائل، ويردونه خائبًا، زاعمين أنه لا ينبغي السؤال أبدًا؛ لأنه إذا كان السائل قادرًا على الشغل فلا حاجة إلى السؤال، وإن كان عاجزًا عنه فعليه بالمارستانات ونحوها؛ ولأن السائلين عندهم أصحاب حيل في تحصيل الأموال في غالب الأحوال، حتى إنهم يتشكلون في صورة المجاريح ونحوهم؛ ليشفق الناس عليهم ويرقوا لحالهم.
ومن فعل الخير أنهم يجمعون عند الحاجة أشياء لمن نكبه الزمان حتى يصير بها غنيًا، فمن ذلك أنهم جمعوا لأولاد «الجنرال ني» نحو مليونين من الفرنكات يعني ستة ملايين من القروش.