الفصل الثالث عشر
الذي يظهر لمن تأمل في أحوال العلوم والفنون الأدبية والصناعة في هذا العصر بمدينة «باريس» أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجها بهذه المدينة، وإنه لا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء «باريس» بل ولا في الحكماء المتقدمين كما هو الظاهر أيضًا، غير أن صاحب النقد السديد قد يقول: إن سائر الفنون العلمية التي يظهر أثرها بالتجارب، معرفة هؤلاء الحكماء بها ثابتة، وإتقانها عندهم لا نزاع فيه، كما يشهد لذلك قول بعض أجلة الحكماء: «الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها».
وأما أغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن له مبعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلاً، فإنهم محققون فيه: وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له.
ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء الله تعالى.
وإنما نقول هنا: إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث، من الخلاف الذي ذكره صاحب متن السلم في الاشتغال بعلم المنطق. فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه، وقد قلت جامعًا بين مدح هذه المدينة وذمها:
ومن جملة ما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فهي غير متشابهة، وإذا أراد المعلم أن يدرس كتابًا لا يجب عليه أن يحل ألفاظه أبدًا، فإن الألفاظ مبينة بنفسها، وبالجملة فلا يحتاج قارئ كتاب أن يطبق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها.
وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمنون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ. فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم، وعن مجرد المنطوق والمفهوم، وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، ولما غير ذلك فهو ضياع مثلاً إذا أراد إنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض بأن العبارة كانت قابلة لتجنيس وقد خلت عنه، وإن المصنف قدم كذا، ولو أخره كان أولى، وأنه عبر في محل الواو والعكس أحسن، ونحو ذلك، ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، وتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون، ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم، فالواحد منهم كما قال الشاعر:
فإن قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك بدلاً من قوله لا أعرف أصل هذا الشيء بما معناه «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» ونحو ذلك، فأولادهم دائمًا متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق.
والعادة أنهم يزوجون أولادهم قبل تمام تعلمهم، وهذا يكون غالبًا في عشرين إلى خمس وعشرين سنة، فقل منهم من كان في سن العشرين، ولم يبلغ درجة التدريس، أو يتعلم صنعته التي يريد تعلمها، غير أنه قد يمكث مدة طويلة ليتمكن من العلوم والفنون غاية التمكن، وهذا السن في الغالب تظهر به براعة الإنسان وحسن طالعته، كما قال الشاعر:
بأنه وهو في دون ذلك السن ألف في أصعب من ذلك المقام، وما قلناه بالنسبة لأرباب المعارف من الإفرنج.
وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالمًا، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء، ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية التي من جملتها علم الأحكام والسياسات.
ومعرفة العلماء في فروع الديانة النصرانية هينة جدًا، فإذا قيل في فرنسا: هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه عالم في دينه، بل إنه يعرف علمًا من العلوم الأخرى [ي]، ويظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا، عن كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفأس، ومدارس بخارى ونحو ذلك كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية كعلوم العربية. والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية، والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئًا جديدًا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات، وستعرف بعض هذا إن شاء الله تعالى.
ومما يستغرب: أن في رجال العسكرية منهم من طباعه توافق طباع العرب العربا في شدة الشجاعة الدالة على قوة الطبيعة، وشدة العشق الدالة ظاهرًا على ضعف العقل، مزاجهم كالعرب في الغزل بالأشعار الحربية، وقد رأيت لهم كلامًا كثيرًا يقرب من كلام بعض شعراء العرب مخاطبًا لمحبوبته بقوله:
وقول الآخر:
وقول صاحب لامية العجم:
ولنذكر لك مجامع العلماء، والمدارس المشهورة، وخزائن الكتب، ونحو ذلك لتعرف به مزية الإفرنج على غيرهم.
فمن خزائن الكتب: الخزانة السلطانية، وفيها سائر ما أمكن الفرنساوية تحصيله من الكتب في أي علم كان بأي لغة كانت، مطبوعة أو منسوخة، وعدة ما فيها من الكتب المطبوعة أربعمائة ألف مجلد، وفيها مبلغ عظيم من الكتب العربية الخزائنية التي يندر وجودها بمصر أو بغيرها، وفيها عدة مصاحف لا نظير لها أبدًا، ثم إن المصاحف التي عند الفرنساوية في خزائنهم غير مهانة، بل هي مصونة غاية الصون، وإن كان عدم إهانتها حاصلاً غير مقصود، غير أن الضرر في كونهم يسلمونها لمن يريد أن يقرأ القرآن منهم أو يترجمه أو نحو ذلك، وتوجد المصاحف للبيع في مدينة «باريس»، وبعضهم لخص من القرآن العظيم سائر الآيات التي اختارها للترجمة ثم ترجمها، وضم إليها قواعد الإسلام، وبعض شعبه، وقال في كتابه إنه يظهر له أن دين الإسلام هو أصفى الأديان، وأنه مشتمل على ما لا يوجد في غيره من الأديان.
