الفصل الثاني
في ذكر التغيرات التي حصلت وما ترتب عليها من الفتنة
قد سبق لنا من القوانين السالفة في الكلام على حقوق الفرنساوية في المادة الثامنة
أنه
لا يمنع إنسان في فرنسا من أن يظهر رأيه، ويكتبه ويطبعه، بشرط أن لا يضر ما في
القوانين. فإن أضر به أزيل، فلما كانت سنة ١٨٣٠، وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر، منها:
النهي عن أن يظهر الإنسان رأيه، وأن يكتبه أو يطبعه بشروط معينة، خصوصًا «للكازيطات»
اليومية، فإنه لا بد في طبعها من أن يطلع عليها أحد من طرف الدولة، فلا يظهر منها إلا
ما يريد إظهاره، مع أن ذلك ليس حق الملك وحده، فكان لا يمكنه عمله إلا بقانون، والقانون
لا يصنع إلا بإجماع آراء ثلاثة: رأي الملك ورأي أهل ديواني المشورة يعني ديوان البير،
وديوان رسل العمالات، فصنع وحده ما لا ينفذ إلا إذا كان صنعه مع غيره، وغير أيضًا في
هذه الأوامر شيئًا في مجمع اختيار رسل العمالات، يعني في الذين يختارون رسل العمالات
ليبعثوها في «باريس» وفتح ديوان العمالات قبل أن يجتمع مع أنه كان حقه ألا يفتحه إلا
بعد اجتماعهم كما فعله في المرة السابقة، وهذا كله على خلاف القوانين، ثم إن الملك لما
أظهر هذه الأوامر كأنه أحس في نفسه بحصول مخالفة، فأعطى المناصب العسكرية لعدة رؤساء
مشهورين بأنهم أعداء للحرية، التي هي مقصد رعية الفرنساوية، وقد ظهرت هذه الأوارم بغتة
حتى ظهر أن الفرنساوية كانوا غير مستعدين لها، وبمجرد حصول هذه الأوامر قال غالب
العرافين بالسياسات: إنه يحصل في المدينة محنة عظيمة يترتب عليها ما يترتب — كما قال
الشاعر:
أرى بين الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعيدان تذكو
وإن الحرب أولها الكلام
ففي مساء اليوم الذي ظهرت فيه هذه الأوامر في «الكازيطات» أخذ الناس في الحركة بقرب
المحل المسمى بالروايال «يعني» السراية السلطانية التي سكنها عائلة أقارب الملك المسماة
«عائلة أورليان» التي منها الملك الآن، وهذا الوقت ظهر الغم على وجوه الناس، وكأن هذا
يوم السادس والعشرين في شهر يوليه، وفي يوم السابع والعشرين منه لم يظهر غالب «كازيطات»
الحرية لعدم رضائها بالشروط، فلذلك بلغت الأوامر جميع الناس حصلت حركة عظيمة بعدم ظهور
«الكازيطات» التي من عادتها أنها لا تفتر عن الظهور إلا لمهم عظيم، فأغلقت «الورشات»
والمعامل (والفبريقات) والمدارس، فظهر بعض كازيطات الحرية آمرة بعصيان الملك والخروج
عن
طاعته، ومعددة لمساوية وفرقت على الناس من غير مقابل، وبهذه الديار، بل وفي غيرها قد
يبلغ الكلام؛ حيث تقصر السهام، خصوصًا مادة الخطات، فإنها قوية وخصوصًا بلاغة الإنشاء،
فلها مدخلية عظيمة كما قيل: إن نزل الوحي على قوم بعد الأنبياء نزل علي بلغاء الكتاب!
