القياس المنطقي والطاو
«لكي تكمش شيئًا، أنت بحاجة إلى أن تبسطه أولًا؛ ولكي تُضعِف شيئًا، أنت بحاجة إلى أن تقوِّيه أولًا؛ ولكي تمحو شيئًا، يلزم أن تجعله يزدهر أولًا، ولكي تأخذ شيئًا، يلزم أن تعطيه أولًا.»
أكثر من بليون نسمة في عالم اليوم يدَّعون أنهم حملة التراث الفكري لليونان القديمة. وأكثر من بليونين هم ورثة التقاليد الصينية القديمة في الفكر. وواضح أن فلسفات وإنجازات الإغريق والصينيين منذ ٢٥٠٠ سنة كانت مختلفة بعضها عن بعض اختلافًا بينًا، بقدر ما اختلفت أيضًا الهياكل الاجتماعية والمفاهيم. وآمل في هذا الباب أن أبين الجوانب الفكرية لكل مجتمع، لتبدو مفهومة في ضوء خصائصه الاجتماعية.
(١) الإغريق القدامى والفعالية
يوجد في بلدة إبيدوروس في اليونان مسرح قديم يتسع لأربعة عشر ألف متفرج. بُني المسرح على سفح تل، ويحيط به منظر رائع لجبال وأشجار سرو، ومجهز بأدوات سمعية بحيث من الممكن أن تسمع حفيف ورقة تسقط على منصة المسرح من أي موقع كان داخل المسرح. واعتاد الإغريق في عصرهم الكلاسيكي القديم، منذ القرن السادس وحتى الثالث قبل الميلاد، أن يسافروا لفترات طويلة، على الرغم من قسوة الظروف، رغبةً منهم في مشاهدة مسرحيات أو الاستماع إلى قصائد من الشعر في إبيدوروس، ابتداء من الفجر وحتى الغسق، لأيام طويلة، وهم جالسون صفوفًا.
ويبدو لنا اليوم أن عشق الناس للمسرح، ورغبتهم في تحمُّل بعض المشاقِّ في سبيل إشباع هوايتهم؛ ليسا بالأمر الغريب المثير. ولكن إذا تأملنا الحضارات الكبرى في عصرنا، ومن بينها الفارسية والهندية والشرق أوسطية، وكذا الصين؛ نجد أن بالإمكان أن نتصور أن الإغريق هم الذين يشعرون بأنهم على قدر كافٍ من الحرية، وقدر كافٍ من الثقة من حيث القدرة على التحكم في حياتهم، وأن يقطعوا مسافات طويلة وفاءً لغرض واحد ووحيد، وهو الاستمتاع الجمالي. لقد عاش معاصرو الإغريق في ظل مجتمعات حكم فردي مطلق «أوتوقراطي»، وإن تباينت درجاته، حيث كانت إرادة الملك هي القانون، وأن الخروج عليها يعني الحكم على من تحدى إرادته بالإعدام. ولم تكن من مصلحة الحاكم أن يسمح لرعاياه بأن يطوفوا داخل الأقاليم، حتى إن كانت روابط رعاياه بالأرض والنُّظم الروتينية الزراعية قد سمحت لهم بأن يتخيلوا أنفسهم وقد سافروا في رحلات طويلة لأغراض الترويح.
وإن ما يثير الدهشة بالقدر نفسه، حتى بالنسبة إلينا اليوم، أن أمة الإغريق عن بكرة أبيها اعتادت أن تلقي أدوات العمل جانبًا — بما في ذلك أن تلقي السلاح إذا ما كانت الدول المدن في حرب بعضها مع بعض — حتى تُتاح لها فرصة المشاركة في الأولمبياد، سواء كأبطال رياضيين أو جمهور مشاهدين.
والحقيقة أن الإغريق دون الشعوب القديمة جميعها، بل دون غالبية شعوب الأرض الآن، يتمتعون بحس قوي بالفعالية الشخصية، الإحساس بأنهم مسئولون عن حياتهم، وأحرار في العمل حسب اختيارهم. ونجد أن أحد تعريفات السعادة عند الإغريق هو أنها تتألف من قدرة المرء على ممارسة إمكاناته وقدراته لتحقيق التميز والكمال في صورة حياة لا تعرف الضغوط والقيود.
واقترن الحس الإغريقي بالفعالية الشخصية بحس قوي بالذاتية الفردية. وسواء أكان الإغريق أم العبريون هم الذين ابتكروا النزعة الفردية — وهو موضوع خلافي — إلا أنه مما لا شك فيه أن الإغريق رأَوا أنفسهم أفرادًا متفردين لهم صفاتهم وأهدافهم المتميزة. ويَصدُق هذا على أقل تقدير بالنسبة إلى عصر هوميروس في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد. ونلحظ أن كلًّا من الأرباب والبشر في الأوديسة والإلياذة لهم شخصياتهم التي اكتملت صورتها واكتمل تفردها. علاوة على هذا، كانت الفوارق بين الأفراد موضوعًا ذا أهمية جوهرية في نظر فلاسفة الإغريق.