ومنها: خزانة المدينة، وهي نحو ستة عشر ألف مجلد، وهي دائمًا في الزيادة، وكتبها آداب.
وهناك خزائن مملوكة وهي كثيرة جدًا: فمنها ما يشتمل على خمسين ألف مجلد، ومنها للدولة نحو أربعين خزانة، فأقل ما يوجد في كل خزانة منها ثلاثة آلاف مجلد، وأكثرها في الغالب خمسون ألف مجلد، وقد تنيف عن ذلك ولا حاجة لتسميتها هنا.
وتعلق هذه الأشياء العلوم إن الإنسان يدرس ما يراه في الكتب ويقابله، فإن رأى في كتاب تعريف حجر كذا، وحيوان كذا، وكان الحجر أو الحيوان نصب عينه قابله مع الأوصاف المذكورة في الكتب، وأنفع الأشياء بالنسبة للطبيعيات بمدينة «باريس» البستان السلطاني المسمى «بستان النباتات» وفيه سائر ما يعرفه البشر من الأمور الخارجة من الأرض الغريبة، ويزرع بأرضه سائر النباتات الأهلية التي يعالجون تطبعها عندهم بقوة الصناعة والحكمة، فيطالع طلبة علم العقاقير والحشائش دروسهم ويقابلون ما في الكتاب على ما يرونه، ويأخذون فرعًا من كل صنف من الحشائش يضعونه في نحو ورقة، ويكتبون اسمه وخاصيته، وفيه أيضًا سائر مراتب الحيوانات الحية غريبة أو أهلية برية أو وحشية، فيوجد بها نحو الدب الأبيض والأسود، والسبع، والضبع، والنمورة والسنانير الغريبة، والإبل، والجواميس، وغنم بلاد التبت، وزرافة سنار، وفيلة الهند، وغزلان البربر، والأيل، وبقر الوحش، وأنواع القردة، والثعالب، وسائر أنواع الطيور المعروفة لهم، وسائر هذه الحيوانات التي تراها حية بهذا البستان تراها ميتة أيضًا محشوة بالتبن، يراها الإنسان على صورة الحية، كبو البقر الذي يصنعه الفلاحون بوادي مصر.
وكل هذه الأشياء موضوعة بهذا البستان كالعينة أو الأنموذج من كل شيء، ومكتوب على كل شيء اسمه باللغة الفرنساوية، أو اللاطينية، مثلاً في القاعة التي فيها سبع مكتوب عليها اسم السبع باللغة الفرنساوية وهو «ليون» وهكذا.
ومما وقع في هذا البستان ما اشتهر أن بعض السباع قد مرض، فدخل حارسه، ومعه كلب فقرب الكلب من الأسد، ولحس جرحه فبرئ الجرح، فحصلت الألفة بين الأسد والكلب، وخلت محبة الكلب في قلب الأسد فصار الكلب يتردد دائمًا على الأسد، ويتملق إليه، ويراه كأنه من أصحابه، فلما مات الكلب مرض الأسد لفرقته، فوضعوا معه كلبًا آخر، امتحانًا لتطبعه، فتسلى به عن الميت، ولا زال معه.
وفي بستان النبات رواق يسمى «رواق التشريح» وفيه جميع «الموامي» أي الجثث المحنطة المصبرة ونحوها من الجثث.
ويوجد بهذا الرواق بعض شيء من جثة المرحوم الشيخ سليمان الحلبي الذي استشهد بقتله للجنرال الفرنساوي «كليبر» وقتل الفرنساوية له في أيام تغلبهم على مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومخادع هذا المرصد هي داخلة في الأرض التي عمقها يساوي سمك حيطان الرصد، وإلى هذه المخادع ينزل بدرج على الدوران والانعطاف؛ كدرج المنارة، وعدة درجها ثلثمائة وستون، ووظيفة هذه المخادع أنها قد تفيد الطبائعية والكيماوية أن يصنعوا بها تجاربهم بأن يجمدوا فيها المائعات، ويبردوا بها الأجسام، ليعرفوا مزاج الأهوية، وفيها رواق يسمى «رواق المناجاة» أو رواق الأسرار؛ وذلك أن فيه أمرًا عجيبًا من قرع الصوت للأذن، أي وصوله بالهواء إليها، وذلك أن بالرواق عمودًا يقابله عمود آخر، فإذا وضع الإنسان فمه على العمود، وأسر بكلام فإنه يسمعه الإنسان الذي بالعمود الآخر، ولا يسمعه من يقرب منه، وهذه الأمور يفهمها من له إلمام بخاصية الصوت.
