الفصل الأول
فيما حصل لنا في أول الأمر من الترتيب في القراءة والكتابة وغيرهما
من عادة أهل «باريس» أنهم في التعليم يبتدئون بتعليم الإنسان القراءة في كتب عظيمة
الحروف لترسم صورها في ذهنه، وفي هذه الكتب توجد الحروف الهجائية بتركيبها، ثم بعدها
عدة ألفاظ لغوية من الأسماء والأفعال، فهذه الطريقة يتعلم الإنسان منها الكتابة، ويحفظ
هذه الكلمات، وينطق بها كما ينبغي، حتى تخرج لغته من صغره صادقة الجودة، ثم بعدها تلقى
في هذه الكتب عدة جمل سهلة التعقل، تناسب الصغار، فمن هذه الجمل ما وجدناه في الكتاب
الذي قرأناه، هذه فرس لها أربع أرجل، والطيور ليس لها إلا رجلان، لكن لها أجنحة تطير
بها، وأما السمك فإنه يسبح في الماء، ونحو ذلك مما هو معلوم للمخاطب، فهو مثل قول
النجاة: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، الممثل به لما لم يفِد فائدة جديدة، على اختلاف
تفسير الوضع
١ في قولهم: الكلام هو اللفظ المركب المقيد بالوضع، ثم بعد ذلك يوجد في هذا
الكتاب أوصاف الحيوانات المعروفة، خصوصًا التي تتعلق الصغار باللعب بها: من العصافير،
والطيور، والسنانير، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك نبذة صغيرة في كيفية سلوك الصغار وطاعتهم
للوالدين ونحو ذلك، ثم نبذة في علم الحساب، فبعد فراغ هذا الكتاب يبدءون في قراءة كتاب
أهم منه، وفي كتاب النحو الفرنساوي وغيره، وتقسيم الزمن على دروس الإنسان، فإن الإنسان
يتعلم في النهار عدة أمور مختلفة، فيقرأ في الصباح مثلاً التاريخ، ثم بعد درس تصوير مع
معلم الرسم، ثم بعده درس النحو الفرنساوي، ثم بعده ندرس تقويم البلدان، ودرسًا مع معلم
الخط لتعليم قواعد الكتابة: إلى آخره، وقد أسلفنا ذلك.
ولما كانت آمال الوالي متعلقة بتعلمنا عاجلاً، ورجوعنا إلى أوطاننا ابتدأنا في
«مرسيليا» قبل وصولنا إلى «باريس» وتعلمنا في نحو ثلاثين يومًا التهجي، ثم لما ذهبنا
إلى «باريس» مكثنا جميعًا في بيت واحد، وابتدأنا في القراءة، فكانت أشغالنا مرتبة على
هذا الترتيب، وهو: أنا كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين: ثم بعد الغذاء نتعلم درس
كتابة ومخاطبات ومحاورات باللغة الفرنساوية: ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي،
وفي كل جمعة ثلاثة دروس من علمي الحساب والهندسة، وفي مبدأ الأمر كنا نأخذ في درسين:
يعني في معرفة الكتابة الفرنساوية، ثم بعد ذلك كنا نأخذ كل يوم درسًا، ثم انتهى الأمر
إلى أننا تعلمنا الخط، فانقطع عنا معلم الخط، وأما الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا
فلم تزل نشتغل بها حتى سهل الله علينا بالرجوع، وقد مكثنا جمعيًا في بيت واحد دون سنة
قرأ معًا في اللغة الفرنساوية، وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مزية
إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوي، ثم بعد ذلك تفرقنا في مكاتب متعددة، كل اثنين، أو
ثلاثة: أو واحد منا في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص عند معلم مخصوص، بقدر
معلوم من الدراهم، في نظير الأكل والشرب والسكنى، والتعليم وتعهد أمورنا: من غسل،
ونحوه، فكان يأخذ صاحب المكتب أو البيت نحو عشرة أكياس كل سنة في نظير ذلك، ولا يلزمنا
شيء في المأكل والمشرب.
ولما كانت طباع هذه البلاد شدة البرودة كان لكل واحد منا في كل سنة بثلثمائة قرش
خشب
للتدفي بها، وغير هذه المصاريف العظيمة كان يشتري لنا من طرف (الميري) أيضًا القمصان
والسراويل والنعال وسائر ما يلزم من الآلات والأدوات، مثل الكتب والورق والحبر وأقلام
التصوير وغيرها، ومما ينبغي ذكره أيضًا ما كان يعطى للحكماء (والأجزاجية) في مداواة من
كان يمرض منا: فإن الحكماء في «بباريس» مع كثرتهم غاية الكثرة، يأخذون في زياراتهم
للمريض الموسر قدرًا له وقع، على اختلاف مراتبهم في الشهرة وعدمها، ويتعدد القدر بتعدد
الزيارة،
٢ وهذا إن لم يكن للحكيم سنوية معلوم، وقد أفلنا ذلك في باب اعتناء
الفرنساوية بالطب، وتعهدهم للصحة، فأقل الحكماء يأخذ في كل زيارة خمسة فرنكات والحكيم
الجليل المتوسط يأخذ في كل زيارة خمسة فرنكات، والحكيم الجليل القدر يأخذ في كل زيارة
أبلغ من خمسين فرنكًا، وكلما تعددت الزيارة في اليوم الواحد تعدد القدر، وأما بالنسبة
للمعدم فقد لا يأخذون منه شيئًا، ونحن نعد هناك من الموسرين، بل من الأغنياء لتجملنا
بالملبس الغريب عندهم، ولنسبتنا للوالي.
ولكثرة هذه المصاريف في تعليمنا وغيره من سائر ما ذكرنا، كان ناظر التعليم أو الضابط
علينا يذكرنا به في أغلب الأوقات لنجتهد، وسترى بعض ذلك في مراسلات كتبها لي بعد
الامتحان العام.