وأدى حس الإغريق بالفعالية إلى إذكاء تراث من جدل حامي الوطيس. ويوضح لنا هوميروس أن الإنسان إنما تحدده قدرته على الجدل بالقدر نفسه الذي تحدده فيه براعته القتالية كمحارب. إن عضو مجلس العموم عليه أن يتحدى أي إنسان حتى إن كان الملك، ولا يقنع بالعيش ليروي حكاية، ولكنه ينتزع بين الحين والحين الجمهور إلى صفه. وجرت المعارك الجدلية في الميدان العام، وفي الجمعية السياسية، بل في الثكنات العسكرية. وإن ما تفردت به الحضارات القديمة أن القضايا الكبرى للدولة، وكذا المسائل العامة، كانت موضوعًا للمناقشة العامة ولاتخاذ قرار بشأنها بين الجمهور، وتدور معارك خطابية بلاغية دون فرض سلطة علوية. ولم تعرف بلاد الإغريق الطغاة كثيرًا، وإذا حدث أن استولى طاغية على السلطة سرعان ما تبدِّله طبقة الأغنياء «الأوليجاركية» أو الديموقراطيات، ابتداء من القرن الخامس ق.م. وتوافرت لدساتير بعض المدن آليات للحيلولة دون أن يصبح رجال الحكم طغاة، مثال ذلك أن مدينة دريروس في كريت حظرت على شخص ما تولِّي منصب «كوسموس»، أي: حاكم مدينة، إلا بعد مضي عشر سنوات منذ توليه آخر منصب له.
ومن الأمور المثيرة أيضًا بالقدر الذي أثارنا به عشق الإغريق للحرية والفردية إحساسهم بالفضول المعرفي إزاء العالم. ذهب أرسطو إلى أن الفضول المعرفي هو الخاصية الفريدة التي تحدد البشر. وقال القديس لوقا عن الأثينيين في فترة لاحقة: «يقضون وقتهم في رواية جديد أو الاستماع إلى جديد فقط، ولا شيء آخر.» ويختلف الإغريق اختلافًا شاسعًا عن معاصريهم من حيث عشق تأمل طبيعة العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه، وابتكروا نماذج له، وصاغوا هذه النماذج على أساس التصنيف الفئوي للأشياء والموضوعات والأحداث، وتوليد قواعد وقوانين لها اتسمت بدقة كبيرة تكفي لوصفها وتفسيرها على أساس نسقي. وحدد هذا خصائص ما أنجزوه من تقدم في مجالات — وقال البعض ما ابتكروه من مجالات — الفيزياء والفلك وهندسة البدهيات، والمنطق الصوري، والفلسفة العقلية، والتاريخ الطبيعي والإثنوجرافيا.
(٢) الصينيون القدامى وعقيدة التناغم
والتناغم هو المقابل الصيني للفعالية عند الإغريق؛ إذ إن كل صيني هو أولًا وقبل كل شيء عضو في جميع أو في عديد من الجمعيات؛ العشيرة والقرية، ثم الأسرة بخاصة. ولم يكن الفرد، كما هي الحال عند الإغريق، وحدة لها كيانها وذاتيتها المتفردة وسط أوضاع اجتماعية، وإنما كان كما عبر الفيلسوف هنري روزمونت: «… لم يكن عند الكونفوشيين القدامى الأنا المنعزلة المستقلة التي يمكن التفكير فيها مجردة: أنا جماع الأدوار التي أحياها في علاقة مع آخرين محددين … وإذا نظرنا إلى هذا على نحو جمعي فإنهم ينسجون لكلٍّ منا نمطًا فريدًا لذاتية شخصية، بحيث إذا ما تغير بعض أدواري سوف يتغير الآخرون بالضرورة، مما يجعلني حرفيًّا شخصًا آخر.»
وكان اهتمام الصينيين بقضايا التحكم في الآخرين أو في البيئة أقل من اهتمامهم بالتحكم في النفس، ومن ثم الوصول إلى أدنى حد ممكن من الاحتكاك والتشاحن مع الآخرين داخل الأسرة وفي القرية، وبذا يكون أيسر على المرء الطاعة والإذعان لمتطلبات الدولة وطاعة أولي الأمر من الحكام. ولم يكن المثل الأعلى للسعادة، كما كانت الحال عند الإغريق، حياة تسمح بالممارسة الحرة لمواهب متميزة، بل إشباع متطلبات صريحة للبلد، ومشتركة بين الجميع على نحو متناغم داخل شبكة اجتماعية. وبينما تعرض زهريات الإغريق وأقداح النبيذ صورًا لمعارك ومباريات رياضية، ولحفلات سكر وعربدة؛ نجد الرسوم وأواني الخزف الصينية تصور مشاهد لأنشطة الأسرة وملذات ريفية.
وما كان للصينيين أن يشعروا بأنهم إمعات لا حول ولا طول لهم عند سادة لهم أو بين أبناء الأسرة، وإنما نجد العكس تمامًا؛ إذ كان لديهم حس بالفعالية الجمعية. إن المنظومة الأخلاقية الرئيسية في الصين، وهي الكونفوشية، هي في جوهرها منظومة محكمة التعبير عن الالتزامات المتبادلة بين الإمبراطور والرعية، وبين الأبوين والابن، وبين الزوج والزوجة، وبين الأخ الأكبر والأخ الأصغر، وبين الصديق والصديق. صاغ المجتمع الصيني الفرد بحيث يشعر بأنه حقًّا، وإلى حد كبير، جزء من كيان اجتماعي حميد سمح، كبير الحجم، معقد التركيب، حيث الالتزامات والواجبات المتبادلة الواضحة تمثل مرشدًا وهاديًا للسلوك الأخلاقي القويم. ويتمثل جوهر الحياة اليومية الصينية في أداء الأدوار المحددة للمرء داخل منظومة تراتبية محكمة التنظيم. ولم يعرفوا نظيرًا للحس الإغريقي بالحرية الشخصية. وكانت الحقوق الفردية في الصين هي «مشاركة» المرء في حقوق المجتمع في مجمله، وليست امتيازًا أو إجازة للمرء لكي يعمل ما يحلو له.
