الفصل الثاني
اعلم أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة، في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة.
وسائر العلوم والفنون والصنائع مدونة في الكتب حتى الصنائع الدنيئة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلى معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن من الفنون يحب أن يبتدع في فنه شيئًا لم يسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره. ومما يعينهم على ذلك زيادة عن الكسب حب الرياء والسمعة ودوام الذكر، فهم يقتدون بقول الشاعر:
وقول ابن دريد:
وقيل لإسكندر: لو استكثرت من النساء كثر ولدك، وطاب بهم ذكرك، فقال: دوام الذكر في حسن السيرة والسنن، ولا يحسن لمن غلب الرجال أن تغلبه النساء.
ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وخصوصًا في أمر الملبس، فإنه لا قرار له أبدًا عندهم، ولم تقف لهم إلى الآن عادة في التزيين، وليس معنى هذا أنهم يغيرون ملبسهم بالكلية، بل معناه أنهم يتنوعون فيه؛ مثلاً: لا يغيرون لبس (البرنيطة) ولا ينتقلون منها إلى العمامة، وإنما هم تارة يلبسون (البرنيطة) على شكل، ثم بعد زمن ينتقلون إلى شكل آخر، سواء صورتها أو لونها، وهكذا.
ومن طباعهم المهارة والخفة، فإن صاحب المقام قد نجده يجري في السكة كالصغير، ومن طباعهم أيضًا الطيش والتلون، فينتقل الإنسان منهم عن الفرح إلى الحزن وبالعكس، ومن الجد إلى الهزل وبالعكس، حتى إن الإنسان قد يرتكب في يوم واحد جملة أمور متضادة، وهذا كله في الأمور الغير المهمة، وأما في الأمور المهمة، فآراؤهم في السياسات لا تتغير، كل واحد يدوم على مذهبه ورأيه، ويؤيده مدة عمره، ومع كثرة ميلهم إلى أوطانهم يحبون الأسفار، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم يحبون السفر، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم، فكأنهم مصداق قول الحاجري:
وقال آخر:
ومن خصالهم محبة الغرباء والميل إلى معاشرتهم، خصوصًا إذا كان الغريب متجملاً بالثياب النفيسة، وإنما يحملهم على ذلك الرغبة والتشوف إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعوائد أهلها، ليظفروا بمقصدهم في الحضر والسفر، وقد جرت عادة النفوس إلى الطمع من الدنيا بما لا تظفر به، كما قال الشاعر:
وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم، لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبته إلا إذا وثقوا بالمكافأة، وهم في الحقيقة أقرب للبخل من الكرم، وقد ذكرنا علة ذلك في ترجمتنا «مختصر السير والعوايد في ذكر الضيافة» وفي الواقع، حقيقة السبب في ذلك هو أن الكرم في العرب.
ومن أوصافهم توفيتهم غالبًا بالحقوق الواجبة عليهم، وعدم إهمالهم أشغالهم، فإنهم لا يكلون من الأشغال سواء الغني والفقير، فكأن لسان حالهم يقول: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
ومن المركوز في طبعهم حب الرياء والسمعة، لا الكبر والحقد، فهم كما يقولون في مدح أنفسهم: أخلص قلوبًا من الغنم عند ذبحها، وإن كانوا عند الغضب أشد افتراسًا من النمور، فإن الإنسان منهم إذا غضب قد يؤثر الموت على الحياة، فقل أن يفوت زمن يسير من غير أن يقتل إنسان نفسه خصوصًا من داء الفقر أو العشق.
ومن طباعهم الغالبة: وفاء الوعد، وعدم الغدر، وقلة الخيانة، ومن كلام بعض الحكماء: المواعيد شباك الكرام، يصطادون بها محامد الأخبار، وقال آخر: كفر النعمة من لؤم الطبيعة ورداء الديانة، وقال آخر: الشكر وكاء النعمة، والوفاء به صلاح العقبى، وقيل: وعد الكريم ألزم من دين الغريم، وقال بعضهم الخيانات تؤذي الأمانات.
