الفصل الرابع
قد مررنا على جزيرة «كريد» سابع يوم من سفرنا، ورأينا على بعد جبلها الشامخ المسمى عند اليونان «إيدا» الشهير بالأمور الغريبة في تواريخهم.
ثم في اليوم الثالث عشر منه، رأينا جزيرة «سيسيليا»، (بالمهملتين)، وبعضهم يكتبها بالمعجمتين، وهي مشهورة باللسان العربي باسم «صقالية»، أو «صقلية».
وفي كتب الجغرافيا أن أهل هذه الجزيرة مائة ألف نفس، ومدنها فوق الجبال وقد رأينا بهذه الجزيرة على بعد، في اليوم الرابع عشر الجبل المسمى «منتثنا» (بفتح الميم وسكون النون، وكسر التاء الفوقية، وسكون الثاء المثلثة) و«منتثنا» كلمة مركبة من كلمتين: إحداهما «منت» معناها: جبل، والأخرى «اثنا» فالأحسن كتابتها هكذا «منت اننا»، وهو مشهور الآن بلفظة «جبيل»، ويظهر لي أن هذا الاسم تحريف «جبل» فهو عربي أدخله المسلمون في هذه الجزيرة، وأطلقوه على هذا الجبل، فبقي بعد خروجهم إلى الآن، وتغير بتحريف أهل هذه الجزيرة له.
وهذا الجبل جبل نار، فإنه يخرج منه بالنهار دخان، وبالليل لهب، وقد يقذف مواد حجرية محترقة.
ثم إن جبال النار تسمى بالإفرنجية «الجبال البلكانية». ويسمى الجبل الناري «بلكان»، (بضم الباء الموحدة، وسكون اللام)، ويقال «ولكان»، (بضم الواو)، وقد صحِّف هذا الاسم بالعربية على لفظة «بركان» بالراء) ولعله تعريب عن لغة أهل الأندلس، ويسمى «طهمة» (بفتح الطاء، وسكون الهاء) كما ذكره السعودي في كتابه المسمى «مروج الذهب».
وقد جرت العادة أيضًا أن الزلزلة تعظم بقدر البعد عن البركان وعلل ذلك بعضهم بقوله: إن النار التي تحت الأرض تحاول منفسًا، لتخرج منه، فإن كان في الأرض بركان فإنها تخرج منه، فتذهب قوة النار، فتتفقد الزلزلة، بخلاف الأرض الخالية عن البراكين، فإن النيران تحاول منفسًا فيها، فلا تجده، فترتج الأرض بذلك.
قال بعضهم في رد هذا القول: «إنه ينافي ما اعتمده بعض الحكماء في بناء الأرض، ونظم طبقات صخورها».
ومن القواعد المقررة أن ثوران البركان يغلب كلما قل علوه، ويقل كلما عظم العلو، وهذا ما جرت به العادة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي اليوم الخامس عشر رسونا على مدينة «مسينة»، لم نخرج من السفينة أبدًا؛ لأنهم لا يمكنون من يجيء من البلاد الشرقية إلى بلادهم أن يدخلها إلا بعد (الكرتنة)، وهي: مكث أيام معلومة، لإذهاب رائحة الوباء. ولكنهم يجيئون للإنسان بسائر ما يحتاج، ويناولهم الثمن، فيضعونه في إناء فيه خل ونحوه، مع التحفظ التام. (راجع الفصل الأول من المقالة الثانية).
وقد تزودنا من هذه المدينة ما احتجنا إليه، من الفواكه، والخضراوات والمياه العذبة.. إلى آخره، وأقمنا بموردتها خمسة أيام وشاهدنا من بُعد قصورها العالية وهياكلها الشامخة السامية ورأيناها توقد قناديلها ووقداتها قبل أن يدخل وقت الغروب، وتمكث بعد شروق الشمس.
(ص ٣٥، ٣٦) والظاهر أن مدة مرورنا بها كانت عيدًا؛ حيث إننا سمعنا بها أصوات النواقيس مدة إقامتنا، حتى إن ضربهم النواقيس مطرب جدًا.
وقد صنعت في ليلة من هذه الليالي، في المحادثة مع بعض الظرفاء مقامة ظريفة، مضمونها ثلاثة معان:
وذيلتها ببعض أبيات مجنسة، والبحث في معناها، ونوع تجانيسها، بالجواب عن بعض ألغاز نحوية.. إلى آخره، وليس هذا محل بسط الكلام في ذلك.
ثم سرنا من هذه المدينة اليوم المتمم العشرين من مدة سفرنا، سرنا حتى حاذينا جبل النار، وجاوزناه.
وفي اليوم الرابع والعشرين جاوزنا مدينة «نابلي»، وقد كانت قديمًا تسمى باللغة التركية «بولية»، وتعديناها بنحو تسعين ميلاً، فانعكس الريح، وصار قدام السفينة، هابًا من المقصد لا إليه؛ لأنه من جهة الهواء. ويعجبني قول بعضهم:
وقول الصلاح الصفدي:
فبانعكاس الريح، رجعنا إلى مدينة «نابلي» بعد أن جاوزناها، ورسونا عندها، ولم ندخلها لما تقدم.
وقد كانت مملكة «نابلي» في يد الإسلام، ومكثت نحو مائتي سنة، ثم تغلبت عليها النصارى النورمندية، هي ومملكة «صقلية» ولم تزل إلى الآن في أيدي النصارى الإيطاليانية، حتى إنها تسمى: بلاد إيطاليا الجنوبية.
وقد أسفنا أن مدينة «نابلي» هي إحدى (البنادر) الأربعة الأصلية بالبلاد الإفرنجية.
ثم رأينا في اليوم التاسع والعشرين جزيرة «قرسقة»، (بضم القاف، وسكون الراء وضم السين، وفتح القاف) التي هي في حكم الفرنسيس، وتسمى الآن: جزيرة «قرس»، وقد فتحها المسلمون، ولم يمكثوا فيها زمنًا طويلاً، وهي وطن «نابليون»، (بضم الباء، وسكون اللام، وبالياء) الشهير باسم «بونابارته» الذي تغلب على مصر في غزوة الفرنساوية، ثم تولى سلطنة فرنسا، مع أن أباه كان رئيسًا في «الطوبجية).
وفي اليوم الثالث والثلاثين رسونا على فرضة «مرسيليا»، فكانت مدة مكثنا في البحر ثلاثة وثلاثين يومًا، ومنها مكثنا خمسة أيام قدام «مسينة»، (بفتح الميم، تشديد السين المكسورة، وفتح النون)، ونحو يوم قدام «نابلي»، وتأخرنا كثيرًا بلعب الرياح.. ولولا ذلك لوصلنا في أقل من هذه المدة بشيء يسير.