إن أي شكل من أشكال المواجهة أو الجدل داخل أي وحدة اجتماعية لم يكن يصادف تشجيعًا. حقًّا عرفت الصين عصرًا يُسمَّى عصر «المدارس المائة»، امتد من عام ٦٠٠ق.م. حتى عام ۲٠٠ق.م.، وشهد هذا العصر جدالًا رفيع المستوى دار بين الفلاسفة على أقل تقدير، كما أن أي مظهر للشقاق الاجتماعي لم يصادف تشجيعًا. وكتب فيلسوف العلم البريطاني جيوفري لويد فقال: «نجد في الفلسفة وفي الطب وفي أي مجال آخر نقدًا لوجهات النظر الأخرى … (ولكن) الصينيين كانوا أكثر تقبلًا وسماحة من الإغريق؛ إذ يرَون أن الآراء الأخرى لديها شيء تقوله لهم …»
إن موسيقاهم أحادية الصوت تعكس اهتمام الصين بالوحدة. ونلحظ أن المغنين يغنون جميعًا لحنًا واحدًا، وتعزف الآلات الموسيقية نغمات واحدة في الوقت نفسه، ومن ثم لا غرابة إذ نجد أن الإغريق هم الذين ابتكروا الموسيقى المتعددة الأصوات «البوليفونية»، حيث نجد أدوات مختلفة وأصواتًا مختلفة تشارك معًا في أدوار مختلفة لكل منها.
واختلف النهج الصيني في فهم العالم الطبيعي عن نظيره لدى الإغريق، مثلما اختلف نهجهم لفهم ذواتهم. اعتقد الصينيون في فترة باكرة من تاريخهم، وقتما عمدوا إلى دراسة السموات، أن الأحداث الكونية، من مثل الشهب والخسوف والكسوف، يمكن أن تكون نبوءة بوقائع مهمة سوف تشهدها الأرض، من مثل ميلاد أباطرة. ولكنهم بعد أن اكتشفوا الاطراد المنتظم لهذه الأحداث عزفوا عن الاهتمام بها، ناهيك عن بناء نماذج منها.
ولكن نقول ما قاله الفيلسوف هاجيمي تاكامورا: إن الإنجازات الصينية المتقدمة تعكس عبقرية الممارسة العملية، وليس الولع بالنظرية العلمية والبحث العلمي. وقال في هذا الصدد الفيلسوف دونالد مونرو، المتخصص في الدراسات الصينية: «لا نجد في الكونفوشية فكرًا عن معرفة لا تستلزم عملًا يترتب عليها.»
(٣) الجوهر أم التلاشي؟
وعلى الرغم من أن أرسطو لم يُضفِ واقعية على الصور، إلا أنه ذهب إلى أن الصفات لها حقيقتها الواقعية المتمايزة عن تجسداتها العيانية في الموضوعات. ورأى أن من المجدي ألا نَقصُر كلامنا على موضوع صلب، بل أن يشمل الصفات في المجرد — الصلابة والبياض … إلخ — وأن تتوافر لنا نظريات عن هذه المجردات. إن الخواص المركزية والأساسية التي تشكِّل شرطًا ضروريًّا لوجود موضوع ما إنما قوامها «جوهر» هذا الموضوع أو الشيء، وهو الجوهر الثابت الذي لا يتغير حسب تعريفه؛ إذ لو أن جوهر موضوع ما تغير فإنه بذلك يكف عن أن يكون هو عين الموضوع، وإنما يكون شيئًا آخر. وإن خواص موضوع ما حين يطرأ عليها تغير من دون أن تغير جوهر الموضوع تُسمَّى خواص «عرَضية». مثال ذلك مؤلف موسيقي تعوزه الآن على نحو مؤسف الموهبة الموسيقية، ولكنه إذ يصبح فجأة موسيقيًّا موهوبًا فإننا، على الرغم من هذا التغير، سنظل نفكر في أنه هو الشخص عينه. معنى هذا أن الموهبة الموسيقية خاصية عرضية، وأن التغير الذي طرأ ليس تغيرًا في جوهر الشخص. وها هنا تختلف الفلسفة الإغريقية كثيرًا عن الفلسفة الصينية، من حيث إنها كانت معنية في الأساس بمسألة حقيقة الخواص التي تجعل من الموضوع هو ذاته، وأي الخواص عرضة للتغير من دون أن تغير طبيعة الموضوع.
ولكن لا يزال الشيء الأساسي الأهم بالنسبة إلى الفلسفة الإغريقية هو مخططها الذي يمثل قاعدة خلفية للتفكير، وهو النظر إلى الموضوع «في استقلال»، باعتبار هذا هو المحور الصحيح للانتباه والتحليل. اعتادت الغالبية العظمى من الإغريق النظر إلى المادة باعتبارها وجودًا منفصلًا متجزئًا — مؤلفًا من موضوعات غير مترابطة — تمامًا شأن البشر؛ إذ يرَونهم منفصلين بعضهم عن بعض، ونعتبرهم كليات متمايزة. ولا نكاد نتخذ الموضوع نقطة انطلاق حتى تتداعى أمور كثيرة تلقائيًّا؛ صفات الشيء تبدو واضحة بارزة، وتصبح الصفات قاعدة لتصنيف الموضوع، وتصبح المقولات، أي: الفئات، التي نصنف إليها الشيء هي الأساس لبناء قاعدة أو قانون، ونفهم الأحداث بعد هذا باعتبارها نتائج لسلوك الموضوعات وفقًا للقواعد والقوانين، وأعني هنا بكلمة «الموضوعات» كل ما هو بشري وغير بشري، هذا على الرغم من أن طبيعة العالم الفيزيقي كانت في الحقيقة من أهم ما يشغل بال فلاسفة الإغريق. حقًّا عُني الإغريق بالعلاقات الإنسانية وبالسلوك الأخلاقي، ولكن لم تكن لهما الصدارة مثلما كانا في نظر الصينيين.