ومن طباعهم الغالبة: الصدق، ويعتنون كثيرًا بالمروءة الإنسانية، قال بعضهم في مدحها: المروءة اسم جامع للمحاسن كلها.
ومن الصفات التي يقبح وصف الإنسان بها عندهم: كفر النعم، مثل غيرهم. فيرون أن شكر المنعم واجب، وأظن أن جميع الأمم ترى ذلك — وإن كانت قد تفقد هذه الصفة عند أفراد، فهو خروج عن الطبع، فهي كشفقة الوالد وبر الولد، فإنهما قد يتخلفان في بعض الأفراد، مع أنهما صفتان جِبلِّيتان، عند سائر الأمم والملل، ومما قيل في ذلك، وهو أحسن ما قيل مع ما فيه من الاستطراد:
ويقال إن أبا بكر الخوارزمي الشاعر المشهور قصد الصاحب بن عباد فأحسن زوله، وأكرمه وأقام في نعمته مدة، ثم حين ارتحاله كتب بيتين وجعلهما في مكان حيث يجلس الصاحب وهما:
فلما وقف عليهما الصاحب، قال وقد بلغه موت الخوارزمي:
وهذا بخلاف أبي طالب عبد السلام بن الحسين المأموني من أولاد المأمون، وهو شاعر محسن أقبل على الصاحب بن عباد، فرماه ندماءُ الصاحب فسقطت منزلته عنده، فقال قصيدة طلب فيها من الصاحب الإذن بالرحيل، ومن وداعها قوله:
ومن خصالهم أيضًا: صرف الأموال في حظوظ النفس، والشهوات الشيطانية، واللهو واللعب، فإنهم مسرفون غاية السرف.
ولا يظن الإفرنج بنسائهم ظنًا سيئًا أصلاً، مع أن هفواتهن كثيرة معهم، فإن الإنسان، ولو من أعبائهم، قد يثبت له فجور زوجته، فيهجرها بالكلية، وينفصل عنها مدة العمر. والتفريق بينهما بهذه المثابة يكون عقب إقامة دعوى شرعية ومرافعة يثبت فيها الزوج دعواه بحجج قوية على رءوس الأشهاد، تتلوث فيها الذرية بالفضيحة وإن كانت بدون لعان، ولا تعرض للأولاد. وهذا يقع كثيرًا في العائلات الكبيرة والصغيرة، ويشهد مجلس المرافعة الخاص والعام، فلا يعتبر الآخرون بذلك، مع أنه ينبغي الاحتراس منهن، كما قال الشاعر:
ومن كلام بعض الغرب الغرباء خطابًا لزوجته:
ومن الأمور المستحسنة في طباعهم، الشبيهة حقيقة بطباع العرب: عدم ميلهم إلى الأحداث، والتشبب فيهم أصلا، فهذا أمر منسي الذكر عندهم، تأباه طبيعتهم وأخلاقهم، فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبى تغزل الجنس في جنسه، فلا يحسن في اللغة الفرنساوية قول الرجل: عشقت غلامًا؛ فإن هذا يكون من الكلام المنبوذ المشكل؛ فلذلك إذا ترجم أحدهم كتابًا من كتبنا يقلب الكلام إلى وجه آخر، فيقول في ترجمة تلك الجملة عشقت غلامه، أو ذاتًا؛ ليتخلص من ذلك فإنهم يرون هذا من فساد الأخلاق، والحق معهم؛ وذلك أن أحد الجنسين له في غير جنسه خاصة من الخواص يميل بها إليه كخاصة المغناطيس في جذب الحديد مثلاً، وكخاصة الكهربا في جذب الأشياء، ونحو ذلك، فإذا اتحد الجنس انعدمت الخاصة، وخرج عن الحالة الطبيعية، وهذا الأمر عندهم من أشد الفواحش، حتى إنه قلمًا ذكروه صريحًا في كتبهم بل يكنون عنه بما أمكن، ولا يسمع التحدث به أصلاً، ويعجبني قول الشيخ عباس اليمني:
