الفصل الثالث

كيف كان يصنع الملك في هذه المدة، وفيما جرى بعد ذلك من رضائه بالصلح، بعد فوات أوانه، وفي خلعة المملكة على ابنه

اعلم أن أوامر الملك برزت منه وهو في بلدة «سنكلو» على القرب من باريس، فالفتنة حصلت في باريس، والملك لم يكن بها، ثم أن أهل المدينة بعثوا له أن يغير وزراءه، وأن يسترد أوامره، ويسترجعها، يعني أن يكتب أمرًا بأنه أعاد إليه ما كان أمر به فلم يرض بذلك، وأرسلوا إليه في ذلك عدة وكلاء، ليستعطفوه، ويترجوه في هذا المعنى، فلم يفد كلامهم. بل كان: أضيع من دمع على طلل، وأخبروه أن الرعية لا تريد ذلك أبدًا، وأنه ربما ترتب عليه فساد أعظم من ذلك، فأجاب بأن كلامه غير قابل للتغيير والتبديل، فلما تحقق عنده أن دولته قد أشرفت على الزوال بسبب عدم قبوله للمصالحة، أرسل يطلب منهم ذلك بنفسه، فأجابوه بأنه لم يبق محل للصلح، وأن أوان الصلح قد فات، وأنه لم يتبصر في العواقب، ومن لم يتبصر في العواقب لقي النوائب، وأنه لم يدقق النظر، وإلا لما حصل له ذلك [الضرر] وفي اليوم الثلاثين من شهر يوليه اتفق رأي أهل مشورة رسل العمالات على أن يبعثوا ليترجوا «الدوق درليان» قريب لسلطان من بدنة ثانية بأن يكون قائم مقام المملكة؛ حتى تقع مشورة أخرى على من يتولى مملكتهم وكان خارج «باريس» فبمجرد ما وصله ما اقتضاه نظر هذه المشورة وصل إلى «باريس» في الحادي والثلاثين، ونزل في دار المدينة، وأجاب برضائه بما صنعه أهل هذا الديوان وعند دخوله شرع يذكر عبارة عظيمة في السبب الحامل له على الرضاء بذلك، وملخصها: أنه قد حصل لي غاية التحسر على الأمر الذي جعل «باريس» في هذه الحالة المسببة عن خرم القوانين أو تفسيرها بمعنى بشع تحتمله عبارتها، ولقد امتثلت وجئت بينكم لأخلص البلاد من الفشل، ولا بد أن ألبس معكم علامة الثلاثة ألوان التي قد لقستها كثيرًا في أول عمري، ثم ختم عبارته بقوله: والشرطة تصير من هذا الوقت حقًا، يعني أنه يعمل بقوانين المملكة، وتصير متبعة لا يحاد عنها لكونها حقًا، ولقد صارت هذه الجملة عند الفرنساوية مثلاً من الأمثال، وألفاظها بالفرنساوية في غاية الحماسة، ثم إن «شرل» العاشر ظن أنه يمكن التخلص من زوال مملكته بخلع المملكة على ابنه ونزوله عنها له: شعر:

يود لو أن أيام الحمى رجعت
وقل أن رد شيء بعد ما ذهبا
فما كان ذات يوم في «سنكلو»١ إلا وخرج ابنه «الدوفين»٢ في ساحة، وجمع فيها العساكر، وأعلمهم بأن أباه ولاه ملكًا، فتلقت العساكر هذا الخبر باستخفاف وبغير اعتناء. ثم إن الملك لما ولى ابنه سافر مع ديوانه وجلسائه في ليلة التاسع والعشرين من شهر يوليه، وبقي الدوفين وحده ينتظر عاقبة توليته، فأحضر جميع من معه من العساكر، وسيرها قدامه، ليرى كيفيتها، فلما علم أنها لا ترضى بالمحاربة معه، نوى السفر، وخرج من «سنكلو» فبعد عدة ساعات من خروجه، انتشر على قصر «سنكلو» (البيرق) المثلث، وهذا القصر هو (سراية) السلطان في هذه البلدة، فوصل السلطان وأتباعه في «رنبوليا»٣ في غرة شهر أغسطوس، وفي اليوم الثاني من هذا الشهر بعث «شرل» العاشر وابنه «الدوقين» ورقة «للدوق درليان»٤ قريبهما يذكران فيها أنهما خلعا المملكة على الدوق «دبردو٥ حفيد الملك، وابن أخي الدوفين» وأنهما جعلا «الدوق درليان» وكيله ووليه؛ حتى يبلغ رشده، وطلبا منه في هذه الورقة أن يبعث لهما جماعة، ليؤمنوهما في خروجهما من فرنسا، فعرض «الدوق درليان» ذلك على مشورة رسل العمالات فلم يرضوا بخلع المملكة ورضوا بأن يبعثوا له عدة وكلاء من الكبار؛ ليؤمنوه في خروجه من فرنسا، ثم إنه جاء الخبر في «باريس» أن الملك لم يرض الخروج حالاً، فوجهوا إليه جملة من العساكر، ليكرهوه حالا على الخروج فبمجرد سماعه بذلك أجاب بالخروج متوجهًا إلى بلاد الإنكليز.

شعر:

والدهر طورا بعز
يقضي، وطورًا بهون

وهكذا حال الدنيا، وأحسن ما قيل في التسلية والصبر على مكارهها قول بعضهم:

سلا بنفسي عن الدنيا وبهجتها
أني أرى فانيًا منها تلا فاني
والصبر أحمد ما أوليت من قلب
ما كنت في شدة إلا تلافاني
ما كنت في شدة إلا تلافاني وفي هذا الوقت كان ابن عمه قائم مقام المملكة «بباريس» فكان الأمر والنهي له ولدواوين المشورة، فأول ما صنعه تقرير بقاء الثلاثة ألوان التي هي علامة على الحرية الملة الفرنساوية، ثم فتح ديوان مشورة العمالات وديوان مشورة البير، وقد جرت العادة أنه عند فتح ديوان مشورة العمالات يحضر الملك، ويخطب على منبر بكلام فصيح، يذكر فيه ما صنعه من التحسين في بلاده، وما هو عازم على فعله في سنته، ولما كان هذا الدوق قائمًا في هذا الوقت مقام الملك صعد على المنبر يقول كلامًا وجيزًا مضمونه:

إنه يتحسر على الخطر الذي حصل لمدينة «باريس» عقب هتك قوانين المملكة، ثم بعد فراغه سلم لديوان المشورة الورقة التي بعثها له «كرلوس» العاشر وابنه «الدوفين» المتضمنة لخلعهما المملكة على الدوق «دبردو» وأنهما يسميانه «هنري» الخامس؛ لأنه تقدم في فرنسا أربعة ملوك كل منهم يسمى: «هنري» ثم خرج قائم مقام المملكة من المشورة، وصار ديوان المشورة يفتح كل يوم للتدبير.

١  Saint cloud.
٢  لقب ولي عهد فرنسا Le Dauphin.
٣  Ramboufllet.
٤  Le Due d’Orléens.
٥  Due de Bordeaux.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