الخاتمة
وأما حضرة حسن بك أفندي، وكذا الأفندية البحريون، ففضلهم وكمال علومهم ثابت بالبرهان، يدل عليه امتيازهم بين الأقران، شهرة اصطفان أفندي غنية أيضًا عن البيان، فقد حاز من العلوم ما حاز، وفاز من الفنون بما فاز، ولا ينكر فهم «الطين أفندي» في جميع أنواع العرفان، ولا خليل أفندي محمود، وتعلم أحمد أفندي يوسف مشهود غير مجحود، وبالجملة فالجل من الأفندية حصل المرام، ورجع لنشر هذا بديار الإسلام.
ولنذكر هنا رجوع العبد الفقير إلى مصر ليتم غرض هذه الرحلة فنقول: خرجنا من باريس في شهر رمضان سنة ١٢٤٦ وسرنا نقصد مرسيليا، لنركب البحر ونرجع إلى إسكندرية، فمررنا على مدينة «فنتنبلو» بقرب باريس بها قصر سلطاني، وهذا القصر شهير بأن نابليون نزل فيه عن سلطنة فرنسا، وخلعها عنه سنة ١٨١٥ من الميلاد، ويشاهد به عمود على شكل الهرم مبني من الحجارة، والقصد منه أنه تبقى آثاره، لتذكر رجوع «البربون» في فرنسا، فنجد مرسومًا عليه أسماؤهم وتاريخ ولادتهم، وغير ذلك، وفي هذه الفتنة الأخيرة محا الخلق هذه الأسامي، فلا يشاهد منها إلا الآثار، وهكذا عادة الزمان، في تلونه بجميع الألوان، وغدره وفتكه بقوم، وإقباله على آخرين قبل تمام يوم، قال الشاعر:
وكتابة تلك الرسوم من عادة الإفرنج، تأسيًا بالسلف من أهالي مصر وغيرهم، فانظر إلى بناء أهل مصر للبرابي وأهرام الجيزة، فإنما بنوها لتكون آثارًا ينظر بعدهم إليها من رآها.
وقال بعضهم في الأهرام، مضمنًا عجز بيت من معلقة طرفة:
قال السيوطي في منتهى العقول: إنه يتعجب من قول العلماء: إن أعجب ما في مصر الأهرام، مع أن البرابي بالصعيد أعجب منها، والبرابي هي المشهورة عند العامة بالمسلات، ولغرابتها نقل منها الإفرنج اثنتين إلى بلادهم: إحداهما نقلت إلى رومة في الزمن القديم، والأخرى نقلت إلى باريس في هذا العقد.
وأقول: حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن، والتعلم على منوال بلاد أوروبا فهي أولى وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة، وسلبه عنها شيئًا بعد شيء يعد عند أرباب العقول من اختلاس حلي الغير للتحلي به، فهو أشبه بالغصب، وإثبات هذا لا يحتاج إلى برهان؛ لما أنه واضح البيان. وقد صنع نابليون في باريس عمودًا مفرغًا من المدافع التي سلبها من الموسقو والنمسا، وقد حاول الموسقو إسقاطه حين حلولهم بباريس، فما ظهر إلا عجزهم عن ذلك.
ونهر طلوارة يمكن المسير فيه بقرب هذه المدينة: وهذه المدينة غير مدينة «روان» البعيدة عن باريس جهة الشمال بثلاثين فرسخًا، والتي يمر بها السين، والتي هي من إقليم «نورمنديا».