ومن خصالهم الرديئة: قلة عفاف كثير من نسائهم كما تقدم. وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة، ومما قاله بعض أهل المجون الفرنساوية: لا تغتر بإباء امرأة إذا سألتها قضاء الوطر، ولا تستدل بذلك على عفافها، ولكن على كثرة تجربتها. انتهى. كيف والزنا عندهم من العيوب والرذائل، لا من الذنوب الأوائل، خصوصًا في حق غير المتزوج، فكأنَّ نساءهن مصداق قول بعض الحكماء: لا تغتر بامرأة، ولا تثق بمال وإن كثر، وقال آخر: النساء حبائل الشيطان، وقال الشاعر:
وبالجملة فهذه المدينة؛ كباقي مدن فرانسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات، وإن كانت مدينة «باريس» من أحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية، وأثينة الفرنساوية، وقد قابلتها فيما تقدم نوع مقابلة بأثينة — أي: مدينة حكماء اليونان — ثم رأيت بعض أهل الأدب من الفرنساوية قال ما معناه: إن الباريزيين أشبه الناس بأهل أثينة، أو هم أثينيو هذا الزمان، فإن عقولهم رومانية، وطابعهم يونانية. انتهى.
وقد أسلفنا أن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير، واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية.
ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها.
ولهم كثير من العقائد الشنيعة كأفكار بعضهم القضاء والقدر، مع أن من الحكم العاقل من يصدق بالقضاء، ويأخذ بالحزم في سائر الأشياء، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يحيل الأشياء على المقادير أو يحتج بها قبل الوقوع، فإن من الأمثال التي سارت بها الركبان: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير، ومن كلام بعضهم: إذا وقعت المجادلة فالسكون أفضل من الكلام، وإذا وقعت المحاربة: فالتدبير أفضل من التقدير.
ومنهم جماعة يعتقدون أن الله تعالى خلق الخلق، ونظمهم نظامًا عجيبًا، فرغ منه ثم لا يزال يلاحظهم بصفة له تعالى، تسمى صفة العناية والحفظ، تتعلق بالممكنات إجمالاً، بمعنى أنها تمنتها عن خلل انتظام الملك، وسنذكر بعض عقائدهم في غير هذا المحل.
ثم إن لون أهل «باريس» البياض المشرب بالحمرة، وقل وجود السمرة في أهلها المتأصلين بها، وإنما ندر ذلك لأنهم لا يزوجون عادة الزنجية للأبيض أو بالعكس، محافظة على عدم الاختلاط في اللون؛ حتى لا يكون عندهم ابن أمة. قال الشاعر:
بل لا يعدون أنه قد يكون للزنج جمال أصلاً، بل غيره عندهم من صفات القبح، فليس لهم في المحبة مذهبان، ولا يحسن عندهم قول الشاعر في غلام:
بل لسان حالهم دائمًا ينشد قول الآخر:
على أنه لا يحسن عند الفرنساوية استخدام جارية سوداء في الطبخ ونحوه؛ لما ركز في أذهانهم أن السود عارون عن النظافة اللازمة.
ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة، حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائمًا بالزينة، ويختلطن مع الرجال في المنتزهات. وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال في تلك المحال، سواء الأحرار وغيرهن، خصوصًا يوم الأحد الذي هو عيد النصارى، ويوم بطالتهم، وليلة الاثنين في (البالات) والمراقص الآتي ذكرها، ويحسن قول بعضهم (شعر):
ومما قيل: إن «باريس» جنة النساء، وأعراف الرجال، وجحيم الخيل؛ وذلك أن النساء بها منعمات، سواء بمالهن أو بجمالهن.
وأما الرجال فإنهم بين هؤلاء وهؤلاء، عبيد النساء فإن الإنسان يحرم نفسه وينزه عشيقته، وأما الخيل فإنها تجر العربات ليلاً ونهارًا على أحجار أرض «باريس» خصوصًا إذا كانت المستأجرة للعربة امرأة جميلة، فإن (العربجي) يجهد خيله ليوصلها إلى مقصدها عاجلاً؛ فالخيل دائمًا معذبة بهذه المدينة.
وحيث إن باريس من بلاد الفرنسيس، فمعلوم أن لسان أهلها هو اللسان الفرنساوي، ولنذكر هنا نبذة من ذلك فنقول: اعلم أن اللسان الفرنساوي من الإفرنجية المستحدثة، وهو لسان الغلوية، يعني: قدماء الفرنسيس، ثم كمل من اللغة اللاطينية، وأضيف إليه شيء من اللغة اليونانية النيمساوية ويسير من لغة الصقالية وغيرها، ثم حين برع الفرنساوية في العلوم نقلوا كلمات العلوم من لغات أهلها، وأكثر الكلمات الاصطلاحية يونانية، حتى كان لسانهم من أشيع الألسن وأوسعها، بالنسبة لكثرة الكلمات غير المترادفة، لا بتلاعب العبارات والتصرف فيها، ولا بالمحسنات البديعية اللفظية، فإنه خال عنها، وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية، وربما عد ما يكون من المحسنات في العربية ركاكة عند الفرنسيس، مثلاً لا تكون التورية من المحسنات الجيدة الاستعمال إلا نادرًا، فإن كانت فهي من هزليات أدبائهم وكذلك مثل الجناس التام والناقص؛ فإنه لا معنى له عندهم وتذهب ظرافة ما يترجم لهم من العربية، ما يكون مزينًا بذلك، مثل قول صاحب البديعية:
ولا يمكن أن ينقل إلى لغاتهم ما قلته في نظم مصطلح الحديث:
إلى آخر قولي فيها:
وسيأتي تتميم الكلام على ذلك، وبالجملة فلكل لسان اصطلاح، واصطلاح اللغة الفرنساوية تقليل التصريف ما أمكن، وتصريف الفعل مع فعل آخر؛ مثلاً إذا أراد الإنسان أن يخبر بأنه أكل فإنه يقول: أملك مأكولاً، يعني لا يمكن تصريف (أكل) في بعض أحواله إلا مع فعل الملك أو التلبس، فكأنه يقول: تلبست بالأكل. وإذا أراد أن يقول: خرجت، يقول: أنا أكون مخرجًا، يعني: خرجت وهكذا يسمي فعل الملك، وفعل الكينونة: فعلين مساعدين؛ يعني أنهما يعينان على تصريف الأفعال، ويتجردان عن معناهما الأصلي، وإذا أرادوا تعدية الفعل قالوا: فعلت له الأكل، يعني جعلته يأكل، أو أكلته، وفعلت له الخروج، يعني أخرجته وهكذا، فلا يمكنهم تصريف الأفعال كما يمكن في اللغة العربية؛ فلذلك كانت لغتهم ضيقة من هذه الحيثية، ثم إن قواعد اللسان الفرنساوي وفن تركيب كلماته وكتابتها وقراءتها يسمى: (غرماتيقي) «واغرمير» (بتشديد الميم) عند الفرنسيس، ومعناه فن تركيب الكلام من لغة من اللغات، فكأنه يقول: فن النحو فيدخل فيه سائر ما يتعلق باللغة، كما نقول نحن: علوم العربية: وتريد بها الاثني عشر علمًا المجموعة في قول شيخنا العطار:
وبعضهم زاد البديع، وآخر استحسن زيادة التجويد، وبالجملة فباب الزيادة والنقص فيها مفتوح؛ إذ حصرها وتقسيمها في ذلك جعلي لا حصري.
