الفصل السابع
والحساب أهم العلوم الرياضية وقد دلت كتب التواريخ على أن واضع هذا العلم أهل برور الشام، يعني: الصوريين، وقدماء أهل مصر — يعني أن هاتين الأمتين هما أول من جمع الأعداد والحساب، ونظماهما في عقد الترتيب، حتى إن فيثاغورس الحكيم رحل من بلاد اليونان على مصر، فتلقى فيها هذا العلم، ومما اشتهر بين السلف أن علم الحساب من مخترعات الصورتين ويقال: إنهم أيضًا أول من استعمل القوائم والدفاتر، والظاهر أن الأصابع هو أول الطرق التي استعملها الإنسان في الحساب، وأن ذلك هو السبب في كون أول عقد في العدد هو عقد العشرات، والثاني عقد عشرات العشرات التي هي المئات، والعقد الثالث عقد عشرات المئات أو الألوف وهكذا؛ لأن الأصابع عشرة، فكان الانتقال من عقد إلى آخر من عشرة إلى عشرة، ولما كانت الأصابع لا تكفي إلا في تمييز عشرة عشرة احتاج الأمر إلى طريقة أخرى، وعلامات أخرى فأخذوا صغار الحصى، وحبوب الرمل والقمح ونحوها، واستعملوها لضبط المعدودات، كما هو الآن عند بعض همل أمريكة، وبعض همل غيرها من أقسام الأرض، حتى إن بعض قدماء الأمم الماضين لا يوجد في لغاتهم ما يمكن التعبير به عما فوق العشرات، فإنهم كانوا يعبرون عن مائة وسبعة وعشرين مثلاً، بقولهم: سبعة وعشرتان وعشرة عشرات؛ وذلك لأن الأقدمين كانوا يذكرون العدد الأصغر قبل الأكبر، فيبتدئون بالآحاد ثم بالعشرات ثم بالمئات، وهكذا، كما قال بعضهم: إنه يوجد في كتب العبرانيين واليانيين ما يدل على ذلك، وهو أيضًا أسلوب اللغة العربية فيما دون المائة، وأما الآن فقد تبحر الأمم في علم الحساب وتنوعوا وتفننوا فيه، حتى وصلوا إلى كماله. وحد علم الحساب علم يبحث فيه عن الأعداد من حيث ما يعتريها من الأعمال.
والعدد: اجتماع الآحاد، وهو قسمان؛ صحيح وكسر، وزاد بعضهم ثالثًا، وهو ما تركب منهما، وسماه عددًا مشتملاً على الكسور، ويتعلق بهذه الأعداد أعمال أربعة هي: الجمع، والطرح، والضرب والقسمة، وهي معلومة في كتب هذا الفن.
وأما علم الهندسة، فموضوعه قياس الامتدادات الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، كما أشرنا إليه في منظومتنا في علم الهندسة بقولنا:
وهذه الكواكب الجديدة لا يمكن رصد دورانها على نفسها إلا بصعوبة؛ لصغر بعضها في رأي العين، وبُعد البعض الآخر، بل لا يمكن رصد ما عدا «أورانوس» إلا بالنظارات الفلكية؛ ولهذا سميت عند الإفرنج بالسيارات النظارية، ويؤمل الإفرنج كشف غيرها من السيارات.