وهتك العرض: هو ما يعبر به عندهم بالسبة والعار، قال الشاعر:
قال الزمخشري، عند قوله تعالى: حكاية عن قول العزيز: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ: ما كان العزيز إلا حليمًا، وقيل: إنه كان قليل الغيرة، قال الشيخ أثير الدين أبو حيان، في تفسير هذه الآية الكريمة: وتربة مصر اقتضت هذا يعني قلة الغيرة، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا، وهو أنه كان مع ندمائه الخصيصين به في مجلس أنس وجارية تغني وراء الستارة فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية، وكانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعًا في طشت، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط مغشيًا عليه، ومرض مدة حياة ذلك الملك! أقول: وأين غيرة هذا الملك من غيرة عبد المحسن الصوري على محبوبه، حيث قال:
انتهى «سكردان ابن حجلة صاحب ديوان الصبابة» وبالجملة فسائر الأمم تتشكى من النساء ولو العرب، قال الشاعر:
وقال آخر:
ومن أغرب ما وقع ببلاد الإفرنج في هذا الأمر، أن ملك الإنكليز «جرجس الرابع» اتهم زوجته بالفاحشة بعد أن عهد منها ذلك المرار العديدة، واشتهرت بذلك عند الخاص والعام، لكونها كانت تسافر ببلاد الإفرنج مع من تريد، ولها في كل محل عشاق، فلما رفع أمرها عند شرعهم، وأقيمت الدعوى كما ينبغي، وقصد بإثبات زناها طلاقها ليتزوج بغيرها، فلم تثبت أمور كافية في الطلاق، فحكم القاضي بإبقائها على عصمته قهرًا عنه، فبقيا متفرقين، ولكن لم يتزوج غيرها، وذاع أمرهما وشاع، ولكن في الحقيقة وإن كان يعتقد فيها ذلك إلا أنه بمجرد القرائن لا بالمشاهدة، ألا لا نثلم عرضه، فمادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب هو اعتبار المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال.
ويدخل في العرض أيضًا العفاف، فإنهم تقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب، والمركوزة في طباعهم الشريفة، وإن كانت الآن قد تلاشت فيهم، واضمحلت فإنما هو لكونهم قاسوا مشاق الظلم، ونكبات الدهر، وأحوجهم الحال إلى التذلل والسؤال، ومع ذلك فقد بقي منهم من هو على أصل الفطرة العربية، عفيف النفس على الهمة، كما قال الشاعر:
وأما الحرية التي تتطلبها الإفرنج دائمًا فكانت أيضًا من طباع العرب في قديم الزمان، كما تنطق به المفاخرة التي وقعت بين «النعمان بن المنذر» ملك العرب، «وكسرى» ملك الفرس.
وصورتها: إنه قدم النعمان على كسرى، وكان عنده وفود الروم والهند والصين والعجم والترك وغيرهم، فذكروا من ملوكهم وبلادهم وعماراتهم وحصونهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، ولم يستثن فارسًا ولا غيرها.
فقال كسرى، وقد أخذته الغيرة: يا نعمان، لقد فكرت في العرب وفي غيرهم من الأمم ونظرت في حال من يقدم عليَّ من الوفود، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها، وعظيم سلطانها وكثرة مدائنها، ووثيق دينها.
ورأيت الهند شهيرة الحكماء طيبة الثراء، كثيرة الأنهار، والبلاد والثمار، عجيبة الصناعة، مرونقة الحسان، معمورة بالأهل.
وكذلك الصين عجيبة في اجتماعها، وكثرة صنائع أيديها، وهمتها في الحروب وصنعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها.
وكذلك الترك مع ما هم عليه من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، فإن لهم بعد ذلك ملوكًا تضم قاصيهم، وتدبر أمورهم.
فقال النعمان: أصلح الله الملك.. صدقت، إن هذه الأمة تسمو بفضلها، وبعظم خطبها، وعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك من غير رده عليه، ولا تكذيب له! فإن أمَّنتني من الغضب مما أتكلم به، فعلت.
قال كسرى: [تكلم] وأنت آمن، فقال النعمان: أمّا أمتك فلا تنازع في الفضل لموضعها التي هي به من عقولها وأخلاقها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما كرمها الله تعالى به من ولايتك وولاية آبائك وأجدادك، وأما الأمم التي ذكرت فما من أمة إلا فضلتها العرب بفضلها.
قال كسرى: لماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها وذمتها وبأسها ورياستها وسخائها وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها ووفائها.
فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك وأجدادك الذين فتحوا البلاد، ووطئوا العباد، وأقاموا الملك، وقادوا الجيوش، ولم يطمع فيهم طامع، ولم يزالوا عندهم محترمين، ولا نال أحدًا منهم نائل، بل حصونهم ظهور خيولهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء وإلى جانبهم السيوف، وعدتهم السقُف؛ إذ غيرها من الأمم، إنما عزها بالحجارة والطين والجزائر والبحور والقلاع والحصون.
وأما حسن وجوهها وألوانها، فقد يعرف بذلك فضلهم على الهند المحترقة، والصين المتجمشة، والترك المشوهة، والروم المقترة الوجوه.
وأما أنسابها وأحسابها: فليس أمة من الأمم إلا وقد جهل أباؤها وأصولها، وكثير من أولها وآخرها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه فلا ينسب، ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا ويسمي آباءه أبا فأبًا أحاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا بذلك أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما حكمة ألسنتها: فإن الله تعالى أعطاهم أشعارًا، ورونقًا كاملاً، وحسن وزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال: وبلاغتهم في الصفات ما ليس من ألسنة الأجناس.
ثم إن خيولهم أفضل الخيول، ونساءهم أعف النساء، ولباسهم أحسن اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وأحجار جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ إلا على مثلها سفر، ولا يقطع إلا بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسكون به أعظم تمسك، وإن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون في ذبائحهم، فيلقى الرجل فيه قاتل أبيه وأخيه، وهو قادر على أخذ ثأره منه وإدراك رغمه فيه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله إياه؛ احترامًا لذلك البيت وتشريفًا له.
وأما وفاؤهم: فإن أحدهم يلحظ اللحظة، فهي عقد لأهلها، لا يرجع عما أضمره في نفسه حتى يبلغه، وأحدهم يرفع عودًا من الأرض، فيكون رهنًا بدينه فلا يطلق رهنه ولا يخفر ذمته؛ خوفًا من الله تعالى، وإن أحدهم يبلغه أن أحدًا استجار به وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيمنع عنه عدوه، ويحميه منه ولو تفنى قبيلته، أو تلك القبيلة التي استجار عليها، وذلك لما أخفر من جواره، وإن أحدهم ليلجأ إليه المحروم، والمحدث عنه، بغير معرفة ولا قرابة فينزلونه عندهم، وتكون أنفسهم وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيضًا الملك، حفظك الله: إنهم يقتلون أولادهم من الحاجة، فإنما يفعله من فعله منهم رغم أنفه حذرًا من العار، وخيفة وغيرة من الأزواج.
وأما قولك أيها الملك: إن أفضل طعام ظفروا به لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم ومطاعمهم، من أنها أكثر البهائم لحومًا، وأطيبها شحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة، وأحلها مضغة، وإنه لا شيء من اللحوم يفاخر لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما محاربتهم وأكلهم بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد إلى رجل واحد يسوسهم ويدبر أمرهم، فإنما يفعل ذلك من الأمم من علمت الضعف من أنفسها، وتخوفت من نهوض عدوها عليها، فإنهم يحتاجون إلى ملك، يدبر أمرهم، ويكون رجلاً من أعظمهم شأنًا وقدرًا، ويكونون معترفين بشرفه على سائرهم فينقادون إليه بأزمَّتهم، وينقادون إلى أمره.
وأما العرب: أيها الملك، فإن كثيرًا فيهم، لعظم كرمهم ووقائهم، ودينهم، وحكمة ألسنتهم، وسخاء نفوسهم يقولون: إنهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم، فلا ينقاد أحد إلى الآخر فإنهم أشراف.
وأما اليمن، التي وصفها الملك: فإن آباءك وأجدادك أعلم بصاحبها لما أتاه ملك الحبشة في مائتي ألف، وتغلب على ملكه وجاء إلى بابك وهو مستصرخ ذليل حقير مسلوب فلم يجره أحد من أجدادك ولا آبائك، فاستجار بالعرب فأجاروه، ولولا ما وتر به من بلية العرب لمال إلى نقص، ولم يرجع إلى محله، ولولا أنه وجد من يجيد معه الطعان بقتل الأحرار، وتبدد شمل الكفار، وبذبح العبيد الأشرار لم يرجع إلى اليمن.
قال: فعجب كسرى مما جاء به النعمان، ثم قال له: إنك لأهل لموضعك من الرياسة، ولأهلك ولأهل إقليمك، ولما هو أفضل منه ثم كساه وأنعم عليه، وأعطاه أشياء جليلة ثم سيَّره إلى موضعه من الحيرة، ثم بعدُ سيّر إليه وقتله.
والتنوخية فرقة من اليمن، وقال المتنبي على لسان بعضهم:
وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: حضر رجل من أهالي مصر إلى عمر بن الخطاب، وجعل يشكو من عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا مقام العائذ.
فقال عمر: لقد عذت فما شأنك؟ قال تسابقت بفرسي أنا وابن عمرو بن العاص فسبقته، فحمل عليَّ بسوط في يده، وجعل يقنعني بالسوط، ويقول لي: أنا ابن الأكرمين، وبلغ ذلك لعمرو بن العاص فخشي أن آتيك لأشتكي ولده وحبسني فتفلت من الحبس، وها أنا قد أتيتُك.