والظاهر أن هذه العلوم جديرة بأن تسمى مباحث علم العربية فقط، فكيف يكون كل من الشعر والقريض والقافية علمًا مستقلاً برأسه، وكل من النحو والصرف والاشتقاق علمًا برأسه، وانظر ما المراد بالتاريخ وبكونه من العلوم العربية مع أن أول من ألف فيه علماء اليونان، وأول ما ظهر في هذا الفن كتب «أوميروس» في واقعة يكون المراد بالتاريخ طريقة إنشاء تواريخ الحوادث السنوية على أسلوب حساب الجمل، فيكون أيضًا تسميته علمًا من قبيل التوسع في تعريف العلم، وعلم الخط قديم أيضًا؛ فالإفرنج يدخلون هذه المباحث في علم تركيب الكلام، بل ويعدون منه المنطق والوضع والمناظرة.
وقال آخر:
فلا شك أن لسان العرب هو أعظم اللغات وأبهجها:
ولله در من قال:
بسم الله المبدئ المعيد، الحمد لله العالي المتعالي، الذي له الأسماء الحسنى، ولا يخالط صفاته عن وجل من صفات المخلوق شيء أقصى ولا أدنى، العليم الذي ليس لعلمه نهاية، والحكم الحكيم الذي حكمه وحكمته وراء كل حد وغاية، لا يحصر لاهوت وجوده زمان ومكان، ولا يشوب صفاء جبروته شائبة زيادة ولا نقصان. مسبب الأسباب الذي لا يتحرك في أطراف الأرض والسماء متحرك إلا بقدرته وإرادته، ولا يتكلم في أكناف الآفاق متكلم إلا بإلهامه وإفادته، أحمده حمد من اعترف بتقصير فهمه، وضعف عقله فهداه برحمته وتوفيقه إلى تحصيل بعض العلوم والفنون، وأشكر له شكر من كان يخبط في ظلام الجهل فأخرجه برأفته وتأييده إلى فضاء الرشد ونور التمييز، حتى عرف الحق اليقين من أباطيل الظنون، ثم أتوسل إليه — سبحانه وتعالى — بأنبيائه المرسلين، وأوليائه المقربين. الذين كل واحد منهم كالغُرة على جبهة الدهر، وكالتاج على مفرق العصر، وأسأله — عز وجل — أن يجعلني من عباده المهتدين، الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، إنه على كل شيء قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير.
أما بعد: لما فضل الله جنس الناس على سائر المبتدعات بفوائد الأفهام، واختص بني آدم من بين أصناف الحيوانات بكرامة الكلام، بعث في كل أمة من الأمم من يكون في تمهيد قواعد البلاغة واستنباط أحكام شريعتها معروفًا مشهورًا، ويصير لسانك طريقة الفصاحة إمامًا ودستورًا، فممن اشتهر بذلك بين الأنام، وصار المشار إليه في هذا الباب عند أهل الإسلام، مؤلف المقامات المشهور بالحريري، وهو الشيخ الإمام أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري الذي ازدرى من كان قبله من الأدباء والفصحاء، وأجهد من جاء بعده من الظرفاء والبلغاء، فأتى لما رأيت أن كتابه المذكور، لم يزل مذ ألفه إلى يومنا هذا لعلم الأدب كالعلم المشهور، يحسبه الخاصة والعامة واسطة عقده، وخلاصة نقده، ويعتقدونه نور مصباحه، وضياء صباحه، بل لا يشك أحد منهم أنه أزهار بستانه، وأثمار جنانه، وزلال مائه، ونسيم هوائه، أحببت أن أشرحه شرحًا متوسطًا بين الإيجاز والتطويل، أكشف الغطاء عن مشكلاته ومجملاته بالتفسير والتفصيل.
وقد شرح المقامات الحريرية من علماء المشرق والمغرب كثير، وذكرهم الحاج خليفة في كتابه المسمى: «كشف الظنون» عن أسامي الكتب والفنون، وما وصلت يدي إليه من مؤلفاتهم شروح أربعة منها «غريب الإيضاح في غريب المقامات الحريرية» للإمام برهان الدين أبي الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي الخوارزمي، المتوفى سنة عشر وستمائة، وهذا الشرح مع وجازته كتاب مفيد محصل للمقصود.
