الفصل الثالث
في ركوب البحر المالح المتصل بثغر الإسكندرية
١
اعلم أن هذا البحر يسمى في كتب الجغرافيا العربية «بحر الروم» لأنه يتصل إحدى جهاته
ببلاد الروم، ويسمى أيضًا فيها «بحر الشام» لمجاورته أيضًا لبلاد الشام، ويسمى أيضًا
عند الإفرنج «البحر المتوسط» أو الجواني. وإنما سمي بذلك؛ لأنه داخل الأراضي الناشفة،
بخلاف البحر المحيط، فإنه محيط بجميع الأراضي، حتى قال بعضهم: إنه متواصل الجريان تحت
الأراضي العالية على سطح مائه، وإن حقق بعضهم خلافه لوجود الأراضي اليابسة تحت سطحه؛
كبعض أراضي «الموسقو».
ويسمى هذا البحر الجواني باللسان التركي «بحر سفيد» والبحر الأبيض؛ لمقابلته ببحر
«بنطش» أو «البحر الأسود».
وهناك بحر آخر يسمى «بالبحر الأبيض» وهو بلاد «الموسقو»، وهو المراد بالبحر الأبيض،
في إطلاقات علماء الجغرافية.
وكان ركوبنا هذا البحر عصر يوم الأربعاء، خامس يوم من رمضان، وقد امتطينا سفينة حرب
فرنساوية لا تغادر في فؤاد (ص ٣٠، ٣١) الإنسان رعيًا ورزينة صناعة تجذب قلب الراكب؛ حتى
يصير في وسطها صبا: محتوية على سائر ما يحتاج إليه من الحرف والصنائع، مشتملة على آلات
الحروب وعلى (الحربجية)
٢ ومحصنة بثمانية عشر من المدافع، وكان مجراها يوم الخميس سادس يوم من شهر
رمضان المبارك، وكان هبوب الريح وقتئذ خفيفًا، فسرنا من غير إشعار بالسير، فتوسمنا في
وجهها الخير، ولم نتألم بذلك، وكنت قبل ركوب البحر عملت بما علمه لي بعض من سافر من
العلماء إلى إسلامبول، من تجرُّع حسوات
٣ عظيمة من ماء البحر المالح، وقال: إنه يدفع ألمه، فكان الواقع أنه لم يحصل
لي ألم، على أني حين نزلت المركب كمنت متمرضًا بالحمى فبرئت منها بمجرد السفر وحركة
السفينة؛ وربما صحت الأجسام بالعلل.
ولا زلنا نسير، من غير شدة تحرك واضطراب، نحو أربعة أيام، وبعدها عصفت الرياح، وتموج
ماء البحر وتلاعب بذات الألواح، تلاعب الأشباح بالأرواح، فلازم أكثرنا الأرض، وتوسل
جميعنا بالشفيع يوم العرض. ووقع عندنا [جميل]
٤ الموقع قوله بعض الظرفاء: «خاطر من ركب البحر، وأشد منه خطرًا مَن جالس
الملوك بغير علم ومعرفة»! وتحقق عندنا تضمين بعضهم لهزل أبي نواس في قوله:
رأيت جميع الهائلات محيطة
بوطئي لأجل الحمل جارية البحر
فأقسمت عمري، لا ركبت سفينة
ولا سرت طول الدهر إلا على الظهر
غير أن المعتمد على الكريم، لا يخشى من الخطب العظيم، وما أحسن قول من قال:
لما ركبنا ببحر
وكاد من خاف يتلف
على الكريم اعتمدنا
حاشاه أن يتخلف
وقد ذهب هذا الأمر بعد نحو ثلاثة أيام، وصار يزور غبًّا.
ومما يستحسن في طباع الإفرنج دون من عداهم من النصارى حب النظافة الظاهرية، فإن جميع
ما ابتلى الله سبحانه وتعالى به قبط مصر
٥ من الوخم والوسخ أعطاه للإفرنج من النظافة. ولو على ظهر البحر! فإن أهل
المركب التي كنا فيها يحافظون على تنظيفها وإذهاب الوسخ ما أمكن، حتى إنهم يغسلون
مقعدها كل يوم من الأيام، (ص ٣١، ٣٢) ويكنسونها في غرف النوم كل نحو يومين، وينفضون
الفراش وغيره، ويشمونها
٦ رائحة الهواء، ويزيلون أوخامها، مع أن النظافة من الإيمان، وليس عندهم منه
مثقال ذرة!
ومع ما عند الفرنساوية من النظافة الغريبة بالنسبة لبلادنا، فإنهم لا يعدون أنفسهم
من
الأمم كثيرة الاعتناء بالنظافة، كما يفهم من هذه العبارة المترجمة من كتاب «العوائد
والأخلاق» المؤلف باللغة الفرنساوية، وعبارته:
«أعظم الناس اعتناء بنظافة المنازل: أهل «الفلنمك»، فتجد في مدنهم غالب
حاراتهم مبلطة بالحجر الأبيض، المتعهد بالتنظيف، وبيوتهم مجملة من خارجها
أيضًا، وشبابيكهم (القزاز) تغسل دائمًا، بل وحيطانهم الخارجية.»
وقد توجد النظافة في حصة من بلاد الإنكليز، وببلاد الأقاليم المجتمعة
٧ من «أمريكة»، وهي قليلة في فرنسا والنمسا وغيرهما.
ومن الأمم من هي كثيرة الاتساخ، وكثيرة القمل، بل تجد بعض أناس يأكلهم القمل، ولا
يبالون.
وقد ذهب داء البرص من منذ انتشار الأقمصة البيض التي تغسل، ويغير بها كل أسبوع مرة،
وعدة مرات، فالملابس البيض من جملة ما أنتج النظافة والسلامة من آثار الأوساخ
الرديئة».
انتهى.