قال: فكتب كتابًا: من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، إنه إذا أتاك كتابي هذا فاحضر الموسم — يعني الحج — أنت وابنك، ثم التفت إلى المصري، وقال له: قم حتى يأتي غريمك، فلما حضر عمرو بن العاص وابنه الحجَّ وجلس عمر بن الخطاب وجلسوا بين يديه، وشكى المصري كما شكى أول مرة، فأومأ عمر بن الخطاب، وقال له: خذ الدرة وانزل بها عليه: قال: فدنا المصري من ابن عمرو بن العاص، ونزل عليه بها.
وعن أنس: قال: والله لقد ضربه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم يزل يضربه حتى استحببنا أن لا يضربه؛ وذلك من كثرة ما يضربه، وعمر (رضى الله عنه) يقول: اضرب ابن الأكرمين.
قال عمرو بن العاص: قد شفيت يا أمير المؤمنين، قال عمر بن الخطاب للمصري: انزع عمامته، وضع الدرة على صلعة عمرو، فخاف المصري من ذلك، وقال يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني فما لي أضرب من لم يضربني.
فقال عمر (رضى الله عنه): والله لو فعلت لما منعك أحد.
فمنه يفهم أن الحرية أيضًا من طباع العرب من قديم الزمان.
هذا، ولا ينبغي لنا أن نختم هذه الرحلة من غير أن نشكر محاسن من ساعد الوالي في نجاح مقصوده من ترتيب أمور التلامذة وتعليمهم بمدينة باريس محب البلاد المصرية وأهلها «الخواجة جومار» فإنه يسعى بهمته ورغبته في تنفيذ مقصد الوالي ويسارع في المصلحة بلا إنكار فكأنه من أبناء مصر البارين بها فهو جدير بأن ينظم في سلك المحبين.
- الأمر الأول: الدلالة على تقدم الحرف والصنائع اللازمة لمصر من أولها لآخرها.
- الثاني: تجارة أهالي أوروبا وآسيا وأفريقية كقوافل بلاد البربر ودارفو وسنار وبلاد الحجاز، ومقابلة الأقيسة والمكاييل والموازين المختلفة باختلاف البلاد المستعملة هي فيها.
- والثالث: ذكر أمور الزراعة فإنها كانت سببًا في سالف الأعصر في غنى أهل مصر؛ فلهذا ينبغي أن تكون أول ما تهتم به الدولة في مملكة مصر الطيبة التربية والزراعة كثير الفروع المهمة، فمن ذلك علم توفير المصاريف الخلانية، ويتشعب عنه إصلاح المزارع، والمروج المستحدثة المدبرة وتتميم زراعة القطن والنيلة والعنب والزيتون والتوت واستخراج دقيق النيلة، واستخراج أنواع كثيرة من الزيوت، ومعرفة تربية النحل ودود القز، ودود الصباغة، وتعهد الحيوانات الأهلية، وتحسين الحيوانات البلدية بعزلها عن غيرها كالخيل والمعز، وحيوانات الأصواف، وجلب البهائم البرانية ومعرفة طِب البهائم، ومعالجة أمراضها كمرض «السواف» وحفظ الحبوب من السوسة، وغرس الأشجار، وترتيبها بحافات الطرق، وخدمة البساتين وسائر الأبنية الخلائية المناسبة لمصالح الزراعة. وفي مادة الزراعة نذكر الترع والخلجان المعدة لسقي الأراضي وللأسفار، وكذلك نذكر الطرق والجسور والقناطر في السهول والجبال المعدة لتوصيل الميال، فهذه كلها تذكر في الفلاحة.
- الرابع: نتكلم على أمور مختلفة من علوم الطبيعة ومن علم المواليد الثلاثة، ومن
العلوم الرياضية وهناك نتكلم على المادة المغناطيسية التي تستعملها الأطباء
في معالجة الشلل ونحوه، وكذلك القوة الكهربائية، والحرارة الكروية،
والحوادث السماوية، والندى، والمطر الذي يحدث بين المدارين، وكذلك نتكلم
على أحجار الصواعق، وعلى جبال النار المسماة بالبركانية، وعلى الآلات
الطبيعية كميزان الزمان، وميزان الحر، وميزان الرطوبة، ووقاية الرعد،
والنظارات الفلكية، والنظارات المعظمة للأشياء الدقيقة التي لا يدركها
النظر.