خصوصًا إذا كان ما يذكر في تلك اليوميات مقبولاً عند العامة، ومقصودًا عند الخاصة، فإن
هذا هو عين البلاغة الصحيحة؛ إذ هي ما فهمته العامة، ورضيت به الخاصة، فلما سمع بذلك
ولاة الحسبة حضروا في المحال العامة، ومنعوا الناس من قراءة هذه «الكازيطات»، وحاصروا
مطابعها، وهموا بكسر آلات الطباعة، وكسروا بعضها، وحبسوا من اتهموه من الطباعين،
(وبهدلوا) كثيرًا ممن أظهر شيئًا مخالفًا لترتيب الملك من الرعية، وهذا أيضًا مما قوى
غضب الفرنساوية، فكتب أرباب هذه الكازيطات يعني رؤساء الفرنساوية الذين هم يكتبون فيها
آراءهم «ورقة إنكار» وأشهروها وعددوا نسخها، ولصقوها بجدران المدينة وأمروا فيها الرعية
بالحرب، وعينوا محمله، وكان الميعاد في درب «سراية باليروايال»
١ فازدحم فيه كثير من الأمم، وفيما حوله من الحارات، فكانت العساكر السلطانية
تحاول تفريق هذا الازدحام، فعظم دويّ الرعية، وكثرت أصواتهم، وظهر غضبهم في سائر الدروب
والحارات، فهجم العسكر على الرعية، والتحم القتال بين الفريقين، فكان الرعية تقاتل
أولاً بالأحجار، والعساكر بالسيوف وآلات الحرب، فكثر القتال وعظمت المطاردة من
الجانبين، ثم بحث الرعية عن آلات الحرب، وظهر صوت البارود من الجانبين، في مدينة
«باريس» فكأنما لسان حال الفرنساوية الذي هو أصدق من لسان مقالهم جعل يقول:
فعظم القتال وكان أكثر المقتول والمجروح من الرعية، كما قال الشاعر:
فالحرب تنكح، والنفوس مهورها
ما بين أبكار تزف وعون
وترى الدماء على الجراح طوافيا
وكأنها رمد بنُجل عيون
فاشتد غضبهم، وعرضوا القتلى في المحال العامة، لتحريض الناس على القتال، وإظهار عيوب
العساكر، وقامت أنفس الناس على ملكهم؛ لاعتقادهم أنه أمر بالقتال، فما مررت بهذا الوقت
بحارة إلى وسمعت فيها: السلاح! السلاح. أدام الله الشرطة، وقطع دابر الملك! فمن هذا
الوقت كثر سفك الدماء، وأخذت الرعية الأسلحة من السيوفية بشراء أو غصب، وأغلب العملة
والصنائعية خصوصًا الطباعين هجموا على (القرقولات) وخانات العساكر، وأخذوا منها السلاح
والبارود، وقتلوا من فيها من العساكر، وخلع الناس شعار الملك من الحوانيت والمحال
العامة، وشعار ملك الفرنسيس هي صورة «زهر الزنبق»، كما أن شعار ملك الإسلام «صورة هلال»
وملك الموسقوبية «صورة عقاب»، وكسروا قناديل الحارات وقلعوا بلاط المدينة، وجمعوه في
السكك المطروقة، حتى يتعذر مشي الفرسان عليه، ونهبوا (خبخانات) البارود السلطانية، فلما
اشتد الأمر وعلم الملك بذلك، وهو خارج أمر بجعل المدينة محاصرة حكمًا، وجعل قائد العسكر
أميرًا من أعداء الفرنساوية مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف
الكياسة والسياسة والرياسة، فقد دلهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان
كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو المَلك أبقى للمُلك! ولما ولي على عساكره إلا
جماعة عقلاء، أحبابًا له وللرعية، غير مبغوضين ولا أعداء، ولكن أراد هلاك رعاياه حيث
نزلهم بمنزلة أعدائه، مع أن استصلاح العدو احزم من استهلاله، ويحسن قول بعضهم:
عليك بالحِلم وبالحياء
والرفق بالمذنب، والإغضاء
إن لم تقل عثرة من يقال
يوشك أن يصيبك الجهال
فعاد عليه ما فعله بنقيض مراده، وبنظير ما نواه لأضداده، فلو أنعم في إعطاء الحُريّة،
لأمة بهذه الصفة حَريّة، لما وقع في مثل هذه الحيرة، ونزل عن كرسيه في هذه المحنة
الأخيرة، لا سيَّما وقد عهد الفرنساوية بصفة الحرية وألفوها، واعتادوا عليها وصارت
عندهم من الصفات النفيسة، وما أحسن قول الشاعر:
وللناس عادات وقد ألفوا بها
لها سنن يرعونها وفروض
فمن لم يعاشرهم على العرف بينهم
فذاك ثقيل عندهم وبغيض
وفي اليوم الثامن والعشرين أخذت الرعية من يد العساكر محلاً يسمى: «دار المدينة»
الذي
هو محل شيخ مدينة باريس، فعند ذلك ظهر الخفر الأهلي يعني «الرديف»
٢ وهم عساكر كانت سابقًا تخفر الأهالي، كما أن للملك عساكر (ورديان)
٣ تخفره وقد كان أبطلهم الملك «شرل» أو «كرلوس العاشر» فلما وقعت الفتنة
ظهروا ليمانعوا عن الرعية، فشهروا أسلحتهم للقتال، وطردوا سائر العساكر من محلهم،
وأحرقوا كثيرًا منها، وفي هذه الأوقات ارتفعت المحاكم، وصار الحاكم هو الرعية، ولم يمكن
للدولة عمل شيء، فقد بذلت ما عندها من القوة لإخماد ذلك وتسكينه فلم تقدر عليه، فكان
جميع المحافظين متحركين، و(الطبجية)
٤ معينة لاثني عشر ألفًا من الورديان السلطاني، وستة آلاف من عساكر الصف،
فكانت جملة العساكر السلطانية ثمانية عشر ألف نفس غير الطبجية والمحافظين، وكان من يحمل
السلاح من الرعية أقل من هذا العدد ولكن من لا يحمل السلاح يحارب بالأحجار، أو يعين
المتسلح، وبعد أخذ دار المدينة وسلب مدفع من العساكر الحربية ظهر انهزام سائر العساكر
السلطانية بالبلدة، ثم ذهبوا إلى الديوان المسمى «لوور»
٥ وإلى قصر «طويلريا»
٦ وهو (سراية الملك) ووقع الحرب فيهما بين العساكر وأهل البلد، وبينما هم ف
الحرب بهذا المحل؛ إذ انتشر البيرق المثلث الألوان الذي هو علامة الحرية على الكنائس
والهياكل العامة، ودقت نواقيس الخطر لإعلام سائر الناس داخل وخارج «باريس» من أهل
المدينة أو غيرها، بطلب حمل السلاح منهم للاستعانة على العساكر، فلما رأت العساكر أن
النصرة للرعية، وأن ضرب السلاح على أهل بلادهم وأقاربهم عار عليهم امتنع أغلبهم، وعزل
كثير من رؤسائهم نفسه من منصبه، وفي اليوم التاسع والعشرين في الصباح، ملك أهل البلد
ثلاثة أربع المدينة، ووقع أيضًا في أيديهم قصر «طويلريا» و«لوور» فملكوهما، ونشروا
عليهما بيرق الحرية، فلما سمع بذلك سر عسكر المأمور بإدخال أهل «باريس» في طاعة
السلطان، رجع، فكان هذا تمام نضرة أهل البلد، حتى أن العساكر دخلت تحت (بيرق) الرعية،
ومن هذا الوقت ترتب حكم وقتي وديوان مؤقت، لنظم البلاد حتى ينحط الرأي على تولية حاكم
دائم، وكان رئيس هذا الحكم المؤقت سر عسكر، المسمى «لافييته»
٧ وهو الذي قاتل في الفتنة الأولى للحرية أيضًا، وهذا الرجل شهير بأنه يحب
الحرية، ويحامي عنها، ويعظم مثل الملوك بسبب اتصافه بهذا الوصف وكونه على حالة واحدة
ومذهب واحد في «البوليتيقة» وليس صاحب قريحة، مستخرجًا للعلوم من حيز العدم كغالب رجال
الفرنساوية ومشاهيرهم، خصوصًا في العلوم العسكرية، ولكن أعظم الناس مقامًا، لا قريحة
وفهمًا، وليس المراد القدح في معرفته، بل في انتهاء الرياسة إليه، ومما يشاهد في سائر
بلاد الدنيا أن التصدر ليس دائمًا على قدر المعرفة وإن كانت المعرفة موجبة له بالشرع
والطبع، ومن الغريب أن مثل هذا الأمر يقع أيضًا في البلاد الحسنة التمدن، وأظن أن هذا
كله مصداق الحديث الشريف الذي هو «ذكاء المرء محسوب عليه من رزقه» وكما قال
الشاعر:
إذا أبصرت ذا فضل فقيرًا
فلا تعجب لفقر في يديه
فقد قال النبي مقال صدق
ذكاءُ المرء محسوب عليه
وما أحسن قول الشاعر:
ولو أن السحاب همى بعقل
لما أروى مع النخل القتادا
ولو أعطى على قدر المعالي
سقى الهضبات واجتنب الوِهادا