ومن المحال العلمية بمدينة باريس موضع يقال له: «الكنسروتواز» (بضم الكاف، وسكون النون، وكسر السين، وسكون الراء، وفتح الواو، وسكون التاء) كلمة فرنساوية معناها المخزن أو المحفظ، أو نحو ذلك، وفي هذا المحل جميع الآلات سواء العظيمة وغيرها، خصوصًا الآلات الهندسية، كآلات الحيل، وتحريك الأثقال، ويزعم الفرنساوية أنه ليس في الدنيا نظير هذا المخزن، وفي هذا المحل يرد الصدى صوت الشخص برد عجيب.
ثم إنه يكثر بباريس مدارس سائر العلوم والفنون والصنائع، وقد سلف الكلام على اعتناء الفرنساوية بالحكمة يعني علم الطب ولهم فيها مدارس كثيرة.
ومن نوادره: أنه كتب قبل موته كعادة الفرنساوية على رخامة قبره المهيَّأ له بيت شعر باللسان الفرنساوي يقول فيه ما معناه بالعربية:
ومعناه: هذا قبر من لم يصل إلى درجة أيّاما كانت حتى لو بلغت هذه الدرجة في الحقارة درجة هؤلاء العلماء.
وهناك أكدمة تسمى «أكدمة تقييد الفنون الأدبية» وأهل ديوان هذه الجمعية ثلاثون نفسًا، ووظيفتها الاشتغال بالألسن النافعة، وبآثار الأمم وأخلاقها، وغالب شغلها تكميل آداب العلوم الفرنساوية بما خلت عنه، مما هو في كتب علوم اللغات الغريبة؛ كاللاطينية، والعربية، والفارسية، والهندية، والصينية، واليونانية، والعبرانية، والقبطية وغيرها.
ومن الأكدمات الأكدمة المسماة «أكدمة العلوم السلطانية» وأهلها منقسمون أحد عشر قسمًا، لكل قسم منهم فرع مخصوص فتكون فروعهم اثني عشر فرعًا: فأهل القسم الأول: يشتغلون بالرياضيات، كالهندسة والحساب: وأهل القسم الثاني بعلوم الحيل كعلم جر الأثقال ونحوه، والثالث: بالعلوم الفلكية والرابع: بالعلوم الجغرافية، والعلوم التجريبية، والخامس: بعلم الطبيعة العامة، والسادس: بالطبيعة، والسابع: بعلم المعادن والأحجار، والثامن: بعلم الحشائش، والتاسع: بتدبير مصاريف الأرض، والعاشر، بتطبيب الدواب، والحادي عشر: بالتشريح، والثاني عشر: بفن الطب والجراحة.
ومنها: مكتب الفنون الظريفة، وهو مكتب موقوف على تعليم علم الرسم وتوابعه، وفيه يتعلم الرسم، والنقاشة والعمارة.
ومن مجالس العلوم جمعية تسمى: «أثينة الفنون» وهي تعين على تقدم الفنون والصنائع، وهي كالحكم الذي ينفذ الأشياء، ويقضي فيها برأيه.
ومنها: «أثينة باريس» السلطانية، وهي محل علوم وفنون، ولا يكون فيها الإنسان للتعلم إلا إذا دفع شيئًا يسيرًا كل سنة، والمدرسون فيها أرباب فضل.
ومنها: جمعية تشتغل بعلوم الإنشاء والبلاغات والغرض من هذه الجمعية تدوين العلوم الأدبية، وحفظ غريبها؛ حتى لا تفسد لغة الفرنسيس، وإذا اخترع الإنسان معنى غريبًا، أو أجاب عن سؤال غريب أو قال شعرًا مقبولاً، فإنهم يعطونه جائزة ذلك.
ومنها: جمعية تسمى: «حسن الدروس» ووظيفتها تعليم الآداب القاثوليقية، والدين القاثوليقي.
ومنها: جمعية تسمى «أكدمة أبناء أبلون» يعني الأدباء، وهي مجلس أرباب الفنون الأدبية.
