الفصل الحادي عشر
اعلم أن المركوز في أذهان هؤلاء الطوائف محبة المكسب والشغف به، وصرف الهمة إليه بالكلية، ومدح الهمة والحركة وذم الكسل والتواني، حتى إن كلمة التوبيخ المستعملة عندهم على ألسنتهم في الذم هي لفظة الكسل والتنبلة، وسواء في محبة الأشغال العظيم والحقير، ولو حصل من ذلك مشقة أو مخاطرة بالنفس، فكأنهم فهموا قول الشاعر:
إلى أن قال:
ثم إن أعظم التجارات وأشهرها في «باريس» معاملات الصيارفة، والصيارفة قسمان: صيارفة المملكة أو (الميري)، وصيارفة «باريس»، ووظيفة صيارفة الدولة بالنسبة للتجارة أن يضع الناس ما يريدون وضعه، ويأخذوا كل سنة ربحه المعين في قانونهم، فلا يعد عندهم هذا الربح ربا إلا إذا زاد عما في القانون، وللإنسان أن يأخذ ما وضعه من المعاملة عند صيارفة الدولة متى أراد، ومثل ذلك صيارفة «باريس» فإنهم يأخذون ويعطون الأموال بالمرابحة، وهم يعطون الربح أزيد مما تعطيه صيارفة بيت المال الذين هم صيارفة المملكة، ولكن المال الموضوع عند صيارفة المملكة آمن من الموضوع عند صيارفة الدولة، فإن ما يأخذونه يكون دينًا على الدولة، والدولة دائمًا موجودة.
ومن أمور المعاملات المهمة عند أهل «باريس»: جمعية تسمى «الشركاء في الضمانة» فإنها تضمن لمن يدفع لها كل سنة قدرًا هينًا مخصوصًا سائر ما يتلف في بيته بحادثة قهرية، كما إذا احترق بيته أو حانوته أو نحو ذلك، فإنها ترجعه له كما كان، وتدفع له قيمته.
وفي باريس عدة خانات عظمى، توجد فيها سائر المبيعات، ووكائل وحوانيت وبيوت للتجارة أو الصناعة مكتوب على واجهتها اسم التاجر واسم تجارته، وبعض الأحيان قد يكتب اسم المتجر، ألا يمكن أن يشرع الإنسان في التجارة إلا إذا دفع لبيت المال شيئًا ولو هينًا، فيأخذ (نيشانًا علامة على الإذن له في التجارة، فيحتاج أن يكون معه (النيشان)، وعلى تجارته.
وللتجارة مكتب مخصوص يسمى مكتب التجارة، يتعلم فيه التلامذة علم التجارة، وعلم تمييز صفات أنواع الأشياء المبيعة، ومعرفة الأثمان والقيم.
وفي هذا المكتب خمس عشرة مدرسة، وفيه تلامذة من أقاليم عديدة، وبمقتضى قانون ذلك المكتب أنه بدفع القدر المعين يقبل من أراد الدخول للتعليم من سائر الأمم.
ومن الأمور التي تعين على النجامة والكسب تعمير طرق البر والبحر؛ فمن ذلك صناعة الخلجان والقوارب التي تسير بالدخان ونصب القناطر، ونصب دواوين تسفير العربات الكبيرة (والتليغراف) وهي الإشارة، ونصب البريد بالساعي، والبريد بالخيل وغير ذلك.
وأما البريد المسمى عند الفرنسيس البسطة» فإنه من أهم المصالح النافعة في التجارات وغيرها، يسهل فيه إخبار الغير بواسطة المكاتبات التي تذهب عاجلاً، ويأتي ردها في أسرع ما يكون. وتدبيرها بكيفيتها التي هي عليها من أعظم ما يمكن، فإن المكاتيب التي تبعث في البلد وأن العمالة تصل إلى صاحبها من غير شك؛ لأن سائر نمرة البيوت مكتوب عليها بالرقم عددها المسمى «النمرة» فيها يمتاز البيت عما عداه، والمكتوب الذي تبعثه الإنسان تضعه في محل المكاتيب الموضوع في كل حارة، فيأتي الساعي ويأخذه، فيصل المكتوب إلى الحارة الأخرى، ويأتي رده في يومه.