ونتكلم أيضًا على علم المعادن واستخراجها وقطع الحجارة من مقاطعها، وعلى علم الحشائش الطبية، والنباتات المستعملة في الفنون والصنائع، وعلى البهائم النافعة، وعلى علم الجبر والمقابلة والهندسة.
- الأمر الخامس: يشتمل على جملة فروع من علم توفير المصاريف وسياسة الدولة، وعلى تنبيهات على علم أحوال الممالك والدول، وعلى سبب ثروتها وغنى أهلها، وعلى أحوال المعاش والمعاد وعلى ولادة الذكور والإناث في كل بلدة من البلاد، وعلى الإدارة الملكية، وعلى الأصول العامة المستعملة أساسًا لسياسات الإفرنج، وهي الحقوق العقلية والحقوق القانونية والحقوق البشرية، أي: الحقوق التي للدول بعضها على بعض.
- السادس: سـيـاسـة الصـحـة العـمـومـيـة والخصوصية، ففي ذلك نتكلم على تلقيح البقري للجدريّ، وعلى الطاعون ومعالجاته، وعلى الأمراض والعوارض العامة وعلى بعض تشريح.
- السابع: نذكر فيه جملة تعليمات مختلفة من مسائل أدبية وفلسفية ولغات وعلوم مثل علم الفصاحة، وفيه نتكلم أيضًا على المكاتب والمدارس في البلاد المختلفة، ونبذات في تواريخ البلاد خصوصًا مصر، وعلى حكايات ونوادر من غرائب الآداب والبلاغة الإفرنجية والمشرقية، وكذلك نذكر شيئًا من علم المنطق، ونبين الوسائط المسهلة المعلمة بالإيجاز للقراءة والكتابة والحساب، وطرق تعليم هذه الأشياء في أقرب زمن لسائر العامة.
- الثامن: نبحث فيه عن عدة أشياء متنوعة، وفيه نذكر أخبار التجارة والسفن البحرية وإقامة العربات العامة وتحسين الطرق والترع والخلجان والقناطر المعلقة، والإشارة المسماة تيلغراف — يعني إشارة الأخبار — وجميع الأشغال المتجددة عند الإفرنج، ونضم لذلك لوحات أشكال لكمال الفائدة، وكذلك نرسم خرطات جغرافية وصور النباتات والحيوانات التي تنقل من البلاد الغريبة وتربى في مصر، ونذكر كثيرًا من الأمور التي تتجدد على تداور الأزمان، وبالجملة فنذكر نبذة صغيرة متشعبة من أصول عظيمة ومستفادة من أفواه الثقات سهلة الفهم لسائر الناس، ولا نستعير منها شيئًا من صعاب الكتب انتهى كلامه، ولو ينجز ما وعده به لأنه علق ذلك على الإرادة السنية ولم يصدر له أمر إلى الآن، وبالجملة فهو من المولعين بحب مصر ظاهرًا وباطنًا ومن الراغبين في خدمة الوالي حبًا له ولدولته.
وهذا آخر ما يسره الله — سبحانه وتعالى — في ذكر حوادث السفر لتلك الجهة التي لا ينكر معارفها إلا من لا إنصاف عنده ولا معرفة له، قال الشاعر:
ولا ينبغي أن يمنع ذو الحق حقه، كما قال الشاعر في هذه الأبيات المملوءة من الحكمة:
ولا أحد يخلص من قال الناس وقيلهم، كما قال الشاعر:
وحيث كان العمل بالنية، والمدار على حسن الطوية؛ فلا معول على من لم يكن نيّر السياسة، ساطع الكياسة، ولا اكتراث إلا بمن رقي رتبة عليه في الرسوم والقوانين وتشبث بالشريعة، وكان فيها ذا رياسة، ودرى أن القصد إنما هو حس أهل ديارنا على استجلاب ما يكسبهم القوة والبأس، وما يؤهلهم لإملائهم الأحكام على هؤلاء الناس.
وبالجملة فنحن الآن على ما كان عليه الأمر في زمن الخلفاء العباسية، كما قال الشاعر:
ولبعض أقاربي:
وقال آخر:
وعلى كل حال فأرجو ممن نظر فيه أن يتصفحه بجملته؛ ليكون على بصيرة مما يقول، فإن المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل منه، ولا أقول إلا كما قال الشاعر: