الفصل الرابع
فيما انحط عليه رأي أهل المشورة، وفيما ترتب على هذه الفتنة من تولية الدوق
دورليان ملك الفرنساوية
اعلم أن المشورة كانت تدبر حالة فرنسا المستقبلة، وقد أسلفنا أن آراء الفرنساوية
مختلفة، حتى إنهم في المشورة مختلفون في الموضع، فمنهم الملكية يجلسون في الجهة اليمنى،
والحريون في الجهة اليسرى، والتابعون لآراء الوزراء في الجهة الوسطى، وكل منهم يقول
رأيه من غير معارض له؛ لأن العبرة بكثرة الأصوات وما زال هذا الأمر، معمولاً به إلى
الآن، ولم تغير الفتنة شيئًا من ذلك، فكان أصحاب الآراء فرقتين: فرقة تريد المملكة،
وفرقة تريد الجمهورية، والفرقة الأولى منها من كان يريد تمليك الدوق «دوبردو» حفيد
الملك القديم، ومنهم من كان يريد تولية ابن «نابليون» الذي هو «بونابارته» ومنهم من كان
يريد تمليك «الدوق درليان» قائم مقام المملكة، وعائلة «درليان» هي العائلة الثانية
الوارثة للملكة، بعد انقراض العائلة الأولى البكرية، وهي عائلة «البربون» ثم إنه ظهرت
ورقة مطبوعة، وألصقت في الحارات والمشارع العامة، مضمونها، قد صح بالتجربة أن الجمهورية
لا تناسب بلاد الفرنساوية، وأما الدوق دبردو فتوليته تجعل الفرنساوية تحت حكم «البربون»
فتقع الفرنساوية فيما فرت منه، وأما ابن نابليون فهو تربية قسيسين وهم أعداء الحرية
فتعين «الدوق درليان» انتهت.
وقد دبرت عدة مواد انحط عليها الرأي:
المادة الأولى: أن الكرسيَّ فارغ حسًا ومعنى، ولا
حق لأحد فيه فلا بد من شغله بأحد، الثانية: من أغراض الفرنساوية ومن مصالحهم أن تحذف
العبارات الدالة على الاستعلاء من الشرطة، التي هي كتاب قوانين المملكة؛ لأن بقاءها
بهذه الكيفية يحط بمقام الرعية الفرنساوية، ولا بد أن يحذف من الشرطة بعض المواد الغير
اللائقة وتبدل بغيرها، حتى تكون مصلحة على ما تقتضيه الحال الراهنة، ثم بعد تمام ذلك
طلب ديوان مشورة وكلاء الرعية أن المصلحة العامة اللازمة حالاً لجميع الفرنساوية أن
يترجى حضرة سعادة «الدوق درليان لويز فليب» قائم مقام المملكة؛ لأن يكون ملكًا وتكون
مملكته وراثة بعده لأولاده الذكور، ثم بعده لأكبر أولاده، وهكذا، يعني أن، الملك إذا
مات انتقلت المملكة لأكبر أولاده، فإذا مات أو حصل له عذر كانت لابنه الأكبر، وهكذا.
وأن يقبل المملكة ويرضى بالشروط، وبصيغة المبايعة التي يعينها له أهل المشورة، وأن يلقب
بملك الفرنساوية، لا بملك فرنسا، والفرق بينهما أن ملك الفرنساوية معناه كبير على نفس
الأشخاص بجعلهم له ملكًا، بخلاف ملك فرنسا، فإن معناه أن أرض فرنسا ما دامت باقية فهو
سيدها وملكها، ولا منازع له من أهل بلاده فيها، وسبب ذلك أن الملوك السالفين كانوا
يلقبون ملوك فرنسا، وكان إذا كتب الواحد منهم يقول ما صورته: أنا فلان بفضل الله تعالى
ملك فرنسا «نوار»
١ على كل من يرى هذه الأوامر الحاضرة سلام قد أمرنا ونأمر بما سيأتي لنا،
وقوله: ملك فرنسا ظاهر، وأما قوله «ملك نوار» فإن هذا لقب اصطلاحي له، لمجرد الشرف:
وسبب ذلك أن أسلاف ملك فرنسا كانوا يحكمون على مملكة «نوار» ثم انتقلت منهم إلى ملوك
إسبانيا، فصارت حصة منها وبقي اللقب لملك فرنسا، وأما ملك الفرنساوية فإنه يقول في
كتابته: أنا فلان ملك الفرنساوية مني السلام على من حضر في الحال والاستقبال قد أمرنا
ونأمر ففرق بين عبارة الأول والثاني، فإن الأول: جعل نفسه ملك مجموع فرنسا ونوار بإنعام
الله — سبحانه وتعالى — عليه، والثاني: جعل نفسه ملك الفرنسيس، ولم يقل بفضل الله، ولقد
تحاشى عن أن يقول ذلك لإرضاء الفرنساوية فإنهم يقولون إنه ملك الفرنسيس بإرادة ملته،
وبتمليكهم له، لا أن هذه خصوصية خص الله — سبحانه وتعالى — بها عائلته، من غير أن يكون
لرعيته مدخلية فظهر من هذا أن قوله بفضل الله، معناه عندهم باستحقاقه لذلك بولادته
ونسبه، كما أن قوله ملك فرنسا معناه صاحب الأرض والسلطنة عليها: وإلا فلو كان عندنا
لاستوت العبارتان، فإن كون الملك ملكًا باختيار رعيته له، لا ينافي كون هذا صدر من الله
— تعالى — على سبيل التفضل والإحسان، ولا فرق عندنا مثلاً بين ملك العجم وملك أرض
العجم، ثم بعد تمام المشورة بعث إليه أهلها عدة رسل، فقرأ عليه رئيس الرسل ما اتفق عليه
أهل ديوان المشورة، فأجاب حالاً بقوله: قد سمعت والقلب في اضطراب ما عرضتموه علي من
خلاصة مجلس المشورة، من انتخابي للملكة، ولقد صح عندي أن عبارتكم الصادرة عنكم هي أيضًا
عبارة لسان حال الرعية بتمامها، وظهر لي أن ما صنعتموه في القوانين يناسب ما ذهبت إليه
في السياسات التي مارستها مدة حياتي، ولكن حصل لي من ذلك انفعال عظيم؛ لأنني لست أنسى
مدة حياتي ما قاسيته سابقًا من الأهوال، حتى إنني كنت عزمت على أن لا أطمع في قضية
السلطنة، ونويت على أن أعيش خاملاً مرتاحًا بين عيالي، ولكن حبي لعمار بلادي غلب ذلك،
فهو جدير بأن أوثره عليه، حيث قد أيقنت أن الضرورة دعت إليه، ثم إنه عين اليوم الذي
يتتوج فيه، في ديوان رسل العمالات، فلما جاء اليوم الموعود جاء في الساعة المتفق عليها
بموكب عظيم، من غير خفر سلطاني، ومن غير جلساء، وقد جرت عادة ملوكهم بأن زينة الموكب
إنما هي بذلك، وكل ما مشى خطوة حياه جميع الناس من الجواب بقولهم: حفظ الله «الدوق
درليان» حفظ الله الملك، فلما دخل الديوان ركب مصطبة بقرب الكرسي، وسلم على أهل المجلس
ثلاث مرات، ثم جلس على دكة أمام الكرسي وابنه الأكبر عن يمينه، والثاني عن يساره، وخلفه
أربعة وزراء في العسكرية يلقبون بالمارشالات — جمع «مارشال» — وهو أعلى مراتب العسكرية
عند الدولة الفرنساوية، وهو دائمًا مضاف إلى فرنسا فيقال: مارشال فرنسا، وبالفرنساوية
«مارشال د فرانسا».
والدال علامة على الإضافة بين المضاف والمضاف إليه، مثل اللام المقدرة في الإضافة
عندنا، فعلامة الإضافة ظاهرة عند الفرنسيس، ثم بعد جلوسه عزم على أهل ديوان «البير
وديوان رسل العمالات، بالجلوس، ثم طلب من رئيس الديوان أن يقرأ عليه الخلاصة التي عزم
عليه أهل الديوانين فيها بالمملكة، فلما فرغ الرئيس من قراءتها أجاب «الدوق» المذكور
بقوله: يا ساداتنا. قد سمعت مع التأمل خلاصة الديوانين، وقد وزنت عبارتهما وأمعنت فيها
النظر، وأقول: رضيت من غير شرط ولا تعليق بجميع الشروط المذكورة في الخلاصة، وبتلقيبي
ملك الفرنسيس الذي أعطيتموه لي، وها أنا حاضر مستعد للحلف والمبايعة على أني أحفظ ذلك،
ثم قام الملك مكشوف الرأس، ورفع يده اليمنى، وشرع يقول هذه الصيغة، الآتية بترتيب
وترتيل، وبصوت ثابت من غير لجلجة، وهذه الصيغة مترجمة: أشهد الله — سبحانه وتعالى — على
أني أحفظ مع الأمانة الشرطة المتضمنة لقوانين المملكة، مع ما اشتملت عليه من الإصلاح
الجديد المذكور في الخلاصة، وعلى أني لا أحكم إلا بالقوانين المسطورة وعلى طريقها، وإن
أعطى كل ذي حق حقه، بما هو ثابت في القوانين، وأن أعمل دائمًا على حسب ما تقتضيه مصلحة
الرعية الفرناسوية وسعادتها وفخرها، ثم صعد على كرسي المملكة، وشرع يقول: يا ساداتنا،
قد حلفت في هذا الوقت يمينًا عظيمًا، وما جهلت بالواجبات المرتبة به على، مع عظمها
واتساعها، لما أن نفسي تحدثني أنني أوفى بها، وما قيلت المبايعة إلا عن رضى، وقد كنت
عزمت على ألا أركب أبدًا الكرسي الذي أعطته لي الملة الفرنساوية، ولكن لما رأيت أن
فرنسا قد جرحت حريتها، وتكدرت الراحة العامة بأرضها، وبهتك قوانين المملكة قد أشرفت على
الفساد، وجب نصب القوانين، وكان ذلك من وظيفة ديوان «البير وديوان رسل العمالات» وقد
وفيتهم بذلك، فما صنعناه من إصلاح الشرطة يستلزم الأمن في المستقبل فمأمول أن فرنسا
تصير مرتاحة في داخلها، ومحترمة في خارجها، والصلح في بلاد أوروبا يزيد ثباتًا، فلما
فرغ من كلامه صاحت الأصوات: حفظ الله الملك «لويز فليب الأول»، ثم سلم الملك على
المجلس، وخرج، مصافحًا من رآه من أهل المجلس وغيرهم، وركب حصانه، ومشى، وصار يصافح
الناس عن يمينه وعن يساره، وربما عانق كثيرًا من الناس، وكان موكبه مؤلفًا من أهل
البلد، وهن خفر الملة المسمى الخفر الأهلي يعني «الرديف» ولما دخل الليل نورت باريس
بوقدة عظيمة وكان تملكه في السابع من شهر أغسطوس سنة ١٨٣٠ من الميلاد.