الفصل الثاني
فنقول: قال في القاموس: إن «إسكندرية» منسوبة إلى «إسكندر» ابن الفيلسوف (صوابه فيليبش)، وهو الذي قتل «دارا» وملك البلاد.
والإسكندرية ستة عشر بلدًا منسوبة إليه، منها بلدة ببلاد الهند، وبلدة بأرض بابل، وبلدة بشاطئ النهر الأعظم، وبلدة بصغد سمرقند، وبلدة بمرو، واسم لمدينة بلخ، والثغر الأعظم ببلاد مصر، وقرية بين حماة وحلب، وقرية على دجلة قرب واسط، منها الأديب أحمد بن المختار بين مبشر، وقرية بين مكة والمدينة وبلدة في مجاري الأنهار بالهند، وخمس مدن أخرى.
ومرو: بلدة من خراسان ببلاد الفرس، والنسبة إليها مروي ومروزي، وانظر ما مراده بالنهر الأعظم؟ ثم رأيت في كتاب تقويم البلدان لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن ناصر سلطان حماة أن بالأندلس نهرًا يسمى بالنهر الأعظم، وهو نهر «أشبيلية» ونص عباراته: «ومنها نهر «أشبيلية» من بلاد الأندلس، ويسمى عند أهل الأندلس النهر الأعظم» انتهى.
ولعله إنما سمي عندهم بالنهر الأعظم لامتيازه بحادثة المد والجزر، كما نبه على ذلك أبو الفداء في قوله: يدخله المد والجزر عند مكان يسمى الأرحا لا تزال فيه المراكب منحدرة مع الجزر، صاعدة مع المد، وقال بعضهم في المد والجزر:
فعلى هذا تكون «إسكندرية» اسم بلدة بالأندلس. ولعل «إسكندر» حين اجتيازه بجزيرة الأندلس بنى بها بلدة.
وذكر صاحب كتاب «نشق الأزهار في عجائب الأقطار» إن الإسكندر ذا القرنين اجتاز بلاد الأندلس، وفتح بها (بغاز) جبل الطارق، المسمى بحر الزقاق، وإن محل هذا البغاز كان أرضًا بين «طنجة» وبلاد الأندلس، ولم يذكر في هذا الموضع أن «إسكندر» بنى بلدة بهذه الجزيرة، لكن هذا لا يدل على عدم وجود بلدة بها.
وظاهر عبارتهم أنه يوجد اثنان، كل منهما يسمى (ص ٢٧) الإسكندر: أحدهما «إسكندر ذو القرنين» والآخر، هو قاتل «دارا».
وقال في القاموس في موضع آخر: «ذو القرنين» إسكندر الرومي؛ لأنه لما دعاهم إلى الله تعالى ضربوه على قرنه، فأحياه الله تعالى، ثم دعاهم، فضربوه على قرنه الآخر، فمات، ثم أحياه الله، أو لأنه بلغ قطري الأرض، أو لضفيرتين له. انتهى. فظاهر كلامه أن إسكندر ذا القرنين هو نفس إسكندر الرومي.
والذي عليه علماء الشرق أن ذا القرنين المذكور في الآية الشريفة هو غير إسكندر اليوناني، فإن الأول أقدم من الثاني وهو الذي قيل بنبوته، وأنه بنى سد «يأجوج ومأجوج»، وإنه بحث عن ماء الحياة بلا طائل، وفاز به الخضر (عليه السلام) فلذلك كان حيًا إلى الآن، وأما الثاني فإنه يسمى «إسكندر الرومي» أو اليوناني، يعني الإغريقي؛ لأن قدماء الأغارقة تسمى: اليونان، والمتأخرون يشتهرون باسم الأروام.
وعلى كل حال، فقد اتفق كلام العلماء وحكماء الإفرنج على أن «إسكندرية» تنسب إلى إسكندر الرومي، وهو ابن «فيلبش».
وأنا أقول: الظاهر أن ذا القرنين هو الذي يعبر عنه عند اليونان «بهرقليوس» أو «هرقول»، يدل على ذلك تسمية بوغاز جبل طارق «بوغاز هرقليوس»، مع عبارة كتاب «نشق الأزهار». وكذلك ما ذكر في خرافات اليونان، عند الكلام على عمودي «هرقول»، من أنه أدخل «أوقيانوس» البحر المحيط) في الجزء المسمى الآن «جبل طارق» بين جبلين كانا قبل ذلك متصلين ببعضهما. أحدهما يسمى: «قلبة» في جهة إسبانيا، والآخر يسمى «بيلا» في جهة «أفريقة»، وصارا بعد فتح البوغاز بينهما كأنهما عمودان، وكتب عليهما طهرقول ما معناه «ليس خلف ذلك شيء».