وجه آخر مميز ولكنه مهم في الفلسفة اليونانية، وهو فكرة تفيد بأن العالم في أساسه سكوني «استاتيكي» غير متغير. حقًّا إن هيرقليطس، فيلسوف القرن السادس ق.م.، وغيره من قدامى الفلاسفة أبدَوا اهتمامًا بالتغير (المرء لا ينزل النهر نفسه مرتين؛ لأن الإنسان مختلف والنهر مختلف)، ولكن مع حلول القرن الخامس أصبح التغير غير ذي موضوع، والثبات هو الفكرة السائدة. و«برهن» بارمنيدس، بخطوات يسيرة محدودة، على أن التغير مستحيل. قولنا إن شيئًا ما غير موجود عين التناقض. اللاوجود تناقض ذاتي؛ ولذلك فإن العدم-اللاوجود لا يمكن أن يكون موجودًا. وإذا كان العدم لا يكون موجودًا، إذن لا شيء يمكن أن يتغير؛ ذلك لأنه إذا افترضنا أن الشيء «۱» سيتغير إلى الشيء «۲»، إذن فإن الشيء «۱» لن يكون موجودًا! وفرض بارمنيدس خيارًا أمام فلاسفة الإغريق؛ عليهم أن يثقوا إما في المنطق أو في أحاسيسهم. والتزموا جانب المنطق منذ أفلاطون فصاعدًا.
وأثبت زينو تلميذ بارمنيدس، بطريقة مماثلة، أن الحركة مستحيلة. وأوضح هذا من خلال برهانين؛ أحدهما برهان اشتهر به باسم برهان السهم. إن السهم لكي يصل إلى هدفه يلزم أولًا أن يقطع نصف المسافة على الطريق إلى الهدف، ثم نصف النصف، أي: من موقع هذا النصف وحتى الهدف، ثم نصف المسافة بين هذا الموقع والهدف … وهكذا دواليك. ولكن توالي الأنصاف على هذا النحو يعني، بطبيعة الحال، أن السهم لن يصل إلى الهدف. وهكذا ينتهي بنا البرهان البصري إلى النقيض، بما يعني أن الحركة لا تحدث. أما «البرهان» الآخر فكان أبسط. الشيء إما أن يكون أو لا يكون في مكانه. إذا كان في مكانه فإنه لا يمكنه أن يتحرك؛ إذ من المستحيل أن يكون شيء في مكانه، ولذلك لا شيء يتحرك. ويقول في هذا الصدد عالم الاتصالات روبرت لوجان: «أصبح الإغريق عبيدًا للمسار الخطي لمنطقهم، أي: أسرى توجُّه إما-أو في المنطق.»
لم يكن جميع فلاسفة الإغريق مجادلين مماحكين بالمنطق للبرهنة على استحالة التغير، ولكن ثمة خاصية سكونية «استاتيكية» حتى في التفكير العقلي عند أرسطو. اعتقد أرسطو على سبيل المثال أن جميع الأجرام السماوية ثابتة لا تتحرك، إنها كرات سماوية كاملة الوجود، وأنه على الرغم من أن الحركة تقع والأحداث تجري، إلا أن جوهر الأشياء هو عدم التغير. علاوة على هذا، إن الفيزياء عند أرسطو مغرقة في المسار الخطي للتفكير. والملاحَظ أن تغير معدل الحركة، ناهيك عن الحركة الدورانية، ليس لها دور كبير في الفيزياء عند أرسطو (وهذا هو السبب، جزئيًّا، في أن فيزياء أرسطو كانت خاطئة مضللة). وأذكر هنا أن جوردون كين، وهو عالم فيزياء صديق لي، حدد لي عددًا كبيرًا من قضايا الفيزياء في كتابات أرسطو، وأكد خطأ الغالبية الساحقة منها، وهذا شيء محير بخاصة؛ لأن فلاسفة أيونيا السابقين على أرسطو رأَوا صواب كثير منها.
وتشكل التوجه الصيني إزاء الحياة بفضل مزيج من ثلاث فلسفات مختلفة؛ الطاوية والكونفوشية، ثم بعد فترة طويلة البوذية. وأكدت كل من هذه الفلسفات التناغم، وأعاقت كثيرًا التأمل الفكري المجرد.
وثمة قصة صينية قديمة لا تزال شائعة في شرق آسيا حتى اليوم. وهي تحكي قصة فلاح عجوز هرب حصانه الوحيد، ونظرًا لأن جيرانه يعرفون أن الحصان عماده الأساسي في حياته؛ فقد توافدوا عليه لمواساته. وقال الشيخ تعبيرًا عن رفضه لتعاطفهم معه: «من يعرف منا أين الخير وأين الشر؟» ولكن بعد بضعة أيام عاد حصانه، مصطحبًا معه حصانًا بريًّا، وتوافد أصدقاء العجوز مهنئين له، وعبر العجوز عن رفضه لتهانيهم قائلًا: «من يعرف منا أين الخير وأين الشر؟» ولم يمضِ سوى بضعة أيام حتى حاول ابن الرجل العجوز أن يمتطي ظهر الحصان البري حتى أطاح به من فوق ظهره وانكسرت ساقه. وتوافد الأصدقاء تعبيرًا عن حزنهم لمأساة الابن، فقال العجوز: «من منا يعرف أين الخير وأين الشر؟» ومضت أسابيع محدودة، وأتى بعض رجال الجيش إلى القرية لتجنيد جميع القادرين من الرجال إجباريًّا لخوض حرب ضد مقاطعة مجاورة، وطبيعي أن لم يكن ابن العجوز لائقًا للخدمة، وأُعفيَ منها.
وتمضي القصة طويلة بقدر ما يسمح صبر جمهور المستمعين. وتعبر عن موقف أساسي لدى الشرقيين من الحياة؛ العالم دائم التغير وزاخر بالمتناقضات. ونحن لكي نفهم ونقيم وصفًا ما فإن هذا يستلزم وجود نقيضه، وإن ما يبدو لنا حقًّا الآن ربما يكون نقيضًا لما بدا لنا في ظاهره أول الأمر.
