الفصل السادس
في الامتحانات التي صنعت معي في مدينة «باريس» خصوصًا في الامتحان الأخير الذي
أعقبه رجوعي إلى مصر
اعلم أن من عادة الفرنساوية أن لا يكتفوا في العلم بمجرد شهرة الإنسان بالفهم، أو
الاجتهاد، أو بمدح المعلم في المتعلم، بل لا بد عندهم من أدلة واضحة محسوسة تفيد
الحاضرين في الامتحان قوة الإنسان والفرق بينه وبين أمثاله، وهذا إنما يكون بالامتحانات
العامة يحضرها العام والخاص، بدعوة مثل دعوة الولائم عادة. وهناك امتحانات خاصة، وهي
أن
يمتحن المعلم تلامذته كل أسبوع أو شهر؛ ليعلم قوة زيادتهم في ذلك الأسبوع أو الشهر،
وليكتب مفاد ذلك إلى آبائهم، فكنا في البنسيونات بهذه المثابة، وكل سنة يصنع معنا
الامتحان العام بحضور أعيان الفرنساوية.
فأول بحث صنع معنا كان أغلبه ومداره على اللغة الفرنساوية، وقد جرت العادة عندهم
بأنهم يعطون هدية امتحان للبارعين في الجواب المتميزين عن غيرهم، ففي أول امتحان عام
بعث لي «مسيو جومار» كتابًا يسمى «رحلة أنخرسيس في بلاد اليونان» سبعة مجلدات جيدة
التجليد مموهة بالذهب، يصحبها هذا المكتوب الذي صورته مترجمًا:
أول يوم من شهر أغسطس سنة ١٨٢٧ من الميلاد.
قد صرت مستحقًا لهدية اللغة الفرنساوية، بالتقدم الذي حصلته فيها، وبالثمرة
التي نلتها في الامتحان العام الأخير، ولقد حق لي أن أهنئ نفسي بإرسالي لك هذه
الهدية من طرف (الأفندية) النظار دليلاً على التفاتك في التعليم، ولا شك أن
الوالي يسر متى أخبر أن اجتهادك وثمرة تعلمك يكافئان المصاريف العظيمة التي
يصرفها عليك في تربيتك وتعليمك، وعليك مني السلام مصحوبًا بالمودة.
وقوله في الامتحان الأخير المراد أنه (آخر) بالنسبة لما قبله من الامتحانات
الخصوصية.
وهدية الامتحان تشبه أن تكون مثل جائزة الشعراء: أو هي كقصب السبق وفي
الامتحان العام الثاني بعث لي كتاب «الأنيس المفيد، للطالب المستفيد»، و«جامع
الشذور، من منظوم ومنثور» تأليف «مسيو دساسي» وصحبته هذا المكتوب، وصورته
مترجمًا.
باريس ١٥ شهر مارث سنة ١٨٢٨ من الميلاد.
قد صرت مستحقًا لهدية النحو الفرنساوي، بالتقدم الذي حصلته في هذه اللغة،
وبالثمرة التي نلتها في الامتحان العام الأخير، ولقد سرني أنك صرت مستحقًا أن
أبعث لك علامة السرور منك، تشويقًا لك، وها أنا باعث جدول امتحانك للوالي
باجتهادك وفلاحك، ولا شك أنه يسر بأنك تشتغل مع ثمرة، وأنك أهل لرعايته لك
واعتنائه تربيتك وتعليمك، وعليك مني السلام.
وفي هذين الامتحانين أخذت هدية الامتحان.
وأما صورة الامتحان الأخير الذي به رجعت إلى مصر أن «مسيو جومار» جمع مجلسًا فيه عدة
أناس مشاهير، ومن جملتهم وزيرا لتعليمات الموسقوبي رئيس الامتحان، وكان القصد بهذا
المجلس معرفة قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا.