ومما يدل على ذلك أيضًا: ما ذكره اليونان في خرافاتهم، من أن هرقول من فحول الرجال الذين يعبرون عنهم بأنصاف الآلهة، ويعتقدون أنهم متولدون بين الباقي والفاني، أي بين إله وبشر، فإن «هرقول» (ص ٢٦، ٢٨) (على زعمهم) متولد من «جوبتير» أي «المشترى» و«اللمينة» زوجة أنفتريون» ملك «طيوة» حيث تشكل بشكل هذا الملك، وواقعها، فحملت به منه.
وذلك قريب مما ذكره «الدميري» في كتابه: «حياة الحيوان» نقلاً عن «الجاحظ» حيث قال ما ملخصه: إن عمرو بن يربوع كان متولدًا بين السعلاة والإنسان.
قال: وذكروا أن «جُرهمًا» كان نتاج الملائكة والآدميين، فكان إذا عصى الملك ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت، وأن من هذا القبيل كانت «بلقيس» ملكة «سبأ»، وكذلك كان ذو القرنين، وكانت أمه آدمية، وأبوه من الملائكة؛ ولذلك لما سمع عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) رجلاً ينادي رجلاً: يا ذا القرنين: قال أفرغتم من أسماء الأنبياء، فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟
وقال: وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس، فقال تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، وذلك أن الجنيات إنما تعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق، في طلب السفاد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء، وقال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ، ولو كان الجان لا يفتض الآدميات، ولم يكن: ذلك في تركيبه، لما قال الله هذا القول. انتهى.
غاية ما هناك أن العلوية في اعتقاد العرب آهلة في اعتقاد اليونان، وأظن أن هذه المسألة لو عرضت كالجاري على أرباب مدرسة فرنسا العظمى المسماة «أكدمة» لأجابت بعد النظر فيها بالصحة، وأيدت القول بذلك.
وقد سلف في عبارة القاموس أسماء البلاد التي تسمى «بإسكندرية»، وليس مما ينسب إلى «إسكندر» الرومي الشهير بلدة «الأرناؤط» المسماة «إسكندرياسي»، يعني «إسكندرية». بل هي منسوبة على «إسكندربيك».
وقال بعضهم: مدينة «إسكندرية» ببر مصر كانت تسمى قبل بناء الإسكندر لها بنحو ثلاثمائة سنة واثنتين قبل ظهور عيسى (عليه السلام) «قيسون» (بفتح القاف وسكون الياء التحتية).
وقال الإفرنج: إنها كانت تسمى «نو»، (بضم النون)، وقبل فتحها بالإسلام كانت تارة تحت حكم الرومان، وتارة تحت حكم الأروام أو اليونان.
وفتحها عمرو بن العاص بأمر عمر بن الخطاب، ولما فتحها كتب إلى عمر (رضي الله عنه) أنه وجد بها أربعة آلاف قصر، وأربعة (ص ٢٦) آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي تدفع الجزية، وأربعمائة ميدان، واثني عشر ألف بقال، وخضري، وفاكهاني، ولعل هذا من مبالغات المؤرخين، كما بالغوا في غيرها من البلاد؛ كمدينة بغداد.
ومن عجائب ما فيها خزانة الكتب التي حرقها عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، فكانت عدة ما فيها من الكتب سبعمائة ألف مجلد.
وقد كان أهل هذه المدينة في سالف الزمان ثلاثمائة ألف نفس تقريبًا، أهلها الآن أقل من ذلك بكثير.
وقد تغلب عليها الفرنسيس ثم أخرجهم الإنكليز منها، ورجعت إلى يد الإسلام.
ومن الآن يلوح عليها أنوار العمارات، وبها بهجة التجارة، كما أنها كانت في الزمن السابق مركزًا للتجارات، وصارت في هذا الوقت دار إقامة الحاكم في أغلب الأوقات، وهي أشبه وضعًا وعمارة بفرضات الإفرنج.
وهي على الشمال الغربي من القاهرة بنحو خمسين فرسخًا، موضوعة في إحدى وثلاثين درجة، وثلاث عشرة دقيقة من العرض، يعني درجة البعد عن خط الاستواء، وسيأتي ذكر المسافة بينها وبين باريس.