العودة — التحرك في دورات لا نهائية — هي النمط الأساسي لحركة الطاو.
وعلاوة على تعاليم الطاوية بشأن التناقض والتضاد والتحول والدورات، فقد دعمت ودعت إلى التقدير العميق للطبيعة وللحياة الريفية وللبساطة. إنها ديانة التعجب دهشة، والسحر والخيال، وأضفت على الكون معنًى من خلال تفسيرها للحلقات التي تربط الطبيعة بشئون البشر.
ولقد كان كونفوشيوس، الذي عاش من ٥٥١ق.م. وحتى ٤٧٩ق.م.، فيلسوفًا أخلاقيًّا أكثر منه زعيمًا دينيًّا. واهتم أساسًا بالعلاقات الصحيحة بين الناس، وهي في مذهبه علاقات تراتبية هرمية، وحرص على توضيحها بجلاء. وأشار إلى أن كل عضو داخل العلاقة الثنائية أو الزوجية المهمة (زوج-زوجة … إلخ) عليه التزامات واضحة ومحددة تجاه الآخر.
ووُصفت الكونفوشية بأنها عقيدة الحس العام، وتؤكد على أنصارها الالتزام جديًّا بمبدأ الوسط الذهبي — عدم الإفراط في أي شيء — وأن نفترض أن بين أي موقفين متعارضين، وبين أي شخصين متنافسين؛ توجد الحقيقة على الجانبين. ولكن الكونفوشية في الحقيقة، شأن الطاوية، كانت أقل اهتمامًا بالبحث عن الحقيقة في شكلها المجرد، وإنما أكثر اهتمامًا بالطاو — الطريق أو السبيل — للحياة في العالم.
وتؤكد الكونفوشية على الرفاه الاقتصادي والتعلم. المرء يعمل لا من أجل منافع ذاتية، بل من أجل أسرة بأكملها. ونجد في الحقيقة أن مفهوم التقدم الذاتي، كنقيض للتقدم الأسري، مفهوم غريب على الثقافات التي أُشربَت التوجه الكونفوشي. إن شابًّا واعدًا كان من المتوقع له أن يدرس استعدادًا لاجتياز امتحان يؤهله لكي يشغل وظيفة حاكم لبلدة، ومن المفترض أنه إذا ما نجح فسوف تفيد كل أسرته اقتصاديًّا من وضعه الجديد. وجدير بالذكر أن الصين — على عكس غالبية بلدان العالم حتى عهد قريب في عصرنا الحديث — شهدت حراكًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا مهمًّا. وإن كل من امتد به العمر شاهد أسرًا تنهض وترتقي درجات أعلى مما كان عليه وضعها في الأصل، بينما انخسف آخرون إلى درجات أدنى. ولعل أحد أسباب ذلك أن الكونفوشيين آمنوا دائمًا بقابلية الطبيعة البشرية للتطويع ومرونة التغيير، على عكس المثقفين ورثة الفكر الأرسطي.
وامتزجت الكونفوشية في هدوء وسلاسة بالطاوية. وتبنَّت الفلسفة الكونفوشية بوجه خاص التقدير العميق للتناقضات والتحولات في الحياة البشرية، وكذا الحاجة إلى النظر إلى الأشياء في مجموعها باعتبارها كلًّا واحدًا، وهي جزء متكامل من صميم فكرة كون أو عالم اليانج-الين، لكن الأفكار السائدة عن الطبيعة والحياة الريفية أنها أكثر ارتباطًا بالطاوية منها بالكونفوشية، كما أن أهمية الأسرة والتقدم في التعليم وفي الحياة الاقتصادية جزء متكامل مع الكونفوشية. وتنعكس هذه الفوارق الفكرية في الرسوم على المصنوعات الخزفية واللوحات الفنية. ونلحظ أن الأفكار المستوحاة من الطاوية يمكن أن تشتمل على صورة صياد أو حطَّاب أو شخص متوحد جالس تحت ظلال الأشجار. لكن الأفكار المستوحاة من الكونفوشية نراها تتمركز حول الأسرة، وتشتمل على صور لجمهرة من ناس مختلفي الأعمار منهمكين معًا في أنشطة مشتركة. إن الناس على اختلاف مشاربهم في الصين القديمة، وكذا في الصين المعاصرة، وللسبب نفسه، ربما ينزعون إلى التأكيد على توجه بذاته من دون سواه. وهذا على الأرجح يكون جزئيًّا رهن الموقف من الحياة والوضع القائم. وثمة قول مأثور يفيد بأن كل صيني يكون كونفوشيًّا حال نجاحه، وطاويًّا حال فشله.
وفدت البوذية إلى الصين بعد مضي عدة قرون من تاريخ الفترة الكلاسيكية التي نحن بصددها. واستوعب الصينيون الجوانب الملائمة من البوذية، بما في ذلك ما كانت تفتقر إليه الفلسفة الصينية، خاصة ما يتعلق بالإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة. واتفقت التوجهات الثلاثة على الاهتمام بالتناغم (الهارموني)، والنظرة الكلية إلى الأمور، والتأثير المتبادل بين كل الأشياء في الوجود. وتفيدنا هذه التوجهات في تفسير لماذا لم تكن الفلسفة الصينية تفتقر فقط إلى مفهوم عن حقوق الإنسان، بل ولماذا أيضًا تبدو أحيانًا (على الأقل بعد أن بدأت البوذية تمارس نفوذها) اعترافًا بالعقول الفردية. وها هو كاتب من أتباع الكونفوشية الجديدة في القرن الثاني عشر يقول: «الكون هو عقلي، وعقلي هو الكون. ظهر الحكماء قبل عشرات الآلاف من الأجيال السابقة، وشاركوا هذا العقل، وشاركوا هذا المبدأ. وسوف يظهر الحكماء بعد عشرات الآلاف من الأجيال القادمة، وسوف يشاركون هذا العقل، ويشاركون هذا المبدأ.»