ومنها: جمعية تسمى «الجمعية الجغرافية» وهي معدة لتحسين وتكميل علم الجغرافيا، فهي تقوى الناس على السفر إلى البلاد المجهولة الأحوال، فإذا سافر فيها إنسان ورجع يطلبون منه سائر ما علقه عليها، فتأخذ ما علقه وتقيده وتدخله في كتب الجغرافيا؛ ولذلك كان ذلك العلم عند الفرنساوية دائمًا يأخذ في الكمال. وبالجملة: فهذه الجمعية هي التي تخدم سائر ما يتعلق بالجغرافيا، كطبع (الخرطات) ونحوها.
ومنها: الجمعية «الغرماتيقية» يعني المشتغلة بنحو اللغة الفرنساوية فإن علم النحو يسمى في اللسان الفرنساوي «الأغرمير» وباللاطينية وبالإيطالية «أغرماتيقا» ووظيفة هذه الجمعية: الاشتغال بتصحيح اللغة وتجديد اصطلاحات، أو إبقاء الاصطلاحات القديمة؛ لأن اللسان الفرنساوي لسان غير قار القواعد كتابة وقراءة.
ومنها: جمعية تسمى «جمعية المولعين بالكتب الخزائنية» ووظيفة أهل هذه الجمعية الحث على طباعة الكتب النافعة النادرة.
ومنها: جمعية للخطاطين، وأهلها يشتغلون بإجادة الخط.
ومنها جمعية تسمى: جمعية المغناطيسية الحيوانية، وهي جماعة تقول: بوجود سيال مغناطيسي في الحيوان.
ومنها: جمعية «حفظة آثار القدماء»، وهي جمعية معدة لحفظ سائر ما يوجد من الآثار الباهرة عند القدماء؛ كبعض مبانيهم، ومومياهم، وملبسهم ونحو ذلك، والبحث عن ذلك؛ ليتوصل به إلى دراسة عوائدهم، ففي ذلك يوجد كثير من الأمور النفيسة المأخوذة من بلاد مصر، كالحجر المصور عليه فلك البروج المأخوذ من «دندرة» فإن الفرنساوية يتوصلون به إلى معرفة الفلك على مذهب قدماء أهل مصر، فإن مثل ذلك يأخذونه بغير شيء إلا أنهم يعرفون مقامه، فيحفظونه، ويستخرجون منه نتائج شتى، ومنافع عامة.
ومنها: الجمعية السلطانية في علوم الفلاحة، وتحرير توفير المصاريف البرانية والجوانية وأهل هذه علماء، أغنياؤهم يعطون الجائزة لمن يخترع شيئًا جديدًا نافعًا.
ومنها جمعية لتحسين الأصواف، ووظيفة أهلها مباشرة ما يتعلق بالغنم.
ومنها: جمعية تعين على حث الفرنساوية على البراعة في الفنون والصنائع، وهي تعين الصنائع بسائر أنواعها على التقدم، فإذا اقترح إنسان شيئًا نافعًا أخذ من أهل هذه الجمعية تحفة عظيمة وشهرة.
ومنها: مكتب يسمي «مكتب الفروع الفقهية» فيدرسون فيه أحكام المعاملات والجنايات ونحوها.
ومنها: مكتب موقوف على تعليم علم الرسم، فيدرس فيه الذكور والإناث علم التصوير.
ومنها: مكتب الغناء السلطاني فيتعلم فيه أيضًا الذكور والإناث علم الألحان الصوتية والغناء الكنائسي.
ومنها: مكتب موقوف أيضًا على الرسم والرياضيات، لتكون وسائل للفنون، فيتعلم فيه الحساب، والهندسة، والقياس، ونحاتة الحجر والخشب، وعلم المساحة، وتصوير البهيمة، والآدمي، والأزهار وأنواع الزينة.
ومنها: مكتب القناطر والجسور: وفيه يتعلم هندسة الطرق والخلجان والأرصفة.
ومنها: مكتب سلطاني لتعلم علم المعادن، وفيه يتعلم وسائط كشف المعادن واستخراجها.
ومنها: مدرسة الفنون والحرف يتعلم فيهما علما الكيمياء والهندسة الداخلان في الحرف والفنون، وفيها يوجد سائر آلات الصنائع الموجودة إلى هذا العصر.
ومنها: مكتب يسمى: مكتب اللغات المشرقية المستعملة، وفيه يتعلم الفارسي والماباري والعربية الأصلية والدارجة ولغة الترك والأرمن والروم.
ومنها: مكتب سلطاني يتعلم فيه تواريخ الدول وسياساتها ونحو ذلك.
ومنها: مكتب سلطاني للموسيقى والإنشاء، والخطابة، وفيه يتعلم أهل اللعب والغناء والآلاتية، من الذكور والإناث، وأهل التعلم به أربعمائة نفس.
ومنها: مدرسة بستان السلطان، التي هي بستان النباتات، وبها يقرأ ثلاثة عشر درسًا في جملة فروع؛ كعلم الحشائش، والطبيعيات، والكيميا، والمعادن، والتشريح، والمقابلة بين أجزاء بدن الآدمي والبهيمة.
ومنها: مكتب تقليم الأشجار غير المثمرة لإخراج ثمرها.
ومنها: مكتب تعليم النباتات والمعادن لمن يريد السفر في بلاد ليميز نباتها ومعدنها.
ومنها: مكتب الصم البكم، وهو موقوف على مائة نفس، ويدخلون فيه من إحدى عشرة إلى ست عشرة، فيتعلم فيه القراءة والكتابة، والحساب واللسان، والتاريخ، والجغرافيا، وصنعة من الصنائع، وفي هذا المكتب (ورشة) يتعلم فيها علم الطباخة، والنقاشة، والنجارة والخراطة والخياطة، (والصرماتية) ونحوها.
وزمنها: مكتب العميان السلطاني، وهو موقوف على جملة محصورة من العميان، فيتعلمون القراءة على شيء مكتوب لهم كتابة مخصوصة فيمسونها باليد، ويتعلمون أيضًا علم الجغرافيا، على خرطات مخصوصة أيضًا، ويتعلمون التاريخ واللغات، والرياضيات، والموسيقى بالصوت وبالآلة، وغير ذلك من الحرف كشغل الجرابات ونحوه.
وغير ما ذكرناه يوجد أيضًا عدة مدارس.
ويوجد في «باريس» أيضًا مكاتب تسمى: «البنسيونات» جمع «بنسيون» (بفتح الباء وسكون النون، وكسرالسين، وضم المثناة التحتية، وسكون الواو) وهي مكاتب يتعلم فيها الصغار الكتابة والقراءة وعلوم الآلات كالحساب، والهندسة، وغيرها، كالتاريخ، والجغرافيا، وهي نحو مائة وخمسين (بنسوينا) وفيها أكل الإنسان، وشربه، ونومه، وغسل ثيابه، ونحو ذلك، فيدفع أهالي الأولاد قدرًا معلومًا في السنة.
وغير البنسيونات المذكورة يوجد بيوت صاحبها عالم، فيأخذ عنده عدة أولاد، ليأكلوا معه، ويشربوا معه، ويعلمهم بنفسه، أو يحضر لهم معلمين عنده.
وغير هذا كله فكثير من الناس يحضر لأولاده المعلم في البيت كل يوم ليعلمهم عهده.
«والجرنو» عصب، فكل جماعة لها في رأيها مذهب كل يوم تقويه وتحاميه، وتؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من «الجرنالات» أبدًا خصوصًا عند الفرنسيس الذين لا يتحاشون الكذب إلا من حيث كونه عيبًا.
وبالجملة فكتاب «الجرنو» أسوأ حالاً من الشعراء عند تحاملهم أو محبتهم.
«والجرنالات» مختلفة الأنواع والأصناف، فمنها ما هو معد لذكر أخبار داخل مملكة الفرنسيس وخارجها، ومنها ما هو مخصوص بأمور المملكة فقط، وما هو للمعاملات وما هو للطب. ولكل علم على حدته؛ كعلم الطب إلى آخره.
وفي «باريس» (أوض) القراءة أو خلوات القراءة، فيذهب الإنسان فيها، ويدفع قدرًا معلومًا، ويقرأ سائر «الجرنالات» وغيرها من الكتب، ويستأجر منها ما يحتاجه من الكتب ويأخذه عنده ويرجعه.
ومما يبهر العقول في باريس دكاكين الكتبية وخاناتهم، وتجارات الكتب، فإنها من التجارات الرائجة مع كثرتها وكثرة المطابع، وكثرة التآليف التي تنطبع كل سنة فإنها يعسر حصرها، وأغلبها المقصود منه الكسب لا النفع، ولا تمر سنة بمدينة «باريس» إلا ويخرج من المطبعة كتب معدومة النظير، واغتناؤهم بالمعارف هو أحسن ما ينبغي أن يمدحوا بهن قال الشاعر:
وقال آخر:
وبالجملة فلا يمكن وصف مدينة «باريس» مع تفصيل علومها وفنونها، إلا أنه يمكن التعبير عن ذلك إجمالاً كما ذكرنا.