الفصل الثاني عشر
قد تقدم لنا في الشرطة أن دين الدولة هو دين النصارى «القاثوليقية» وقد بطل هذا الشرط بعد الفتنة الأخيرة، وهم يعترفون للبابا الذي هو ملك رومة بأنه عظيم النصارى وكبير ملتهم، وكما أن الدين القاثوليقي هو دين الدولة الفرنساوية كذلك هو دين غالب الناس عندهم، وقد يوجد «بباريس» الملة النصرانية المسماة: «البروتستانتية» وغيرها، ويوجد بها كثيرٌ من اليهود المستوطنين، ولا وجود لمسلم مستوطن بها.
وقد أسلفنا أن الفرنساوية على الإطلاق ليس لهم من دين النصرانية غير الاسم، فهم يدخلون في اسم الكتابيين، فلا يعتنون بما حرمه دينهم، أو أوجبه، أو نحو ذلك؛ ففي أيام الصيام في «باريس» لا ينقطع أكل اللحم في سائر البيوت، إلا ما ندر، كبعض القسوس، وبيت ملك الفرنسيس القديم، وأما باقي أهل المدينة فإنهم يستهزئون بذلك ولا يفعلونه أبدًا، ويقولون: إن سائر تعبدات الأديان التي لا نعرف حكمتها من البدع والأوهام. ولا تعظم القسوس في هذه البلاد إلا في الكنائس عند من يذهب إليهم، ولا يسأل عنهم أبدًا، فكأنهم ليسوا إلا أعداء للأنوار والمعارف، ويقال: إن غالب ممالك الإفرنج مثل «باريس» في مادة الأديان، ثم إن «مسيو دساسي» لما اطلع على ذلك كتب عليه ما نصه: قولك أن الفرنساوية ليس لهم دين ألبتة، وإنهم ليسوا إلا بالاسم فيه نظر، نعم إن كثيرًا من الفرنساوية خصوصًا من سكان «باريس» ليسوا نصارى إلا بالاسم فقط لا يعتقدون اعتقادات تدينهم، ولا يتعبدون بعبادات النصرانية، بل هم في أعمالهم لا يتبعون إلا أهواءهم، تشغلهم أمور الدنيا عن ذكر الآخرة، تراهم ما دامت حياتهم لا يهتمون إلا باكتساب الأموال بأي وجه كان، وإذا حضرهم الموت ماتوا كالبهائم، ولكن فيهم أيضًا من يقيم على دين آبائه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعمل الصالحات، وهم طائفة لا تحصى من الرجال والنساء، ومن العوام والخواص. بل ومن المشهورين بفضل العلم والأدب، غير أنهم في ورعهم وتقاهم على مراتب شتى: منهم من يشارك عامة الناس تصرفاتهم، ويحضر معهم في محافل اللذات أعني «السبكتاكل» «والبال» ومجامع الأغاني، ومنهم المتقشفون المعرضون عن كل ما تشتهيه الأنفس، وهؤلاء أقل عددًا، وإن دخلت كنائسنا أيام الأعياد المعظمة ظهر لك صحة قولي.
هكذا انتهت عبارته والحامل له على ذلك: كونه من أرباب الديانة، وعددهم نادر ولا حكم له.
ومن الخصال العادية المهولة ببلاد الفرنسيس أو بلاد «القاثوليقية»: عدم الإذن بزواج القسيسين على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم، فإن عدم زواجهم يزيدهم فسقًا على فسقهم.
ومن الخصال الدميمة: إن القسيسين يعتقدون أنه يجب على العامة أن يعترفوا لهم بسائر ذنوبهم؛ ليغفروها لهم، فيمكث القسيس في الكنيسة على كرسي يسمى كرسي الاعتراف، فسائر من أراد أن تغفر ذنوبه يذهب إلى كرسي الاعتراف، داخل باب بينه وبين القسيس حائل كالشبكة، فيجلس، ثم يعترف قدامه بذنوبه، ويستغفره، فيغفر له، وقد عرف عندهم أن أكثر من يدخل الكنيسة أو يذهب إلى الاعتراف يكون من النساء والصغار، وهذا موافق لقول بعض شعراء العرب:
ودرجة القسيسية عندهم مختلفة؛ فأولهم الكردينال وهو بعد «البابا» في الرتبة؛ وذلك أن البابا قبل توليته يشترط أن يكون «كردينالاً» ثم بعده «المطران» ثم بعده «الأسقف» ثم «الخوري» ثم «نائب الخوري» ثم «الشماس».
وعند الفرنساوية أعياد دينية متنقلة: يعني لا تقع في يوم معين كل سنة، بل هي دورية ومرتبة في الغالب على وقوع عيد الفصح.
فمن أعيادهم الغريبة «عيد الرفاع» وقد تقدم، ومنها عيد ظهور السيد المسيح، ويسمى عند الفرنسيس: عيد الملوك، وذلك أن كل عائلة تصنع فطيرة عظيمة، وتضع فيها حبة فول في عجينها، ويقسمون الفطير على الندامى، فكل من جاءت حبة الفول في نصيبه فهو الملك، فإن جاءت في نصيب رجل فإنه يسمى باسم الملك، ويخاطب فوق المائدة وتمام الليلة بخطاب الملوك، ثم يختار من النساء امرأة يجعلها الملكة، فتخاطب أيضًا بذلك الخطاب، وإن جاءت الفولة من نصيب امرأة فإنها أيضًا تختار من الحاضرين شخصًا كالزوج لها، وتطلق عليه اسم الملك، فيكون سائر إكرام الليلة للملك والملكة، برسوم خاصة، وقوانين مألوفة، وهذه الكيفية تصنع في سائر البيوت في مدينة «باريس» حتى بيت ملك الفرنسيس.
وللقسيسين بدع لا تحصى. وأهل باريس يعرفون بطلانها، ويهزءون بها، ولهم أعياد أخر لا يسعها هذا الكتاب.
ثم إن لكل إنسان من الفرنساوية عيدًا وهو يوم مولد القديس الموافق له في اسمه فإذا كان إنسان اسمه بولص مثلاً فإن عيده يكون عيد «ماري بولص»، فنرى كل إنسان اسمه بولص«يصنع وليمة ويشهر عيده، وفي عيد الإنسان يهادونه بأنواع الأزهار.»