يشتمل النقد الأدبي الصيني على مناهج مختلفة للكتابة، يسمونها «منهج مراقبة نار عبر النهر» (عزل الأسلوب)، و«منهج حشرات اليعسوب تحوم فوق سطح الماء» (المس الخفيف)، و«منهج رسم التنين وتحديد عينيه في نقاط»، أي: «بيان وتحديد النقاط البارزة».
ويتمثل الإطار الأساسي لرؤية الصينيين طبيعة العالم في أنه كان كتلة من الجواهر/المواد، وليس تجمعًا من أشياء منفصلة متمايزة، ومن ثم فإن الفيلسوف الصيني إذ ينظر إلى قطعة خشب، فإنه يرى كلًّا واحدًا متجانسًا لا شقوق فيه، مؤلفًا من جوهر واحد أو ربما جواهر متداخلة متعددة الأنواع. ولكن الفيلسوف الإغريقي يرى الشيء مؤلفًا من جسيمات. وشهدت اليونان القديمة جدلًا واسعًا حول هل العالم مؤلف من ذرات أم من جواهر متصلة، بينما لم تُثَر هذه المسألة في الصين. لقد كانت حقبة القول بالجواهر المتصلة. وسبق أن لحظ جوزيف نيدهام، فيلسوف العلم الإنجليزي: «كان عالم الصين وسطًا، أو نسيجًا متصلًا تجري في داخله التفاعلات بين الأشياء. وتجري هذه التفاعلات نتيجة تأثيرات إشعاعية، وليس نتيجة اصطدام ذرات ببعضها.»
وهكذا تختلف فلسفات الصين واليونان القديمة بقدر اختلاف الحياة الاجتماعية والمفاهيم الذاتية عند كل منهما. وتعكس الفوارق الفلسفية الفوارق الاجتماعية من نواحٍ عديدة.
اتصف الإغريق بالاستقلالية، والانغماس في المنافسات، والجدل اللفظي، في محاولة منهم لاكتشاف ما يراه الناس الحقيقة. ورأَوا في أنفسهم أفرادًا ذوي خصائص مميزة، ووحدات مستقلة عن الآخرين داخل المجتمع، وأنهم سادة أقدارهم ومصائرهم. وانطلقت الفلسفة الإغريقية بالمثل من الموضوع الفردي — الشخص، الذرة، البيت — باعتباره وحدة التحليل، وعُنوا بخصائص الموضوع. وذهبوا إلى أن العالم، من حيث المبدأ، بسيط يمكن معرفته، كل ما على المرء أن يفعله هو أن يفهم ماهية الصفات المميزة للموضوع حتى يتسنى له أن يحدد مقولاته ذات الصلة، ثم يطبق على المقولات القاعدة الوثيقة الصلة بالموضوع.
وتميزت الحياة الاجتماعية الصينية بالتكافل، وكان التناغم، وليس الحرية، هو كلمة السر؛ تناغم البشر والطبيعة عند الطاويين، وتناغم البشر مع البشر الآخرين عند الكونفوشيين. كذلك كان هدف الفلسفة هو الطريق، وليس اكتشاف الحقيقة، وأن الفكر الذي لا يهدي إلى عمل هو فكر لا جدوى منه. إن العالم معقد، والأحداث متشابكة، والموضوعات [والناس] متداخلون في روابط مشتركة، «ليسوا مثل قطع الكعكة، بل مثل حبال الشبكة». وينظر الفيلسوف الصيني إلى الأسرة باعتبارها كيانًا من أعضاء متداخلين في علاقات متبادلة، بينما يرى الإغريقي في الأسرة تجمعًا من أشخاص لهم صفات مستقلة عن أي ارتباطات بآخرين. ومعنى التعقد والعلاقات المتبادلة عند الصيني أن أي محاولة لفهم موضوع ما دون تقدير سياقه هي محاولة فاشلة، ومن ثم فإنه، وفي أحسن الأحوال، من العسير التحكم في النتائج.
وكان العلم والرياضيات، كما سوف نرى فيما يلي، متسقَين غاية الاتساق مع كلٍّ من السلوك الاجتماعي والنظرة الفلسفية.
(٤) التناقض أم الترابط؟
أعظم الاكتشافات العلمية الإغريقية قاطبةً هي اكتشاف — أو لنقل ما قاله الفيلسوف جيوفري لويد، اختراع — الطبيعة ذاتها. حدد الإغريق معنى الطبيعة بأنها الكون مخصومًا منه البشر وثقافتهم. وعلى الرغم من أن هذا يبدو لنا من أوضح أشكال التمييز، فإنه تعريف لم تقل به أي حضارة أخرى. وثمة تفسير مقبول عقلًا يفسر كيف تأتَّى للإغريق اختراع الطبيعة على هذا النحو. ويقضي التفسير بأنهم مايزوا بين العالم الخارجي الموضوعي والعالم الباطني الذاتي. وتحقق هذا التمييز لأن الإغريق، على عكس أي إنسان آخر، لديهم فهم واضح للذاتية، وهو الفهم الذي انبثق عن تراثهم في الجدل؛ إذ لا معنى بالنسبة إليك أن تحاول إقناعي بشيء ما، ما لم تؤمن أنت بأن ثمة حقيقة واقعة في الخارج، وأنك تفهمها أو تدركها أفضل مني. ربما تكون قادرًا على أن ترغمني قسرًا على عمل شيء تريده، بل وعلى أن أعرب عن إيماني بما تفعل، ولكنك لن تقنعني ما لم أومن بأن تفسيرك الذاتي لوضعٍ ما أسمى من تفسيري.
