تعليق
سيرة حياة المعرفة والحرية
ولكن في منتصف ذلك الشهر نفسه، ولد رفاعة الطهطاوي في بلدة طهطا من قلب صعيد مصر، ولم يكن لولادته يومذاك مغزى. إلا أنه ولد في البلدة التي أغرقت بنادق أهلها القديمة سفينة القيادة لحملة فتح الصعيد التي أرسلها نابليون من القاهرة، فلم تستطيع أبدًا أن تزعم أنها فتحته، ولكن ولادته رغم ذلك كانت هي ثالث الأحداث في ذلك الشهر التي سميت البداية لتاريخ مصر الحديث. بل ربما كانت ولادته، هي الحدث الأكثر أهمية، إذا نظرنا إلى التاريخ بحثًا عن أعماقه الحقيقية وأساسه، فإن العمل الذي أنجزه الصبي الصعيدي فيما بعد هو الذي أعطى المعنى الإيجابي للحدثين الأوّلين؛ فقد كان على شعب مصر، الذي دفع الثمن كله أن يكون هو الذي يصنع بجهده ذلك المعنى، وأن يكون هو الذي يجسده.
يصعب علينا الآن بالفعل أن نتخيل نوع العالم الذي جاءه رفاعة الصغير يوم مولده، كانت قد مرت ثمانية قرون تقريبًا منذ بدأت سيطرة الأجناس الآسيوية، المتخلفة حضاريًا وثقافيًا، على مصر والوطن العربي: من الأكراد والشركس والتركمان والمغول والأتراك، جاءوا قادة عسكريين، ومماليك وغزاة فاتحين، وكانوا محاربين عظماء، ولكنهم كانوا أيضًا أصحاب تخلف حضاري وثقافي عريق، وبحكم سيطرتهم السياسية القائمة على القهر، وبحكم غربتهم عن لغة الثقافة العربية ووصولهم إلى السيطرة دون سند أوليّ من «مؤسسات» هذه الثقافة — إلا الأسانيد الشكلية — وبحكم قسوتهم الأصلية وقسوة النظام الاجتماعي السائد، فقد ترابطت هذه العوامل لكي تفرض على مصر، وعلى الوطن العربي كله ستارًا من التخلف والفساد العقلي والأخلاقي أصبح فيما بعد مضرب الأمثال. والقصص التي تروى عن ذلك ليست لها نهاية، كما أن ذلك التخلف قد احتوى في مضمونه نسيانًا كاملاً للتراث الحضاري والثقافي العظيم الذي ازدهر حتى قبل وصول «الآسيويين» بعشرات قليلة من السنين، إن علماء الأزهر الذين ظنوا أن العلماء الفرنسيين يستخدمون نوعًا من السحر في معامل الكيمياء لكي يخدعوهم، وأقر مؤرخهم الكبير «عبد الرحمن الجبرتي» بأنهم يأتون أعمالاً: «لا تسعها عقول أمثالنا» هؤلاء العلماء كانوا جديرين بأن يظنوا نفس الظنون بأسلافهم العظماء من الفلاسفة والعلماء العرب، من أمثال الفارابي وابن سينا أو الكِنْدي أو ابن الهيثم أو البيروني.. هذا إذا أتيح لهم أن يسمعوا عن تلك الأسماء.
ونحن الآن قد نستخدم لغة السجع والتورية اللفظية لكي نصنع بعض الفكاهات.. ولكن هذه اللغة كانت هي اللغة الوحيدة التي يمكن أن يعبر بها من شاء الكتابة من هؤلاء العلماء، ولم تكن هذه اللغة الفقيرة قد استخدمت أبدًا، منذ نحو ألف سنة للتعبير عن شيء من العلوم الطبيعية، ولا الفلسفة العقلية، ولا العلوم البحتة — كالرياضة — ولا العلوم النظرية — كالفلك والهندسة، ونظرة واحدة إلى المجلدات الأولى من كتاب في التاريخ وضع في هذه السنوات الألف، تكشف عن التصور الخرافي الذي نقله المؤرخون من كتابات اليهود وغيرهم، ومن بقايا ما عرفوه من حكايات شعبية عن تاريخ شعبهم والشعوب المجاورة، وبعد مئة سنة فقط من موت المؤرخ وعالم الاجتماع الكبير عبد الرحمن بن خلدون.. وضع — عالم — أزهري كتابًا لتعليم أمير من المماليك في مادة — وصف العالم — أو الجغرافيا، ولكن هذا الكتاب يصلح لأن يكون دائرة معارف لكل الخرافات القديمة عن شكل كوكبنا وما يعيش فيه من أحياء، ولا يكاد وصف مصر نفسها فيه يكون صحيحًا.