والمطرزي كانت له معرفة تامة بالنحو وباللغة والشعر وأنواع الأدب، وهو صاحب كتاب «المغرب» تكلم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب.
ومنها كتاب «شرح ما غمض من الألفاظ اللغوية، من المقامات الحريرية» تأليف الشيخ محب الدين عبد الله بن الحسين العكبري البغدادي المتوفى سنة عشر وستمائة، قال: إني رأيت المقامات الحريرية مشحونة بالألفاظ اللغوية، وهي أحد الكتب التي عني بها علماء العربية، ودعاني ذلك إلى تفسير ما غمض من ألفاظها على الإيحاز، وقد كنت عثرت لبعض الناس على شيء من ذلك إلا أنه أسهب بما لا يحتاج إليه، وربما فسر اللفظة بغير ما قصد منشئها.
ومنها «شرح المقامات» للأستاذ اللغوي النحوي أبي العباس أحمد بن عبد المؤمن بن موسى القسي الشريشي المتوفى سنة تسع عشرة وستمائة، وهو شرح طويل، ذكر الشريشي أنه لم يترك في كتاب من شروح المقامات فائدة إلا استخرجها، ولا عائدة إلا استدرجها، ولا نكتة إلا علقها، ولا غريبة إلا استحلقها، حتى صار شرحه تأليفًا في المقامات يغني عن كل شرح تقدم فيها، ولا يحوج إلى سواه في لفظة من ألفاظها، ولا معنى من معانيها، وقد أخذ شيئًا كثيرًا من شرح ابن ظفر الصقلي صاحب كتاب «سلوان المطاع» في عدوان الأتباع المتوفى بمدينة حماة سنة خمس وستين وخمسمائة.
ومن شرح الفندهجي، وهو الشيخ الإمام تاج الدين أبو سعيد محمد بن سعادات عبد الرحمن بن محمد الخراساني المروزي الفندهجي، وقيل: البندهجي، المتوفى بمدينة دمشق سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
هذا ما كان لي من شروح المقامات، وقد اجتمع عندي أيضًا نسخ ست من كتاب المقامات بلا شرح، غير أن أكثرها يوجد به من التعليقات والحواشي ما ينتفع به القارئ، وقد اخترت من تلك الشروح والحواشي كل ما يحتاج إليه طالب العلم في تحصيل المقصود، ويستعين به الراغب في الأدب، على إدراك المطلوب، ثم أضفت على ذلك شيئًا كثيرًا نقلته من كتب أئمة النحو واللغة، ومن مجمع الأمثال، للعلامة الميداني، وكتاب وفيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، ثم من ديوان البحتري، ومن ديوان المتنبي، وشرح المعلقات للزوزني، وغير هذا من كتب الأدب كل ذلك ليتيسر على من أعجبه الغوص في بحار اللغات العربية أن يظفر من دررها بكل يتيمة عقيلة، وليسهل على المولع بغرائب العلوم الأدبية المشرقية أن يصل من جواهر معادنها إلى كل فلذة ثمينة جزيلة، وإنما المرجو ممن نظر في هذا الشرح المختار أن لا يؤاخذني على ما ظهر عليه من العثرات، بل أن يستر بذيل كرمه ما استبان له من العورات، والله أسأله أن يجعل هذا الكتاب لمن تصفحه من أهل الشرق والغرب نافعًا مفيدًا، ولجميع من أسرع إلى مورده من أبناء جنسنا ومن غير جنسنا هنيئًا مريئًا حميدًا انتهى كلامه.
وقال في المقدمة الفرنساوية لهذا الكتاب: إن المقامات البديعية تفضل المقامات الحريرية.