ونتيجة لهذا نبعت الموضوعية من الذاتية. الاعتراف بأن عقلين يمكن أن يكون لديهما تصوران مختلفان عن العالم، وأن العالم له وجوده المستقل عن أيٍّ من التصورين. وربما تهيأ للإغريق التوصل إلى هذا بفضل وضعهم كمركز تجاري، واعتادوا أن يلتقوا بانتظام ناسًا لهم أفكارهم المختلفة تمامًا عن العالم. وعلى العكس من هذا كانت الثقافة الصينية ثقافة موحدة الكيان منذ القدم، وكان من النادر نسبيًّا التقاء جماعات من الناس لهم آراؤهم الدينية والميتافيزيقية المختلفة عنهم جذريًّا.
وإن اكتشاف الإغريق للطبيعة هو الذي يسَّر اكتشاف العلم. وإن فشل الصين في تطوير العلم يمكن أن نعزوه جزئيًّا إلى افتقار الفضول المعرفي، غير أن عدم وجود مفهوم عن الطبيعة أعاق تطور العلم على أي حال من الأحوال. ونشير هنا إلى ملاحظة أبداها الفيلسوف يو-لان فونج إذ يقول: «الأسئلة بماذا من الصعب أن يسألها المرء ما لم يكن هناك اعتراف واضح بأن ثمة مفاهيم ذهنية تتوافق بشكل ما مع جوانب الطبيعة، ولكنها غير متطابقة معها.»
ركز الإغريق اهتمامهم على الموضوع الأبرز وصفاته. وأفضى هذا التركيز إلى الفشل في فهم الطبيعة الأساسية للعلية. وفسر أرسطو سقوط حجر من أعلى إلى أسفل بأن الحجر لديه خاصية «الجاذبية». ولكن طبيعيًّا أن قطعة خشب تلقي بها إلى الماء فتطفو بدلًا من أن تغرق، وفسر أرسطو هذه الظاهرة بأن أرجعها إلى خاصية الخشب من حيث «الخفة». والملاحَظ في الحالتين أن التركيز منصبٌّ فقط على الموضوع، من دون الانتباه إلى احتمال وجود قوة أخرى خارج الموضوع يمكن أن تكون ذات صلة. لكن الصينيين رأَوا العالم مؤلفًا من جواهر متفاعلة مع بعضها أبدًا، ولهذا أدت محاولاتهم لفهم الشيء إلى التوجه بأنظارهم ناحية تعقد «المجال» جملة، أعني السياق أو البيئة إجمالًا. وتأسيسًا على هذا، نجد أن فكرة أن الأحداث تقع دائمًا في وسط مجال من القوى فكرة تراود الصينيين على نحو حدسي تمامًا؛ ولهذا ليس غريبًا أن يكون لدى الصينيين نوع من الإقرار بمبدأ «التأثير عن بعد» قبل أن يصوغه جاليليو بألفَي عام. توافرت لديهم معرفة بالمغناطيسية والرنين السمعي، على سبيل المثال، واعتقدوا أن حركة القمر هي سبب المد والجزر في البحار، وهي حقيقة غابت حتى عن جاليليو.
وتوجد في الصحراء غرب الصين مدافن تضم جماعات من الناس يتصفون بطول القامة والشعر الأحمر، والمثير للدهشة أن أجسادهم محفوظة جيدًا، ويحملون سمات قوقازية، وشقوا طريقهم إلى هذا المكان من العالم منذ بضعة آلاف من السنين الماضية. ومن دون النظر إلى مظهرهم فإنهم مختلفون عن الشعوب التي عاشت في هذه المنطقة. من ناحية أخرى مهمة، إن أكثرهم يكشف عن علامات واضحة تؤكد أنه أُجريَت لهم عمليات جراحية. هذا على الرغم من أن الجراحة كانت نادرة تمامًا في كل تاريخ الصين.
وإحجام الصينيين عن أداء عمليات جراحية مفهوم تمامًا في ضوء آرائهم عن التناغم والعلاقات. ورأَوا أن الصحة رهن توازن القوى داخل الجسم والعلاقات بين أجزائه. وكانت هناك قديمًا، مثلما هو الآن، بين كثيرين من أبناء شرق آسيا علاقات بين كل جزء من الجسد تربطه بكل الأجزاء الأخرى. وحتى نتبين هذه الشبكة الواسعة من الترابطات المتداخلة يكفي النظر إلى رأي ممارس العلاج بوخز الإبر عن العلاقات بين سطح الأذن والبشرة وهيكل الجسم. وثمة شبكة شديدة التعقد بالقدر نفسه تصف العلاقات بين الأذن وكل من الأعضاء الباطنية. ويرى الصينيون على الأرجح أن من السذاجة وخفة العقل التفكير في أن إزالة عضو، أو جزء مريض، أو مصاب بخلل وظيفي، وبتره عن الجسم؛ أمر مفيد، من دون اعتبار لعلاقاته بالأجزاء الأخرى من الجسم. هذا على عكس كثير من المجتمعات الغربية المختلفة التي مارست الجراحة.
وجدير بالذكر أن إيمان الصينيين بأساسية ترابط العلاقات بين الأشياء جعل من الواضح لهم أن الأشياء والموضوعات تتحرك وتتغير داخل سياق، ولهذا فإن أي محاولة لتصنيف الموضوعات بدقة لن تفيد كثيرًا في فهم الأحداث؛ ذلك أن العالم شديد التعقد والتفاعل بين عناصره، مما يجعل الفئات والقواعد غير مفيدة كثيرًا في فهم الموضوعات أو التحكم فيها.