أما عن أدوات الموت، فيكفي أن نتذكر أن الجبرتي قال إن الناس الذين تجمعوا لمشاهدة القتال بين الفرنسيين والمماليك في إنبابة: «لما عاينوا القنبر — أي: قذائف المدافع — ولم يكونوا عاينوه من قبل، صاحوا: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، وأن الجبرتي أيضًا أبدى إعجابه بالعربة الصغيرة ذات العجلة الواحدة التي صنعها الفرنسيون لتسهيل نقل الأتربة، وقال إنها — معجزة الناس الفرنساوية — وأنها — شيء لطيف..
ولكن هذا العالم كان قد اهتز هزة عنيفة في السنتين السابقتين على مولد رفاعة، وإن هؤلاء الناس الذين استنجدوا بخفي الألطاف حينما عاينوا القنبر — سبكوا شبابيك الجوامع والبيوت بعد عام واحد لكي يصنعوا مدافع وقنابل يمنعون كليبر من العودة للقاهرة في ثورتها الثانية، ونظموا أول مقاومة وطنية مسلحة وسرية ضد السلطة الاستعمارية انتهت بقتل كليبر نفسه بعد أيام، واستمرت لكي تعزل ولاة السلطان الذين جاءوا من الأستانة واحدًا بعد الآخر، وأرغمت السلطان بالثورة على تعيين الوالي الذي أرادته قيادة المقاومة من نفس مشايخ الأزهر الذين سحرتهم معامل الكيمياء واستصغروا عقولهم أمامها قبل عامين اثنين فقط.
كان بعض هؤلاء المشايخ قد اكتشف معنى الحرية ومعنى أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، ومعنى أن تكون الأمة منظمة تدافع عن نفسها بالسلاح، وقد تكرر هذا الدفاع أيام حملة فريزر في رشيد والإسكندرية، وتحت نفس القيادة التي شجعت محمد علي لكي يقاوم الغزوة الإنجليزية ولا يهرب كما فعل المماليك، واكتشفت بعض المشايخ الآخرين قيمة العلم والحضارة، وهؤلاء هم الذين ارتبط بهم رفاعة الشاب حينما وصل إلى القاهرة لكي يدرس في الأزهر وهو في السادة عشرة من عمره، فقيرًا يحفظ القرآن وبعض كتب شروح النحو والبلاغة والفقه.
وفي القاهر يكتشف شيخه الكبير، وشيخ الأزهر فيما بعد، حسن العطار الذي كان يجمع في بيته ألمع تلاميذه لكي يتباحثوا فيما عرفوا من علوم الفرنسيين، وأسباب تفوقهم الظاهر على المماليك، وولعهم بالمعرفة والنظام والنظافة، واكتشف الشيخ الكبير موهبة تلميذه الشاب، وبينما كان عقل الشاب يتفتح أمام ما يسمعه. كانت الدولة توطد أركانها، فقد أباد محمد علي بقايا المماليك وقضى على أسس النظام الاقتصادي والإداري القديم، واكتشف أن باشوات الأستانة سيعملون على خلعه؛ حتى لا يخلق مركزًا قويًا ينافسهم من القاهرة، وقرر أن — جيشًا قويًا — هو ما يمكن أن يحميه، وبمجيء عدد من ضباط جيش نابليون المهزوم في ووترلو، وعدد من الاقتصاديين والسياسيين أتباع — سان سايمون — الاشتراكي الخيالي الفرنسي، حصل طموح محمد علي، على الأفكار العلمية اللازمة بتجسيد خياله — وهو كعسكري لا بد أن يفكر في أن بناء الجيش يمكن أن يكون النواة التي ينبغي أن يشيد فوقها وحولها بناء الدولة كلها، إن جيشًا حديثًا يحتاج إلى إدارة وصناعة وعلوم ومدارس واقتصاد حديث، ولا يمكن أن تنتجه مؤسسات متخلفة، وبذلك بدأ تجنيد الشباب للجيش، وإرسال أفراد قلائل لتلقي العلوم اللازمة لتوسيع هذا الجيش وتغذيته بما يلزمه وتغذية الدولة التي ستنفق عليه وترسله في الحروب المطلوبة منها، أو الحروب التي سنفرض عليها.
ويكتشف رفاعة، مع الفقر واحتياجه للرزق المنتظم الذي لا يتيحه التدريس في الأزهر، يكتشف أهمية الالتحاق بوظيفة في هذه المؤسسة الجديدة التي ستبنيها الدولة، والتي ستبني هي الدولة بدورها.
ويصبح رفاعة، الأزهري الذكي، تلميذ حسن العطار الذي تفتحت آفاق خياله وعقله بأحاديث أستاذه عن حضارة الغرب، يصبح موظفًا في الدولة الجديدة، إمامًا وواعظًا في إحدى وحدات الجيش الجديد، ومن هنا تبدأ رحلة الخلق الجديد.
لقد كان من الممكن أن يعود رفاعة الطهطاوي من باريس إلى القاهرة مثلما ذهب، مجرد إمام وواعظ في إحدى وحدات الجيش، وكان يمكن أن يعود، حتى بعد انضمامه إلى البعثة كدارس وليس كمجرد إمام وواعظ، كواحد منها، وواحد من الذين درسوا معه ومن بعده في عواصم أوروبا، فيتحول إلى مجرد أداة تكتيكية متوسطة الإعداد، تؤدي خدمة معينة للجيش محمد علي ودولته ثم تنتهي مثلما انتهت دولة محمد علي وانتهى جيشه بعد هزيمته أمام القوى الأوروبية التي أفزعها تقدمه فاتخذت ضده وضد مصر، أو ضد عمله على إنعاش السلطة العثمانية في الحقيقة.
ولكن رفاعة، يقدم لنا نموذجًا مثاليًا للدور الذي يمكن أن تلعبه العبقرية الفردية في التاريخ: العبقرية التي تكتشف المغزى الحقيقي لأحداث عصرها وتيار تلك الأحداث، ونكتشف واجبها في استخلاص كل ما هو ممكن من ذلك التيار لصالح قوى التقدم الحقيقية والأصيلة.
لقد انتهت «أسطورة» محمد علي بهزيمته وإجباره على قبول شروط أوروبا وباشوات السلطنة المتواطئين ضده، وجاء بعده وبعد موت ابنه إبراهيم باشا، حفيده الخديوي عباس، صورة من الولاة القدماء تخلفًا وجهلاً وقسوة وغباء وحرصًا على التخلف والجهل والغباوة، وتغلق مدرسة الألسن وكل ما أنشأه رفاعة وتلامذته من المدارس ومؤسسات الدولة المتدينة التي تحايلوا لخلقها مستفيدين من طموح محمد علي، ومن الضرروات على خلقها وفرضها على الدولة وعلى المجتمع كله ذلك الطموح.. وينفي رفاعة إلى السودان.
فكيف كان يمكن أن تبدو أسطورة محمد علي، إلا لونًا من الذكريات يتبادلها المشايخ والموظفون والضباط القدماء المسرحون من الجيش المتضائل.. لولا الكتب الألف التي كان رفاعة وتلاميذته قد نقلوها إلى العربية في كل الفنون والعلوم وطبعوها، فوزعت بين مئات البيوت وألوف الأيدي..
ولم يعد في وسع الخديو المتخلف الغبي لا أن «يغلقها» كما أغلق مدارس رفاعة، ولا أن ينفيها مثلما نفى المعلم الأول الذي اختارها بنفسه وأشرف على ترجمتها، وراجع الكثير منها، وتلقى بيديه أول نسخة منها جميعًا طوال سبعة عشر عامًا؟ ويتكرر نفس الموقف أثناء سنوات تحرير الوالي سعيد الذي جاء بعد عباس، ثم أثناء حكم إسماعيل، حتى بلغت تلك الكتب أكثر من ألفين.
فبينما كان محمد علي يحلم بالإمبراطورية، وبكرسي الصدر الأعم في الأستانة، ويحصي النقود التي جمعها جباته بالسياط من فلاحي مصر وتجارها، وبينما كان يظن أن دولته.. ومن أكبر موظفيها رفاعة نفسه — لا عمل لها إلا تصنيع الأسلحة والجنود وجمع النقود.. كان رفاعة يضع الأساس لاستمرار تطور مصر نفسها وبنيانها الحضاري الحديث كله.. بصرف النظر عن مصير هذه المغامرة التي ما كان العصر الاستعماري يقبلها في المنطقة التي تمثل محور الارتكاز لاستراتيجية الدول العظمى طوال القرن التاسع عشر، لم يكن محور حلم الباشا هو مصر، وإنما السلطنة العثمانية التي كان التاريخ قد حكم عليها بالزوال، ولم يكن يبقيها إلا منطق توازن القوى في وسط العصر الاستعماري، ولم يكن هم الباشا عظمة الإسلام وإنما مجده الشخصي.. أما الشيخ المعلم فكان محور حلمه هو مصر في المستقبل؛ لأنه تفرغ لتعليمها ولغرس البذور التي لا تموت ولا تتحكم فيها أية معاهدات دولية ولا أية نهايات لمصائر أفراد بعينهم، وكان همه هو المصريون وحريتهم ورخاؤهم واستنارتهم، وحكمهم لأنفسهم وحصولهم على حياة جديرة بالبشر، يصنعونها بأنفسهم.
كان يمكن في باريس أن يتعلم اللغة وأن يتقن الترجمة، وأن يكتفي بترجمة نصوص الكتب المدرسية التي ستلقى في الفنون العسكرية على ضباط وجنود الجيش طبقًا لخطة محمد علي وتصور رجاله عن وظيفة هذه البعثة التعليمية والبعثات المشابهة.. ولكن ها هو رفاعة الشاب يحرث أرض المعرفة كلها لكي يعد نفسه للمهمة التي قرر أن يتولاها، والتي رأى أن التاريخ نفسه يؤذن بإمكانية تحقيقها: مهمة بعث الحياة في عقل هذه الأمة ووجودها اعتمادًا على أصولها بالذات، وعلى أساس بث الروح الحية في الإدارة الأساسية لمصنع الحضارة واستيعابها وهي: اللغة؛ حتى تمتلك الأمة في لغتها أسرار تلك الحضارة الحديثة وأوعيتها وما تحتويه.
وفي يقيني أن المعلم الأول، كان واعيًا منذ البداية بما يفعله، وبما يريد إنجازه، ربما نبهه أحد إلى ضرورة أن يهتم بكل فروع المعرفة حتى يصبح «مترجمًا» يترجم كل شيء على لغته العربية، ولكن من المؤكد أنه هو الذي اختار فروع المعرفة التي يركز اهتمامه عليها، والكتب التي سيشرع في ترجمتها للاستفادة المباشرة بمادتها ولتطويع اللغة العربية — بمفرداتها وتركيبتها — من أجل أن تصبح قادرة على استيعاب هذه المادة وما يترتب عليها حتمًا من أفكار، لقد طلب إليه أستاذه الشيخ حسن العطار قبل السفر أن يسجل ملاحظاته، ولكن رفاعة هو الذي كتب صورة الحضارة والثقافة الغربيتين، ولخصهما، ونقدهما، واكتشف موقفهما الحقيقي من «الشرق» ومن وطنه، وعرف أنهما قد يكونان أداة تصلح لتطوير بلاده، ولكن من الخطر الاستسلام لهما، ومن الغباء السعي إلى استبدال جوهر وطنه بهما.
وتوحي مختارات المعلم الأول للترجمة، وموضوعاته للتأليف. أنه اكتشف الحاجات الحقيقية لحياة أمته، ولعقلها، اكتشف أنها بحاجة إلى المعارف العملية وتطبيقاتها، فاهتم بالرياضة والهندسة والمعادن والإدارة والاقتصاد، ولكنه اكتشف أيضًا حاجتها إلى تغيير تصورها عن الكون وعن الكوكب الذي نعيش فيه، وفي هذا سر اهتمامه الشخصي الخاص بالجغرافيا وبالفلك، ولا شك أنه توقف كثيرًا عند المغزى الذي تدل عليه الحقيقة التي نعرفها عن التطابق بين بداية علوم الفلك والجغرافيا الحديثة، وبين بداية عصر النهضة والتحرر الفكري في الغرب، فبهذين العلمين حصل الإنسان الغربي على «الإحساس» الصحيح بوضع البشر في الكون.. وبشكل هذه الأرض التي يقفون فوقها واستبدلوا التصور الخرافي القديم بشعور «ملحمي» يقيني جديد يدفعهم دفعًا إلى مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة، يشعرون فيه بأنهم يواجهون أشياء يمكنهم بالفعل معرفتها والوصول إليها، وإخضاعها لاحتياجات الإنسان، وليسوا أمام «مشاعل معلقة في السماء يسكنها الملائكة كما جاء في «نهاية الأرب» وفي تعاليم الكنيسة الكاثوليكية قديمًا ولا يقفون فوق «أسطوانة مستديرة يمسكها تدبير إلهي فوق قرن ثور، ويقال فوق ظهر سلحفاء يقف أو تقف فوق ظهر حوت يسبح في بحر الظلمات».
ولا شك أن المعرفة «العلمية» بحقيقة ذلك الوضع والإيمان بها يخلقان شعورًا مختلفًا وحالة عقلية متميزة كل التميز عن الشعور الذي تولده الخرافات الأخيرة.
وهذا الشعور وتلك الحالة العقلية هما ما سعى إليهما المعلم الأول؛ لأنهما يعنيان «الحرية» والقدرة على الفعل.. النتيجة المحتمة للعلم، بدلاً من حالة القهر والعجز التي تخلقها التصورات الخرافية.
وإلى جانب الجغرافيا والفلك، اهتم المعلم الأول بالتاريخ ربما يمكن أن نسميه «فلسفة التاريخ» أو «علم الاجتماع»، أو بنوع من «الأنثروبولوجيا» — «علم تاريخ العقائد»، فبعد تصحيح إحساس الناس بوضعهم في الكون وفي كوكبهم، اكتشف المعلم الأول حاجة أمته إلى تصحيح تصورها عن تاريخ المجتمع الإنساني نفسه أو تاريخ البشر أنفسهم على هذا الكوكب، ثم إلى تصحيح تصورها عن تاريخها، هي بالذات؛ ولذلك لم يكتف بترجمة وتأليف الكتب التي تقدم «حقائق» ذلك التاريخ وإنما أضاف إليها الكتب التي تكشف معنى تلك الحقائق بوصفها ظواهر موضوعية.. تحكمها قوانين لا سيطرة للبشر عليها إذا حققوا الوعي بها، كسائر قوانين العلم التي تتحكم في سائر ظواهر الطبيعة، وهي الكتب التي تمنح أمته التصور الصحيح عن حياة وعقائد وتصورات الأمم الأخرى؛ حتى يسود أمته إحساس موضوعي إزاء هؤلاء الآخرين، ينتج عن المعرفة بحقيقتهم. بدلا من التصورات الخرافية التي نجدها أيضًا في كتب مؤرخي الألف سنة الماضية وعلمائها.
ونظرة إلى كتاب الطهطاوي عن تاريخ مصر وتاريخ العرب: «أنوار توفيق الجليل في تاريخ مصر وتوثيق بني إسماعيل» تكشف أيضًا عن رغبته في إقامة تصور المصريين عن تاريخهم على نحو صحيح: إنهم أصحاب تلك الحضارة العريقة القديمة التي تطورت حتى التقت بنهر التاريخ العربي فاستوعب أحدهما الآخر وصارا نهرًا واحدًا له «روافد» بعيدة متعددة الأصول، وإن عليهم أن يعيشوا الوعي بهذا البعد التاريخي لوجودهم «الاجتماعي» حتى يعرفوا أنفسهم والمعنى الحقيقي لحضارتهم المعاصرة، وحتى يعرفوا أنهم هم الذين صنعوا تلك الحضارة، وإنهم صنعوها من خلال صراع عظيم ضد عناصر وعوامل القهر الكثيرة.
وأخيرًا نكتشف اهتمام المعلم الأول باللغة، سواء عن طريق إثرائها مباشرة بالترجمة، وإحيائها لكي تتمكن من استيعاب تلك العلوم والمعارف التي لم تستخدمها أبدًا طوال ألف سنة، والتي تطورت وتشعبت بشكل هائل طوال تلك القرون العشرة، أو عن طريق تحديد المصطلحات العلمية الجديدة وتوحيدها عن طريق وضع القواميس الخاصة في نهاية كل كتاب مترجم، تحديدًا للمعاني وتوحيدًا لها في أذهان من يستخدمون الاصطلاحات في العمل أو في التعليم، وكان المعلم الأول عمليًا إلى أقصى حد في هذا المجال، فكان يلجأ إلى اللهجة العامية لكي يأخذ منها المصطلح الذي يريده إذا لم تسعفه الفصحى، فإذا لم يجد في العامية بغيته كتب المصطلح الأوروبي بالحروف العربية كما هو، وكذلك في أسلوب التعبير الذي كان قائمًا في عصره على ضرورة استخدام المحسنات البديعية من سجع وجناس وتورية.. إلخ.
لقد اكتشف خطورة ذلك القيد الثقيل على العقلية العربية منذ تعلم الفرنسية في الشهر الأول من إقامته في باريس، وبدأ منذ ذلك الحين، في الصفحات الأولى من كتابه الأول «تخليص الإبريز» محاولة التخلص من ذلك القيد؛ سعيًا إلى دقة التعبير وتطابقه مع حقائق الأشياء ومع جوهر المعاني التي يريد التعبير عنها.
إن هذا الصراع الكبير من أجل تحرير اللغة، ومن أجل تحريرها من «التقديس» من أجل إثرائها بالمفردات والمصطلحات وأساليب التعبير، إنما تكشف عن إدراكه؛ لأن اللغة وعاء للثقافة والحضارة جميعًا، وأنه دون إعداد هذا الوعاء، لكي يكون مستعدًا للاتساع والتشكل بأشكال ما يحتويه، فإنه لا أمل في تطور حقيقي لعقل أمته، والتالي لحياتها.
لقد انتهت مغامرات الباشوات الثلاثة، محمد علي، ثم سعيد ثم إسماعيل، نهايات تتناقض جوانبها بين النفع والضرر، كما تتناقض مقدماتها بين الخير والشر، أما مصر فقد فازت بما صنعه أبناؤها، وعلى رأسهم معلمها الأول الكبير وما حققوه من معرفة وحرية وبنيان مادي ومعنوي، حضاري وثقافي تقوم عليه حياتهم الجديدة.
وفي ظني أن هذا البنيان، وفي جانبه المعنوي الثقافي بالذات، قد كان في حساب القوى التي كانت تخطط للقضاء على النهضة المصرية لتحويل مصر على مستعمرة ونقطة حراسة لطريق المواصلات الإمبراطورية في نفس العصر الاستعماري، ولا شك أن الأجيال التالية للمعلم الأول، قد جاهدت لكي تكمل طريقه، وكان عليها أيضًا أن تجاهد ضد ذلك المخطط الذي أرادنا أن نتخبط في طريق المعرفة والحرية، ولعلنا نستطيع في إعادة اكتشاف معنى العمل الذي حققه «جدنا الجليل» أن نعود إلى طريقه المستقيم.