وقد ترجم إلى الفرنساوية عدة مقامات من الاثنتين في مجموعة: كتاب الأنيس المفيد، للطالب المستفيد، وجامع الشذور، من منظوم ومنثور، وبالجملة فمعرفته خصوصًا في اللغة العربية مشهورة، مع أنه لا يمكنه أن يتكلم بالعربي إلا بغاية الصعوبة، وقد رأيت له في بعض كتبه توقيفات عظيمة، وإيرادات جليلة، ومناقضات قوية، وله اطلاع عظيم على الكتب العلمية المؤلفة في سائر اللغات، وسبب ذلك كله تمكنه من لغته بالكلية، ثم تفرغه بعد ذلك لمعرفة اللغات شعر:
هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي الحكيم الفيلسوف، فيلسوف الإسلام الماهر الباهر، قدم على سيف الدولة بن حمدان، وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع العلوم، فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك، وكان ذلك عادته فوقف بين يديه، فقال له سيف الدولة: اجلس، فقال: حيث أنت أو حيث أنا؟ فقال: حيث أنت. فتخطى رقاب الناس، حتى انتهى إلى مجلس سيف الدولة وزاحمه في مسنده حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان يسارهم به قلّ أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يعرف بها فأخرجوه، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر، فإن الأمور بعواقبها، فتعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان؟ فقال: نعم، أحسن أكثر من سبعين لسانًا، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، ولم يزل كلامه يعلو. وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقول، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا عابه أبو نصر، وقال له: أخطأت فقال له سيف الدولة: فهل تحسن في هذه الصنعة شيئًا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، ففتحها، وأخرج منها عيدانًا فركبها، ثم لعب بها، فضحك كل من في المجلس ثم فكها، وركبها، ولعب بها، فبكى من في المجلس، ثم فكها، وركبها، ولعب بها، فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج!
وكان أزهد الناس في الدنيا متقللاً منها أجرى عليه سيف الدولة في كل يوم أربعة دراهم، ومن شعره:
ومنه:
ثم إن الفنون باللغة الفرنساوية قد بلغت درجة أوجها حتى إن كل علم فيه قاموس مرتب على حروف المعجم في ألفاظ العلوم الاصطلاحية، حتى علوم السوقة، فإنها لها مدارس كمدرسة الطباخة، يعني مجلس علماء الطباخة وشعرائها، وإن كان هذا من أنواع الهوس، غير أنه يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة وسواء في ذلك الذكور والإناث، فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها، منهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة، ومن هنا يظهر لك أن قول بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله، وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها.
ثم العلوم الأدبية الفرنساوية لا بأس بها، ولكن لغتها وأشعارها مبنية على عادة جاهلية اليونان وتأليههم ما يستحسنونه، فيقولون مثلا: إله الجمال، وإله العشق، وإله كذا، فألفاظهم في بعض الأحيان كفرية صريحة وإن كانوا لا يعتقدون ما يقولون، وإنما هذا من باب التمثيل ونحوه. وبالجملة فكثير من الأشعار الفرنساوية لا بأس به، ولنذكر لك شيئًا من بعض أشعارهم مترجمة من كلام بعضهم للعبد الفقير:
وقوله مترجمًا لي:
ومن القصيدة المسماة: «نظم العقود، في كسر العود»، للخواجة يعقوب المصري منشئًا، الفرنساوي استيطانًا، وقد اعتنيت بترجمتها سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين: وأخرجتها من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام قول صاحبها ونظمه للعبد الفقير:
وبعد هذا بعدة أبيات، تخلّص الشاعر إلى ذم العشق وتوابعه، فقال:
وقال يذم نفسه ويوبخها على العزم على فراق محبوبته، لا سيما وهي تتأذى من فراقه:
وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن في الترجمة تذهب بلاغتها، فلا تظهر علو نفس صاحبها، ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حس، بل ربما صارت باردة، وسيأتي تتميم الكلام على غالب الآداب الفرنساوية والعلوم والفنون.