ثم إن الفرنساوية يحترمون أمور المراسلات غاية الإمكان، فلا يمكن لإنسان أن يفتح مكتوبًا معنونًا باسم آخر ولو كان متهمًا بشيء، ولما كان احترام المراسلات بباريس على هذه (ص ١٢٦) الحالة كثرت الرسائل بين الأحباب والأصحاب، خصوصًا بين العشاق، لأمن الإنسان على مكتوبه من أن يفتحه غير المرسل إليه، المعنوَن باسمه، وأعلام العشق بين العاشق ومعشوقته يكون بالمراسلة، وبها أيضًا يحصل الوعد بالمواصلة، وفي باريس محل لإرسال المعاملات والحوائج مع الساعي أيضًا، من غير خوف أبدًا ومن الأمور النافعة في التجارات (الجورنالات) فيكتبون فيها كثيرًا من البضاعة النافعة أو الجيدة الصنعة، ويمدحونها، ليروجوا السلع، وليعلِّموا الناس بها، وصاحب البضاعة يدفع لهم شيئًا في نظير ذلك، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وقد يطبع التاجر الذي يرى ترويج سلعته عدة أوراق صغيرة، ويرسلها مع خدم في سائر البيوتات، ولسائر المارين بالطرق، ويفرقها عليهم مجانًا؛ ففي هذه الأوراق يذكر اسمه واسم دكانه، وما عنده من المبيع، ويعين القيمة لسلعته.
وبالجملة ففي مدينة باريس يباع سائر ما يوجد في الدنيا سواء كان خطيرًا أو حقيرًا، ومن أعظم الأشياء دكاكين العقاقيرية، فيها توجد سائر الأدوية مجهزة، وسائر العقاقير التي وجه الأرض المعروفة الاسم والخاصية.
وسائر الخلق «بباريس» يحبون الكسب والتجارة، سواء الغني والفقير، حتى إن الصغير الذي لا يمكنه التكلم إلا بالأشياء الصغيرة إذا أعطيته فلسًا يفرح به ويصفق بيديه قائلاً ما معناه بالعربية: كسبت وقنيت؛ ولولا أن كسبهم مشوب في الغالب بالربا لكانوا أطيب الأمم كسبًا، وإذا كسدت تجارة أحدهم كما هو غالب في تلك البلاد فسد حاله، وآل أمره إلى تطلب ما في أيدي الناس، وربما أخذ معه مكتوبًا من أحد الكبار يدل على كساد حاله، وأنه يستحق الإعانة، ويكثر وقوع مثل هذا الأمر في هذه المدينة وإن كثر أخذها وعطاؤها.
وتداول الأمطار والرياح لا يمنع الإنسان منهم عن الخروج إلى شغله، يقولون بلسان حالهم: اليد الفارغة تسارع إلى الشر، والقلب الفارغ يسارع إلى الإثم.
وأهل «باريس» أغنياء جدًا، حتى إن المتوسط منهم أغنى من تاجر عظيم من تجار القاهرة، فلا يرضون قول الشاعر:
بل يحرصون على الأموال، ويسلكون سبيل الحرص زاعمين أنه يزيد في الأرزاق، ولا يقتدون بقول الشاعر:
وقد يوجد بها من أهالي الحرف الدنيئة من إيراده كل سنة أبلغ من مائة ألف فرنك، وذلك من كمال العدل عندهم، فهو المعول عليه في أصول سياساتهم، فلا تطول عندهم ولاية ملك جبار أو وزير اشتهر بينهم أنه تعدى مرة وجار، ولا شك أنه تأسس في قلوبهم قول الشاعر:
وهذا لا يمنع من أنهم يدفعون (الميري) عن طيب خاطر، لما أنهم يرون أن الخراج عمود الملك إذا دفع كل إنسان منهم ما هو عليه قادر، فمال (الميري) هو قوام صورة الممالك، وإحسان مصرفه في استحقاقه خير مما هنالك، قال الشاعر:
ولما كانت رعيتهم رائعة كان الدولة عندهم لها إيراد سنوي عظيم، فإن إيراد الدولة الفرنساوية كل سنة نحو تسعمائة وتسعة وثمانين مليونًا من الفرنكات.
ومن جملة أسباب غنى الفرنساوية أنهم يعرفون التوفير، وتدبير المصاريف، حتى إنهم دونوه، وجعلوه علمًا متفرعًا من تدبير الأمور الملكية، ولهم فيه حيل عظيمة على تحصيل الغنى، فمن ذلك عدت تعلقهم بالأشياء المقتضية للمصاريف، فإن الوزير مثلاً ليس له أزيد من نحو خمسة عشر خادمًا، وإذا مشى في الطريق لا تعرفه من غيره، فإنه يقلل أتباعه ما أمكنه داخل داره وخارجها وقد سمعت أن قريب ملك الفرنسيس المسمى: الدوق «درليان» وهو الآن السلطان الذي هو من أعظم الفرنسيس مقامًا، وأكثرهم غنى، له من الأتباع وسائر من طرفه من العساكر ونحوها (كالبستانجية) والخدم وغير ذلك نحو أربعمائة نفس لا غير، والفرنساوية يستكثرون ذلك عليه، فانظر الفرق بين باريس ومصر؛ حيث إن العسكري بمصر له عدة خدم.