الفصل الرابع
وهو علم تحسين العبارة، أو علم تطبيق العبارة على مقتضيات الأحوال، والمقصود منه على العموم توصل الإنسان إلى الإفصاح عما في ضميره بفصيح الكلام وبليغه.
وهذا العلم بهذه الحيثية ليس من خواص اللغة العربية، بل قد يكون في أي لغة كانت من اللغات، فإنه يعبر عن هذا العلم في اللغات الإفرنجية بعلم «الريثوريقي» نعم هذا العلم في اللغة العربية أتم وأكمل منه في غيرها، خصوصًا علم البديع فإنه يشبه أن يكون من خواص اللغة العربية؛ لضعفه في اللغات الإفرنجية.
وبلاغة أسلوب القرآن الذين نزل إعجازًا للبشر من خصوصيات اللغة العربية، ثم إنه قد يكون الشيء بليغًا في لغة غير بليغ في أخرى، أو قبيحًا فيها، وقد تتفق بلاغة الشيء في لغتين أو لغات، كما إذا أردت أن تعبر عن رجل شجاع بأنه أسد، فتقول زيد أسد؛ فإن هذا مقبول في غير اللغة العربية كما هو مقبول فيها، وإذا أردت أن تعبر عن شخص حسن بأنه بديع الجمال، فتقول: هو شمس أو عن حمرة خده فتقول: خدوده تتلظى، فإن هذا التشبيه حسن في اللغة العربية، غير مقبول أصلاً في اللغة الإفرنجية، وكذلك ما يقال في الريف ونحوه، مثل قول الشاعر:
فأغلب التشبيهات الموجودة في هذه الأبيات غير مقبولة عندهم؛ لأنهم يقولون إن الطبع لا يألف الريق مثلاً لكونه آيلاً إلى البصاق، وإذا شبهت بضع العذراء قبل افتضاضها بالوردة التي لم تفتح، ثم بعده بالوردة المفتوحة كان ذلك عظيمًا عند الفرنسيس، فمبنى البلاغة عندهم على ما يقبله الطبع، ويقال: نسبة علم البلاغة للبلاغة كنسبة العروض للشعر، فحينئذ قد توجد البلاغة عند من لا يحسن علمها، كما أنه قد يحسنه غير البليغ.
وأغلب نفع البلاغة يكون في الشعر والخطابات ونحوها من كتب الآداب والتواريخ وأعظم نفع ذلك العلم الموصل إلى معرفة أسرار التنزيل وإعجازه؛ وذلك لأن النبي ﷺ بعث في زمن شعر ونظم وكهانة، فأيده الله — سبحانه وتعالى — بالقرآن الذي لو قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الإسراء: من الآية: ٨٨) فظهر لأرباب العقول الصائبة أنه كلام قادر يقدر عليه، وأنه لا يشبه كلام المخلوقين، فآمنوا به، واتبعوه، إلا من حق عليه العذاب، فنزل القرآن الشريف على مقتضيات الأحوال، وكانت سائر عباراته مناسبة للأحوال لفظًا ومعنى، وإذا أردت توضيح العلوم الثلاثة ومعرفة قواعدها فعليك بكتب المعاني والبديع.