وصورة ما تحصل من الامتحان وكتبه الفرنساوية في وقائع العلوم ما نصه: وصور التلميذ
رفاعة أنه قرئ في المجلس دفتران: الدفتر الأول يشتمل على تعديد اثنتي عشرة ترجمة من
اللغة الفرنساوية إلى العربية ترجمها المذكور منذ سنة وهذه أسماؤها:
الأول: نبذة في تاريخ إسكندر الأكبر، مأخوذة من تاريخ القدماء، الثاني: كتاب أصول
المعادن، الثالث: رزنامة سنة ١٢٤٤ من الهجرة، ألفه «مسيو جومار» لاستعمال مصر والشام،
متضمنًا لشذرات علمية وتدبيرية، الرابع: كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدهم،
الخامس: مقدمة جغرافية طبيعية مصحة على «مسيو هنبلض»، السادس: قطعة من كتاب
ملطبرون
١ في الجغرافية، السابع: ثلاث مقالات من كتاب «لجندر»
٢ في علم الهندسة، الثامن: نبذة في علم هيئة الدنيا، التاسع: قطعة من «علميات
ضابطان عظام» العاشر: أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج أصلاً لأحكامهم،
الحادي عشر: نبذة في «المثولوجيا» يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم، الثاني عشر: نبذة في
علم سياسات الصحة.
الدفتر الثاني: يشتمل على رحلته، وذكر سفره ثم أحضر له عدة تآليف مطبوعة في بولاق،
فترجم منها مواضع بسرعة إلى اللغة الفرنساوية، ثم قرأ بالفرنساوية مواضع منها ما هو
صغير ومنها ما هو كبير في «كازيطة» مصر المطبوعة في بولاق، ثم بحث معه في ترجمة
العلميات العسكرية المترجمة له فكان بعض الحاضرين يده الأصل الفرنساوي، والشيخ بيده
الترجمة. ثم إنه يترجم العربية بالسرعة إلى الفرنساوية قراءة لا كتابة، ليقابل عبارة
الترجمة مع عبارة الأصل، وقد تخلص على وجه حسن من هذا الامتحان فأدى العبارات حقها من
غير تغيير في معنى الأصل المترجم، ولكن ربما أحوجه اصطلاح اللغات العربية أن يضع مجازًا
بدل مجاز آخر من غير خلل في المعنى المراد، مثلاً:
في تشبيه أصل علم العسكرية بمعدن مشبع يستخرج منه كذا غير العبارة بقوله:
العسكرية بحر عظيم تستخرج منه الدرر. وقد اعترض عليه في الامتحان بأنه بعض
الأحيان قد لا يكون في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم عنه، وأنه ربما
كرر، وربما ترجم الجملة بجمل، والكلمة بجملة، ولكن من غير أن يقع في الخلط، بل
هو دائمًا محافظ على روح المعنى الأصلي، وقد عرف الشيخ الآن إنه إذا أراد أن
يترجم كتب علوم فلا بد أن يترك التقطيع، وعليه أن يخترع عند الحاجة تغييرًا
مناسبًا للمقصود، وقد امتحن في كتاب آخر، وهو مقدمة القاموس العام المتعلقة
بالجغرافيا الطبيعية، وهذا الكتاب ترجمه هو إلى العربية ولما كان وقت ترجمة هذا
الكتاب لم يصل إلى درجته الآن في اللغة الفرنساوية، كانت ترجمته دون ترجمة
الكتاب الذي بحث معه فيه قبله، وكان عيبه أنه لم يحافظ على تأدية عبارة الأصل
بجميع أطرافها، وعلى كل حال فلم يغير في المعنى شيئًا، بل طريقته في الترجمة
كانت مناسبة، فتفرق أهل المجلس جازمين بتقدم التلميذ المذكور، ومجمعين على أنه
يمكنه أن ينفع في دولته، بأن يترجم الكتب المهمة المحتاج إليها في نشر العلوم،
والمرغوب في تكثيرها في البلاد المتمدنة، ولا شك أن بعض هذه الكتب قد يحتوي على
أشكال، وأحمد أفندي العطار من أهل بلاده يشتغل بالطباعة على الأحجار لأجل ذلك،
وقد كان حاضرًا في المجلس، فقدم لأهل المجلس عدة عينات مطبوعة بيده على الحجر
من تصوير وكتابة عربية وفرنساوية، وقد ابتدأ في معرفة تسيير الشوكة للنقش
والقلم للكتابة، وقلم الشعر لكتابة التصوير، وفي تصويراته توجد حيوانات (ص ١٦٦)
وأمور عمارات وغير ذلك من الأمور المصنوعة بالخطوط من غير ظل، ولكنه جاء في
فرنسا كبير السن؛ فلم يمكنه أن يصور تصويرًا صحيحًا خاليًا عن جميع العيوب،
ولكن يمكنه أن يعرف معرفة تامة طريق الطباعة على الحجر علمًا وعملاً، وينسخ
(عينات) التصوير التي تعطى له ويطبعها بنفسه عند الحاجة، ويمكنه أن يتأهل لفتح
دار لطباعة الحجر ونظارتها، وقد ترجم مختصرًا في صناعة الطباعة بالحجر وكتبها
على الحجر وطبعها بيده، وكانت نسخة منها موضوعة على (باش تختة
٣ «مسيو جومار» انتهى كلام «كازيطة» دائرة العلوم.
وكتب لي مكتوب تهنئة برجوعي إلى مصر بعد تحصيل المرام غير أن هذا المكتوب قد ضاع مني
وكان لا بأس بذكره هنا وصورة ترجمة ما كتبه لي «مسيو شواليه» وهو أشبه بإجازة وشهادة
لي:
وزارة الحرب
يقول الواضع اسمه فيه: «شواليه» تلميذ قديم من تلامذة مدرسة العلوم المسماة
«بلوتكنيقا»
٤ الضابط المهندس المكتوب في وزارة الحرب الوكيل من طرف «مسيو جومار»
والأفندية النظار بالإرشاد إلى تعليم مسيو الشيخ رفاعة:
أشهد أني مدة نحو ثلاث السنوات والنصف التي مكثها التلميذ المذكور عندي
لم أر منه إلا أسباب الرضى سواء في تعليمه أو في سلوكه المملوء من الحكمة
والاحتراس، وحسن خلقه ولين عريكته، وقد قرأ معي في السنة الأولى اللغة
الفرنساوية «والقسمغرافيا»
٥ انتهى وفيما بعد الجغرافيا والتاريخ والحساب وغير ذلك. ولما
كان خاليًا عن الاستعداد والخفة اللازمين لتعلم الرسم مع ثمرة، لم يشتغل به
إلا مرة في كل أسبوع لمجرد امتثال أوامر الوالي ولكن صرف جهده مع غاية
الغيرة في الترجمة التي هي صنعته المختارة له وأشغاله فيها مبينة في
إعلاماتي الشهرية، خصوصًا في «الجرنالات» الأولى التي أعطيتها «لمسيو
جومار» وحسب هذا التلميذ ما في هذه الإعلامات والجرنالات.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن غيرة مسيو الشيخ رفاعة تناهت به إلى أن أدته
إلى أن شغله مدة طويلة في الليل تسبب عنه ضعف في عينه اليسار، حتى احتاج
إلى الحكيم الذي نهاه عن مطالعة الليل، ولكن لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه،
لما رأى أن الأحسن في إسراع تعليمه أن يشتري اكتب اللازمة له غير ما سمح به
(الميري) وأن يأخذ معلمًا (ص ١٦٧) آخر غير معلم (الميري) أنفق جزءًا عظيمًا
من ماهيته المعدة هل في شراء كتب، وفي معلم مكث معه أكثر من سنة، وكان
يعطيه الدرس في الحصة التي لا يقرأ معي فيها.
وقد ظننت أنه يجب علي وقت سفره أن أعطيه هذا الإعلام الموافق لما في
الواقع ونفس الأمر، وأن أضيف إلى ذلك الإفصاح عما في ضميري من كمال اعتقاد
فضله ومحبته.
مسيو شوالي
٢٨ في شهر فبريه سنة
١٨٣١