وأصاب الصينيون في رأيهم عن أهمية المجال لفهم سلوك موضوع ما، كما أصابوا في رأيهم عن التعقد، ولكن افتقارهم إلى الاهتمام بالفئات أو التصنيف الفئوي حال دونهم واكتشاف القوانين التي تفسر لهم بالفعل فئات الأحداث؛ ولهذا كله اتجه الإغريق إلى التبسيط الشديد، وإلى الاكتفاء بتفسيرات زائفة تتضمن خصائص غير موجودة للموضوعات. وفهموا صواب ضرورة تصنيف الموضوعات إلى فئات حتى نتمكن من تطبيق القواعد والقوانين عليها. ونظرًا إلى أن القواعد والقوانين مفيدة ما دام بالإمكان تطبيقها على أوسع نطاق من الموضوعات، فقد كان لديهم بشكل مطرد «ضغط صاعد» للتعميم وصولًا إلى أعلى المستويات من التجريد، حتى تكون القوانين صالحة للتطبيق إلى أقصى حد ممكن. وأفاد هذا الحافز أحيانًا التجريد، وإن لم يكن كذلك دائمًا.
وكان لإيمان الإغريق بالتصنيف الفئوي على أساس الصفات ثماره العلمية التي أفاد بها ورثتهم من المفكرين، سواء مباشرة أو في مراحل تالية. اصطنع الإغريق تصنيفات للعالم الطبيعي تتسم بالدقة الشديدة، وسمح هذا بقدر من الابتعاد عن أنواع من المخططات العامة العامية لمجال البيولوجيا التي صاغتها شعوب أخرى. واستطاع الإغريق بهذا صوغ منظومة تصنيفية فريدة، أسفرت في نهاية المطاف عن نظريات لها قدرة تفسيرية حقيقية.
ويُروى أن فريقًا من الرياضيين من حواريي فيثاغورس ألقَوا برجل من فوق سطح مركب لاكتشافهم أنه أفشى فرية عن الأعداد الصماء، من مثل الجذر التربيعي للعدد ٢ الذي يتوالى إلى ما لا نهاية، من دون إمكان التنبؤ بالنمط الذي يكون عليه ١٫٤١٤٢١٣٥ … وسواء أكانت هذه قصة حقيقية أم زائفة، فإن من المؤكد أن غالبية الرياضيين الإغريق لم يعتبروا الأعداد الصماء أعدادًا حقيقية على الإطلاق. لقد عاش الإغريق في عالم من الجسيمات المنفصلة، ومن ثم بدت الطبيعة المستمرة التي لا نهاية لها للأعداد الصماء أمرًا غير مقبول عقلًا، ومن ثم لم يسع علماء الرياضيات أن يأخذوها مأخذًا جادًّا.
وربما نجد من ناحية أخرى أن الإغريق أسعدتهم كثيرًا الكيفية التي عرفوا بها أن الجذر التربيعي للعدد ٢ عدد أصم؛ إذ عرفوا هذا عن طريق التناقض. يفترض المرء عددين غير قابلين للقسمة ن، م، وأن الجذر التربيعي للعدد ٢ = ن/م، ويبين أن هذا يفضي إلى تناقض.
وجدير بالإشارة أن الفيلسوف الصيني مو-تسو خطا خطوات واسعة في اتجاه الفكر المنطقي في القرن الخامس قبل الميلاد، بَيد أنه لم يبلور منظومته الفكرية، وبذا وُئد المنطق في الصين وهو لا يزال في المهد. ولنا أن نقول إنه باستثناء هذا الفاصل ظل الصينيون يفتقرون ليس فقط إلى المنطق، بل أيضًا إلى مبدأ عدم التناقض. ونعرف أن للهند تراثًا منطقيًّا عريقًا، لكن الترجمات الصينية للنصوص الهندية كانت مليئة بالأخطاء وسوء الفهم. وعلى الرغم مما حققه الصينيون من تقدم كبير وموضوعي في مجالَي الجبر والحساب، لكنهم حققوا إنجازًا ضعيفًا في الهندسة بسبب أن البراهين تعتمد على المنطق الصوري، خاصة فكرة عدم التناقض. (لم يصبح الجبر استدلاليًّا إلا مع ديكارت. ولا يزال نظامنا التعليمي يحمل آثارًا تذكرنا بالفصل بينهما، وهو ما يتجلى في تعليم الجبر والهندسة كمادتين دراسيتين منفصلتين.)
وأبدى الإغريق اهتمامًا عميقًا بالحجج التأسيسية للرياضيات. وكان الإغريق وحدهم هم الذين لديهم استنتاجات، بينما الشعوب الأخرى لديها وصفات إجرائية. ولكن يمكن القول من ناحية أخرى إن المنطق الإغريقي والاهتمام بالحجج التأسيسية شكَّلا عقبات بقدر ما أتاحا من فرص. ونعرف أن الإغريق لم يستحدثوا مفهوم الصفر الذي كان لازمًا لكلٍّ من الجبر وللمنظومة العددية حسب الأسلوب العربي. فكر الإغريق في الصفر ولكنهم رفضوه على أساس أنه ضرب من التناقض. إن الصفر يساوي اللاشيء أو العدم، والعدم ليس موجودًا. وهكذا كان لا بد في نهاية المطاف أن نستورد من الشرق فهم معنى الصفر، وفهم اللانهاية، والكميات المتناهية الصغر.
لماذا إذن اختلف اليونانيون والصينيون القدامى على هذا النحو الكبير في عاداتهم الفكرية؟ أو لنقل لماذا، على الأقل، يَصدُق هذا الرأي بالنسبة إلى المثقفين من الطرفين، وهما الشعبان القديمان الوحيدان اللذان نعرف شيئًا عن حياتهما الفكرية؟ ولماذا يوجد مثل هذا «الرنين» بين الأشكال الاجتماعية وفهم الذات من ناحية، والفروض الفلسفية والنُّهُج العلمية من ناحية أخرى؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لها دلالاتها التي تفيدنا في فهم الفوارق والاختلافات القائمة اليوم بين الفكر الشرقي والفكر الغربي.