الفصل الثالث
هو فن يعرف به التعبير عن المقصود بنقوش مخصوصة تسمى حروف الهجاء أو حروف المعجم، وأغلب الحروف الهجائية متفقة في سائر اللغات ومبدوءة بحرف الألف إلا عند الحبشة، فإن حرف الألف هو الثالث عشر، وصناعة الكتابة شديدة النفع عند سائر الأمم، وهي روح المعاملات وإحضار الماضي، وترتيب المستقبل ووصول المراد، ونصف المشاهدة، ثم إن العرب والعبرانيين والسريانيين يكتبون من اليمين إلى الشمال، والصينيون يكتبون من أعلى إلى أسفل، وتكتب الإفرنج من الشمال إلى اليمين، وهل الأوفق طبعًا الكتابة من اليمين إلى الشمال كما تكتب العرب وغيرهم ممن ذكرهم معهم، أو العكس كما تكتب الإفرنج؟
مما يدل على الأول ترتيب الأعداد فإنها مرتبة طبعًا، وهي تبتدئ من اليمين إلى اليسار؛ فالآحاد التي هي أجزاء العشرات تكون على يمين العشرات، والعشرات كذلك بالنسبة للمئات، وهي كذلك بالنسبة للألوف، وإذا كان الأعداد أصولاً لغيرها — يعني أشياء أولية اتفقت فيها الطبائع على اختلاف أصحابها — دل ذلك على أن مخالفتها مخالفة للأصل وثبت نقيضه وهو المراد، وحاول الإفرنج فحملوا القراءة والكتابة على قراءة الأعداد وكتابتها فقط، فبرهنوا بهذا على أوفقية طريقتهم للطبع، فمن باب أولى يقال: إن الكتاب من أعلى إلى أسفل مخالفة لمقتضى الطبع ويقال: إن العرب كانت تعرف الكتابة في زمن سيدنا أيوب عليه السلام، وقد وقع اختلاف في أن الحروف الهجائية هل هي من الأوضاع الإلهية أو من الأوضاع البشرية، وعلى الثاني فقد وقع الاختلاف في أنها من أوضاع أي ملة، فقال بعضهم: إنها من أوضاع السريانيين أو من أوضاع قدماء المصريين، واستظهر الأول فعليه تكون انتقلت من السريانيين إلى اليونان، بدليل أن الحروف اليونانية هي عين السريانية إلا أنها انقلبت من الشمال إلى اليمين، ومن أهل اليونان أخذ الرومانيون حروفهم.
وجودة الخط لا تدل على الفضل، وعدم تأدية الكتابة حقها دليل على الجهل.
وأشار السيوطي في كتاب الأوائل إلى تفضيل القلم على السيف حيث قال: