الفصل الأول
قد رسونا على موردة «مرسيليا» التي هي إحدى فرض بلاد فرنسا، فنزلنا من سفينة السفر في زوارق صغيرة، فوصلنا إلى بيت خارج المدينة معه (للكرنتينة) على عادتهم. من أن من أتى من البلاد الغربية لا بد أن (يكرتن) قبل أن يدخل المدينة.
ولنذكر هنا ما قيل في (الكرنتينة) بين علماء المغرب، على ما حكاه لي بعض من يوثق به من فضلاء الغرب، قال: وقعت بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي (ص ٣٧) المالكي، المدرس بجامع الزيتون، ومفتي الحنفية العلامة الشيخ محمد البيرم، المؤلف عدة كتب في المنقول والمعقول، وله تاريخ دولة بني عثمان من مبدئها إلى السلطان محمود الحالي، محاورة في إباحة (الكرنتينة) وحضرها، فقال الأول بتحريمها، والثاني بإباحتها، بل وبوجوبها، وألف في ذلك رسالة، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة، وأقام الأول الأدلة على التحريم، وألف رسالة في ذلك، على اعتماده فيها في الاستدلال على أن (الكرنتينة) من جملة الفرار من القضاء.
ووقعت بينهما محاورة أيضًا نظير هذه، في كروية الأرض وبسطها، كالبسط للمناعي، والكروية لخصمه.
وممن قال من علماء المغرب بأن الأرض مستديرة، وأنها سائرة، العلامة الشيخ مختار الكنتاوي بأرض أزوات، بقرب بلاد «تمبكتو»، وهو مؤلف مختصر في فقه مالك، ضاهى به «متن خليل» وضاهى أيضًا «ألفية» ابن مالك في النحو، وله غير ذلك من المصنفات في العلوم الظاهرية والباطنية، كأوراد وأحزاب، كحزب الشاذلي، وقد ألف كتابًا وسماه: «النزهة»، جمع فيه جملة علوم، فذكر بالمناسبة علم الهيئة، فتكلم على كروية الأرض، وعلى سيرها، ووضح ذلك، فتلخص من كلامه أن الأرض كرة، ولا يضر اعتقاد تحركها أو سكونها.
مات هذا الشيخ سنة ألف ومائتين وست وعشرين من لهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وخلفه حفيده المسمى باسمه.
ثم إن هذا البيت الذي كنا فيه (للكرنتينة) متسع جدًا، به القصور والحدائق والبناء المحكم، فبه عرفنا كيفية إحكام أبنية هذه البلاد وإتقانها، وامتلائها بالرياض والحياض.. إلى آخره.
ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها؛ لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلاً عن الجلوس بالأرض، ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من (القزاز)، وسكينًا، وشوكة، وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء، وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيخ (ص ٣٨) فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين، ليغرف أحد أهل الطبلية، ويقسم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلاً، ولا بشوكة غيره، أو سكينه، أو يشرب من قدحه أبدًا. ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة.
ومما يشاهد عند الإفرنج أنهم لا يأكلون أبدًا في صحون النحاس، بل ولا في أونية أبدًا، ولو مبيضة؛ فهي للطبخ فقط، بل دائمًا يستعملون الصحون المطلية.
وللطعام عندهم عدة مراتب معروفة، وربما كثرت وتعددت كل مرتبة منها؛ فأول افتتاحهم الطعام يكون (بالشوربة)، ثم بعده باللحوم، ثم بكل نوع من أنواع الأطعمة، كالخضراوات والفطورات، ثم (بالسلطة).
ثم إن الإنسان كلما أكل طعامًا في صحنه غيَّره، وأخذ صحنًا غير مستعمل ليأكل فيه طعامًا آخر.
ثم إنهم أحضروا لنا آلات الفراش، والعادة عندهم أنه لا بد أن ينام الإنسان على شيء مرتفع نحو سرير، فأحضروا ذلك لنا.
ومكثنا في هذا المحل ثمانية عشر يومًا، لا نخرج منه أبدًا غير أنه متسع جدًا، وفيه حدائق عظيمة، ومحال متسعة، للتماشي فيها، والتنزه في رياضها.
ومن هذا البيت ركبنا العربات المزينة المجملة التي تستمر عندهم آناء الليل وأطراف النهار تقرقع، وسرنا بها إلى بيت في المدينة، لكنه في حواشيها، من القصور المصنوعة خارج المدينة بحدائقه وأدواتها، فمكثنا منتظرين التوجه إلى مدينة «باريس» ومدة مكثنا في هذا البيت كنا نخرج بعض ساعات للتسلي في البلد، وندخل بعض القهاوي.
والقهاوي عندهم ليست مجمعًا للحرافيش، بل هي مجمع لأرباب الحشمة؛ إذ هي مزينة بالأمور العظيمة النفيسة التي لا تليق إلا بالغنى التام، وأثمان ما فيها غالية جدًا، فلا يدخلها إلا أهل الثروة، وأما الفقراء فإنهم يدخلون بعض قهاوي فقيرة أو الخمارات والمحاشيش، ومع ذلك هذه المحال أيضًا مجملة تجملاً نسبيًا. وقد أسلفت أن مدينة إسكندرية (ص ٤٠) تشبه في حالها مرسيليا.
وأذكر هنا أن الفرق بينهما اتساع السكك والطرق اتساعًا مفرطًا لمرور جملة عربات معًا في طريق واحد، والآن صارت الإسكندرية بالهمة الخديوية بنحو ذلك، ثم إن سائر القاعات والأروقة أو المنادر العظيمة يوضع في حيطانها الجوانية مرآة عظيمة كبيرة، حتى إنه ربما كانت سائر جوانب القاعة كلها من زجاج المرآة؛ ليظهر لها رونق عظيم. «فأول مرة خرجنا إلى البلدة مررنا بالدكاكين العظيمة الوضع المزججة بهذه المرائي، والمشحونة بالنساء الجميلات، وكان هذا الوقت وقت الظهيرة.
وعادة نساء هذه البلاد: كشف الوجه والرأس، والنحر، وما تحته، والقفا، وما تحته، واليدين إلى قرب المنكبين.
والعادة أيضًا أن البيع والشراء بالأصالة للنساء، وأما الأشغال فهي للرجال، فكان لنا بالدكاكين والقهاوي ونحوها فرجة عليها، وعلى ما يعمرها.
وكان أول ما وقع عليه بصرنا من التحف قهوة عظيمة، دخلناها، فرأيناها عجيبة الشكل والترتيب، والقهوجية امرأة جالسة على صفة عظيمة، وقدامها دواة وريش وقائمة، وفي قاعة بعيدة عن الناس محل لعمل القهوة، وبين محل جلوس الناس ومحل القهوة صبيان القهوة، ومحل الجلوس للناس مرصوص بالكراسي المكسوة بالمشجرات وبالطاولات المصنوعة من الخشب الكابلي الجيد، وكل طاولة مفروشة بحجر من الرخام الأسود أو المنقوشة، وفي هذه القهوة يباع سائر أنواع الشراب والفطورات، فإذا طلب الإنسان شيئًا طلبه الصبيان من القهوجية، وهي تأمر بإحضاره له، وتكتبه في دفترها، وتقطع به ورقة صغيرة فيها الثمن، وتبعثها مع الصبي للطالب، حين يريد الدفع، والعادة أن الإنسان إذا شرب القهوة أحضر له معها السكر، ليخلطه فيها ويذيبه، ويشربه، ففعلنا ذلك كعادتهم. وفنجان القهوة عندهم كبير نحو أربعة فناجين من فناجين مصر. وبالجملة فهو قدح لا فنجان، وبهذه القهوة أوراق الوقائع اليومية لأجل المطالعة فيها، وحين دخولي بهذه القهوة ومكثي بها ظننت أنها قصبة عظيمة نافذة؛ لما أن بها كثيرًا من الناس، فإذا بدا جماعة داخلها أو خارجها ظهرت صورهم في كل جوانب الزجاج، ظهر تعددهم مشيًا وقعودًا قيامًا، فيظن أن هذه القهوة طريق، وما عرفت أنها (ص ٥٤) قهوة مسدودة إلا بسبب أني رأيت عدة صورنا في المرآة، فعرفت أن هذا كله بسبب خاصية الزجاج؛ فعادة المرآة عندنا أن تثني صورة الإنسان. كما قال بعضهم في هذا الشأن:
وعادتها عند الإفرنج، بسبب تعددها على الجدران وعظم صورتها، أن تعدد الصورة الواحدة في سائر الجوانب والأركان.
ومن كلامي:
وقال شيخنا العطار: لم أر ألطف تخيلاً في هذا المعنى من قول ابن سهل:
قال الحريري في مليح بيده مرآة:
وسيأتي كمال الكلام على ذلك كله في ذكر مدينة باريس.
ومدة إقامتنا في مرسيليا بعد (الكرنتينة) شغلناها أيضًا بتعلم تقطيع الحروف، يعني تعلم تهجي اللغة الفرنساوية.
ثم إنه يوجد في مدينة مرسيليا كثير من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنساوية حين خروجهم من مصر، وهم جميعًا يلبسون لبس الفرنسيس، وندر وجود أحد من الإسلام الذين خرجوا مع الفرنسيس؛ فإن منهم من مات، ومنهم من تنصر، والعياذ بالله، خصوصًا المماليك، الجورجية والجركسية، والنساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن، وقد وجدت امرأة عجوزًا باقية على دينها.
وممن تنصر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان ولاه الفرنسيس بمصر (أغاة انكشارية) في أيامهم، فلما سافروا تبعهم، وبقي على إسلامه نحو خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر، والعياذ بالله، بسبب الزواج بنصرانية، ثم مات بعد قليل ويقال إنه سمع عند موته يقول: أجرني يا رسول الله! ولعله ختم له بخير، وعاد إلى الإسلام، فقال بلسان الحال:
ولقد رأيت له ولدين وبنتًا، أتوا في مصر وهم على دين النصرانية؛ أحدهما معلم الآن في مدرسة أبي زعبل.
ومثله ما حكاه لي بعضهم أن سر عسكر المسمى «منو» المتولي في مصر بعد قتل الجنرال «كليبر» (بفتح الكاف، وكسر اللم وكسر الباء) كان أسلم في مصر نفاقًا، كما هو الظاهر، وتسمى: عبد الله وتزوج ببنت شريف من أشراف رشيد، فلما خرج الفرنسيس من مصر، وأراد الرجوع، أخذها معه، فلما وصل رجع إلى النصرانية، وأبدل العمامة (البرنيطة) ومكث مع زوجته، هي على دينها مدة أيام فلما ولدت، وأراد زوجها أن يعمد ولده على عادة النصارى لينصره أبت الزوجة ذلك وقالت: لا أنصر ولدي أصلاً، ولا أعرضه للدين الباطل! فقال لها الزوج إن كل الأديان حق، وإن مآلها واحد وهو عمل الطيب، فلم ترض بذلك أبدًا فقال لها إن القرآن ناطق بذلك، وأنت مسلمة فعليك أن تصدقي بكتاب نبيل: ثم أرسل بإحضار أعلم الإفرنج باللغة العربية «البارون دساسي» فإنه هو الذي يعرف يقرأ القرآن وقال لها سليه عن ذلك فسألته، فأجابها بقوله: إنه يوجد في القرآن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. فحجها بذلك! فأذنت بمعمودية ولدها، ثم بعد ذلك انتهى الأمر على ما قيل أنها تنصرت، وماتت كافرة.
ومما رأيته من جملة المصريين في مرسيليا: إنسان لابس أيضًا كالإفرنج، واسمه محمد منطلق اللسان في غير اللغة العربية، فلا يعرف من اللسان العربي إلا اليسير، فسألته عن بلده ببر مصر، فأجاب بأنه من مدينة أسيوط من أشرافها، وأن أباه يسمى السيد عبد الرحيم، وهو من أكابر هذه البلدة، وأمه تسمى مسعودة أو قريبًا من ذلك الاسم، وأنه اختطفه الفرنساوية في حال صِغره، ويقول: إنه باق على إسلامه يعرف من الأمور الدينية: الله واحد ومحمد رسوله، والله كريم!».
ومن العجائب أنني بعد كلامه توسمت فيه الخير، وكان على وجهه سمة أشراف أسيوط (ص ٤٢، ٤٤) حقيقة، فإن صح كلامه كان من أولاد سيدي حريز بن سيدي أبي القاسم الطهطاوي وأشراف طهطا من أولاد سيدي يحيى بن القطب الرباني سيدي أبي القاسم، وله ثالث يسمى سيدي علي البصير، ذريته أهل جزيرة شندويل، وشهرة سيدي أبي القاسم الطهطاوي لا تخفى على من يعرفه، وإن لم يذكره سيدي عبد الوهاب الشعراني في الطبقات، وكثير من الأشراف بالبلاد العثمانية ينتهي نسبهم إلى سيدي حريز المتقدم.
ومما رأيته في مرسيليا الملعبة المسماة «السبكتا كل» وأمرها غريب ولا يمكن معرفتها بوصفها، بل لا بد من رؤيتها بالعين، ونذكرها في الكلام على «باريس» ومكثنا في هذه البلدة خمسين يومًا وتوجهنا إلى باريس.