التاريخ مدرسة عامة يقصدها من أراد من الأمم أن يفوز بالتعلم وهو أيضًا تجريبيات حوادث الأعصر التي تساعد الحال الراهنة، من جهة اشتماله على عبر محفوظة يعين المرء على التفكر في ظاهر الآتي، فمنه يعتبر من اعتبر من جميع الناس أيًّا ما كان مقامهم؛ لما أنه يظهر على رءوس الأشهاد الآثار الرديئة المترتبة على تشاجرهم واختلافهم، ومثل هذه الصورة المهولة تحملهم على التخلق بالأخلاق الحميدة مثل الحلم والعدل. ومن التاريخ يفهم الملوك أنه في زمن سلطة ملك حَسَن التدبير ينبغي أن تكون شوكة الملك وكراسيه ظلاً ووقاية قال «بسوه»: «لو فرض أن التاريخ لا ينفع غير الأمراء، فإنه يجب قراءته للأمراء، ولكن إنما يفتح التاريخ للعاقل كنوزه؛ ليفهم منها خفياته ورموزه، فيشغل فكره مدة قراءته عن تغيرات معيشة الإنسان الباطنة، ثم ينتقل من ذلك إلى مادة أهم من ذلك، فتنكشف له سلاسل الزمن العديدة التي تمس حلقتها الأخيرة خلق العالم، أو ليس أن هذه السلاسل كميدان عظيم يطلع الإنسان فيه دفعة واحدة على جميع الأمم والدول وأزمان كل؟ فانظر إلى هذا المحفل العظيم المحتوى على أرباب سعود ونحوس، فكم فيه من مدائن دمرت، ومن دول انقرضت، ومن ممالك ذهبت واندثرت، ومن محال خربت، ومن مقابر عمرت! فكأن كل شيء يؤول إلى القبور، وهي التي تعلو وحدها على ميدان الأرض! فكم تظهر زينة الحياة الدنيا هينة حقيرة إذا نظر الإنسان من سماء التاريخ! وكم يظهر أن الجمعية التي في زماننا يسيرة هينة بجانب جمعيات أهالي القرون والإعصار، فشتان بين ملوك عصرنا الذين يمكن للناظر أن يقيس عظمها المحسوس، وملوك تلك الأزمنة التي يظهر للأعين كأنهم جبال مرفوعة على دائرة أفق الأعصر السالفة! وانظر ما تكون حروبنا الوقتية، وحبنا للعلو والشرف المؤقتين، عجائب منازعة السلف من مبدأ العالم، على مكان من الأمكنة، أو على شبر من أرض، فمن نظر حق النظر في عجائب التاريخ فإنه يكتسي بثياب الجد، ويتجرد من ملابس الهزل، ويصعد على ذروات النظر فيرى تحت رجليه أن العالم بأسره أشبه ببحر محيط، تسبح فيه سفن آمال الخلق وأمانتهم من غير دفة، عرضة للرياح الشديدة، وينتهي أمرها إلى الانكسار على ما يصادمها من الشعوب، ولا تجد من المراسي ما ترسو عليه غير فرضات القدم! فإذا نظرت من هذا المحل ترى بعين مجردة عن الطمع حطام الدنيا الفانية، والمدح الباطل المقصودين المرغوبين لكثير من الناس كلاشيء، أو ليس أن للدهر نكبات، وتغيرات في جميع ما وهبه وأعطاه، فأي مملكة أمنَّا على كرسيها من السقوط؟ وأي دولة أيسنا على تختها من الارتفاع؟ أوَما رأينا أن الهيكل الواحد يتداول على محرابه عدة أديان متباينة؟ وكم ارتكبت الرذائل حيث كانت الفضائل قاطنة؟ وكم من قواعد فخر وغنى آل أمرها إلى أن أعقبها الفقر والحقارة؟ وكم شوهد أن الخشونة والتمدن يمشيان بهرولة على سطح الكرة، ويتبادلان على أجزائها من غير تخلل وساطة بينها؟ وكيف قد آل أمرك أيُّتها المدائن التي كانت عامرة ببلاد آسيا، وقد كنت تحكمين على جميع الأمم يا مدن «نينيويونس»، و«بابل» السحر؟ أو «يا اصطخر» فارس، و«تدْمُر» سليمان، كيف صارت الآن مجالك خرابًا، وقد كنت كراسي دول العلوم فلم يبق لك من فخارك القديم، وبهائك الجسيم غير الاسم وبعض رسم من حجر! ومع ذلك فلم يحل ببلد من بلاد الدنيا، من النكبات العجيبة والبلايا الغريبة، مثل ما حل بمصر المباركة المصابة بالشقاء التي كانت خيولها تسبق سالفًا خيول سائر الممالك في الركض في ميادين الفخار والعلم والحكمة! فكأن الدهر أراد أن يصب على هذه البلاد — دفعة واحدة — إما نعيم الإنعام، أو عذاب الانتقام، مع أنه لم يكن من الأمم مثل قدماء مصر، في كونهم بذلوا جهدهم في الجلوس على مباني هياكلهم المشيدة، وأرادوا بذلك أن يكونوا مؤبدين، فبادوا جميعًا وانقرضوا، حتى إن أهل مصر الموجودين الآن ليسوا جنسًا من أجناس الأمم، بل هم طائفة متجمعة من مواد غير متجانسة، ومنسوبون إلى عدة جنوس مختلفة، من بلاد آسيا وأفريقية، فهم مثل خليط، من غير قياس مشترك، وتقاطيع شكل صورهم لا تتقوم منها صورة متحددة بها يعرف كون الإنسان مصريًا من سحنته، فكأنما سائر بلاد الدنيا اشتركت، في تأهيل بر النيل!؟ انتهى مترجمًا من مقدمة «الخواجا أكوب» في تاريخ مصر.
وعلم التاريخ واسع، وإن شاء الله — تعالى — يصير التاريخ على اختلافه منقولاً من الفرنساوية إلى لغتنا وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى.