الأصول الاجتماعية للعقل
«بينما كان الأمراء العرب يناقشون أفلاطون وأرسطو، وحكام مدن الصين يكشفون عن براعتهم في جميع الفنون؛ كان نبلاء أوروبا قابعين على الأرض يهبرون قطع اللحم داخل قلاع رطبة.»
سألت ذات يوم فيلسوفًا صينيًّا لماذا رأى أن الشرق والغرب طوَّرا مثل هذه العادات الفكرية المختلفة؟ فأجاب قائلًا: «لأن عندكم أرسطو، ونحن عندنا كونفوشيوس.» أغلب الظن أنه كان يمزح. فلا ريب في أن لكل من أرسطو وكونفوشيوس أثرًا هائلًا في التاريخ الفكري والاجتماعي والسياسي للشعوب من بعدهما، إلا أن كلًّا منهما كان نتاج ثقافة مجتمعه أكثر من كونه السلف الصانع لها. وما كان بالإمكان أن يكون لأي منهما الأثر الذي تركه لو لم يكن يعكس المجتمع الذي عاش فيه. ونجد نوعًا من «البرهان» على هذا في أن الإغريق كان لهم فلاسفتهم من أمثال هيرقليطس، ممن كانوا أقرب إلى روح الشرق منهم إلى الغرب، وكان لدى الصين فلاسفتها من أمثال مو-تسو، الذي شارك فلاسفة الغرب في كثير من اهتماماتهم. ولكن على الرغم مما حظيت به هذه الفلسفات من اهتمام كبير من معاصريها، فإن الفلسفات المارقة ذوت على عودها ولم يمتد بها العمر. هذا بينما التراث الأرسطي استمر ممتدًّا في الغرب، والتراث الكونفوشي وأصل وجوده في الشرق.
ويُلاحَظ أن الباحثين الذين حاولوا الإجابة عن سؤال: «لماذا اختلفت اليونان والصين قديمًا هذا الاختلاف الكبير؟» انتهَوا في دراساتهم إلى أسباب عديدة مقبولة عقلًا.
اختلفت اليونان القديمة عن جميع الحضارات المعاصرة لها من حيث تطوير الحرية الشخصية والفردية، والفكر الموضوعي. ويمكن جزئيًّا تفسير هذه الخصال في ضوء النظام السياسي الذي انفرد به اليونان قديمًا، وأعني به الدولة-المدينة وسياستها، خاصة الجمعية العامة التي حفلت بالناس من أعضائها، ليحاول كلٌّ إقناع الآخر تأسيسًا على حجة عقلانية. وكانت الدولة-المدينة مهمة أيضًا لأنه كان بإمكان المتمردين من المفكرين أن يهجروا موقعًا إلى آخر، ومن ثم يحتفظون لأنفسهم بوضع يسمح بحرية الاستجواب. والحقيقة أن المثقفين غير المرغوب فيهم داخل دولة-مدينة ما كان بوسعهم أحيانًا الْتماس ملاذ في دولة-مدينة أخرى تأمل في حضورهم إليها، وبقائهم فيها، وترى في هذا تعزيزًا لمكانتها أمام الدول-المدن الأخرى. ونعرف أن تلامذة سقراط ألحُّوا عليه أن يترك أثينا إلى مكان آخر، بدلًا من أن يطبقوا عليه حكم الإعدام. وطبيعي أنه كان سيلقى ترحيبًا في أي مكان آخر، ومن ثم يكف أبناء مدينته عن مطاردته.
سبب آخر يذكره البعض أحيانًا لتفسير تفرد الإغريق، وهو موقعهم البحري الذي جعل من التجارة البحرية عملًا مربحًا. معنى هذا أن بلاد الإغريق عرفت طبقة تجارية قوية يتمتع رجالها بقدرة مالية على تعليم أبنائهم. والقول بأن التجار كانت لديهم الرغبة في تعليم أبنائهم يتطلب تفسيرًا في حد ذاته، خاصة أن التعليم بحد ذاته لم يكن، مثلما كان في الصين، الطريق إلى السلطة والثراء. ولكن يبدو واضحًا أن الدافع إلى التعليم كان نتيجة لحب الاستطلاع والفضول المعرفي، والإيمان بقيمة المعرفة في ذاتها. وإن خاصية الفضول المعرفي لدى الإغريق يمكن بدورها تفسيرها جزئيًّا في ضوء موقعهم عند مفترق طرق العالم؛ إذ كانوا دائمًا وأبدًا يلتقون جماعات جديدة مثيرة للحيرة والتساؤل من حيث عاداتهم ومعتقداتهم. وكان شائعًا وعاديًّا بالنسبة إلى أي إغريقي يحيا قرب السواحل (والغالبية كانوا كذلك) أن يلتقي جماعات من البشر يمثلون أعراقًا وديانات وسياسات مغايرة. وإن أثينا نفسها كانت بمنزلة حاجز وسط حرب النجوم.
وثمة نتيجة واضحة للممارسات والمعتقدات المختلفة التي تحوم دون هوادة حول الإغريق، ألا وهي ضرورة أن يتعاملوا مع المتناقضات. اعتادوا دائمًا مواجهة مواقف حيث يرَون شخصًا يؤكد أن «أ» هي الحجة، بينما ينزع آخر إلى القول إنه ليس «أ» هي الحجة. وهكذا عايشوا تناقضًا وافدًا بين آراء الغرباء، وتناقضًا محليًّا يعبر عنه المواطنون من خلال آرائهم داخل الجمعية العامة وفي الساحات العامة. وطبيعي أن يؤدي هذا بالضرورة إلى تطور إجراءات معرفية، من بينها المنطق الصوري، للتعامل مع مظاهر وأسباب التنافر.
هذا على عكس ما نراه حتى اليوم من أن ٩٥ في المائة من الصينيين هم من جماعة عرقية واحدة، المعروفة باسم «الهان». والمعروف أن جميع الأقليات العرقية في الصين، والتي يزيد عددها على الخمسين، يعيشون في الجزء الغربي من الصين. كذلك فإن الشخص الصيني الذي يعيش داخل البلاد نادرًا ما كان يلتقي غريبًا له معتقداته أو ممارساته التي تختلف عنه اختلافًا بينًا. ويبدو أن التجانس العرقي للصين يمكن تفسيره جزئيًّا على الأقل في ضوء السلطة السياسية المركزية. علاوة على هذا، فإن حياة القرية الصينية، حيث يعيش أهلها وجهًا لوجه، هي من النوع الذي يضغط في اتجاه التناغم والمعايير السلوكية المتفق عليها جماعيًّا. وهكذا عاش الصينيون لا يشهدون إلا اختلافًا ضئيلًا في الرأي، ويرَون الشقاق مظنة عقاب يحل من أعلى، أو يأتي على أيدي رفاق الحياة. ومن هنا لم يكن لدى الصينيين حاجة كبيرة لاستخدام إجراءات من أجل اتخاذ قرار يحسم التناقض، ويقرر أي القضايا هي الصواب. ورأوا بدلًا من هذا أن الهدف هو اكتشاف الوسيلة لحسم الخلافات، ومن هنا دافعهم لاكتشاف الطريق الوسطى.
(١) منظومات معرفية-اجتماعية متوازنة
جميع هذه التفسيرات في الأساس قائمة على حقيقة واحدة؛ إيكولوجيا اليونان والصين قديمًا كانتا مختلفتين اختلافًا جذريًّا، على نحو أدى إلى تنظيمات اقتصادية وسياسية واجتماعية مختلفة. ويوضح الجانب الأيسر من الصورة الآتية تفسيرًا للفوارق بين الفكر الإغريقي والصيني كما أفهمه أنا. وهذه في جوهرها استخلاص لآراء كثيرين ممن تناولوا مسألة أصل الذهنية الصينية والإغريقية. ويمثل الجانب الأيمن من الصورة التفسير نفسه، ولكن كما رسمه طالب أمريكي من أصل صيني، وقال لي إن العرض الدائري يبدو مفهومًا له أكثر من العرض الخطي.
التفسير في أساسه مادي، بمعنى أنه يحاول تفسير الحقائق الثقافية في ضوء وقائع فيزيقية. وهذا نهج بات باليًا الآن لدى بعض الأوساط؛ ذلك لأنه جزئيًّا يفترض خطأ أن التفسيرات المادية حتمية، ولكن المادية لا تستلزم بالضرورة القول بالحتمية، بحيث إنه إذا ما ظلت الأوضاع متكافئة، فإن العوامل الفيزيقية يمكنها أن تؤثر بدرجة ما في العوامل الاقتصادية، وبالتالي في العوامل الثقافية. وهذا التفسير ليس ماديًّا على الإطلاق بمعنًى محدد، إن العوامل الحاسمة المؤثرة في عادات العقول هي عوامل اجتماعية، كما أن الوقائع الاجتماعية المهمة يمكن أن تولدها وتصونها قوًى ليست اقتصادية بطبيعتها.
وتألفت إيكولوجيا اليونان القديمة، من ناحية أخرى، من جبال في أغلبها تنحدر سفوحها إلى البحر، وآثر أهلها العمل بالقنص والرعي وصيد الأسماك والتجارة (بل لنكن صرحاء، ونقول: والقرصنة)، وهذه جميعها مهن تستلزم قدرًا قليلًا نسبيًّا من التعاون مع الآخرين. والحقيقة أن هذه الأنشطة الاقتصادية جميعها، باستثناء التجارة، لا تستلزم بالضرورة العيش داخل المجتمع المحلي المستقر نفسه مع آخرين. والمعروف أن الزراعة المستقرة وفدت إلى اليونان القديمة متأخرة عن الصين بألفَي عام، وسرعان ما أصبحت نشاطًا تجاريًّا في مناطق كثيرة، وليس لسد الاحتياجات الغذائية فقط. وكانت تربة اليونان، وكذا مناخها، ملائمَين تمامًا لصنع النبيذ وإنتاج زيت الزيتون. وأصبح أكثر المزارعين، مع حلول القرن السادس ق.م.، أقرب إلى وصفهم برجال الأعمال وليسوا مزارعين. واستطاع اليونانيون قديمًا، لهذا السبب، أن يعملوا لحساب أنفسهم أكثر مما هي الحال بالنسبة إلى الصينيين. ولم يكن اليونانيون القدامى يشعرون بأن من الضروري الحفاظ على مناخ التناغم مع رفاقهم مهما كلفهم هذا من ثمن. ونجد على العكس تمكنت منهم عادة المحاجاة بعضهم مع بعض في ساحات اللقاء الاجتماعية والحوار داخل الجمعية العامة.
ولكن الإغريق كان لديهم ترف الاهتمام بموضوعات، من بينها الآخرون من البشر، وأهداف هؤلاء بالنسبة إليهم، من دون أن تؤثر فيهم علاقاتهم بالآخرين، أو تحد من سلوكهم على نحو مبالغ فيه. يستطيع الإغريقي أن يخطط من أجل حصاد زراعي، أو أن يغير الموقع الذي يرعى فيه ماشيته وأغنامه، أو أن يبحث فيما إذا كان من المفيد له أن يبيع سلعًا ما جديدة، وأن يستشير على نحو محدود أو لا يستشير على الإطلاق الآخرين. وربما جعل هذا من الطبيعي بالنسبة إلى الإغريق أن يركزوا اهتمامهم على صفات الموضوعات، مع النظر في اتجاه تصنيفها إلى فئات، واكتشاف القوانين والقواعد التي تسمح لهم بالتنبؤ وضبط السلوك. ويمكن هنا النظر إلى السببية باعتبارها نتيجة لخواص الأشياء، أو ثمرة عمل الإنسان وتأثيره في الأشياء. وشجعت مثل هذه النظرة إلى السببية وضع الافتراضات الإغريقية عن الاستقرار والثبات والدوام، وكذا افتراض أن تغير الموضوع تحت سيطرتهم.
وهكذا يمكن القول إن ميتافيزيقا العامة في المجتمعَين نبعت مباشرة من الأهداف التي اهتم بها كل منهما؛ البيئة أو المجال في حالة الصينيين، والموضوع في حالة الإغريق. وطبيعي أيضًا أن تأتي الميتافيزيقا العلمية لكل مجتمع انعكاسًا صادقًا للنظرات السائدة بين العامة.
أخيرًا يمكن للممارسات الاجتماعية أن تؤثر في عادات التفكير بشكل مباشر. ويمكن اعتبار الجدل والمنطق أداتين معرفيتين لمعالجة النزاع الاجتماعي. وليس لنا أن نتوقع ممن ينبني وجودهم الاجتماعي على التناغم أن يطوروا تراثًا للمواجهة أو الجدل. بل هم، على العكس، إذا ما واجهوا تعارضًا في الآراء ينزعون — على الأرجح — إلى حسم التناقض، أو التعالي عليه، أو الْتماس «طريق وُسطى»، أي بإيجاز، تناول الموضوع جدليًّا. ولكن على النقيض، لنا أن نتوقع ممن هم أحرار في المحاجاة أن يطوروا قواعد وقوانين لإدارة الجدل، بما في ذلك مبدأ عدم التناقض والمنطق الصوري. وإنها لخطوة يسيرة وميسورة للانتقال من المنطق إلى العلم، كما لحظ ألان كرومر، عالم الفيزياء ومؤرخ العلم، الذي قال: «العلم من هذه الزاوية امتداد للخطابة، اخترعته اليونان القديمة، واليونان القديمة دون سواها؛ لأن المؤسسة الإغريقية الممثلة في الجمعية العامة أولت مهارة الجدل مكانة عظمى … البرهان الهندسي هو … أقصى صورة خطابية.»
إحدى الدلالات المهمة لهذه النظرة إلى أسباب الفوارق الذهنية عند اليونان والصين قديمًا هي ما تتضمنه هذه النظرة من الاتزان الوظيفي الاجتماعي؛ إذ ما دامت القوى الاقتصادية تعمل على الحفاظ على الهياكل الاجتماعية المختلفة وتدريب الأطفال، فإن هذا كله سوف يسفر عن شعب يركز اهتمامه على أشياء مختلفة في البيئة. وطبيعي أن تركيز الاهتمام على أشياء مختلفة تتولد عنه حالات فهم مختلفة لطبيعة العالم. كذلك فإن اختلاف النظرة إلى العالم سوف يعزز بدوره اختلاف مكان الاهتمام والممارسات الاجتماعية. علاوة على هذا، فإن اختلاف النظرة إلى العالم سوف يحفز الفوارق في عمليات الإدراك والتفكير الاستدلالي، الذي ينزع بدوره إلى تعزيز النظرة إلى العالم.
وليس ثمة من سبب لافتراض أن النتيجة التي تنتهي بعمليات معرفية لا بد أن تبدأ مع الإيكولوجيا؛ إذ يمكن أن تكون هناك أسباب اقتصادية كثيرة ومختلفة يمكن أن تجعل بعض المجتمعات أو الجماعات أكثر اهتمامًا بزملائهم من البشر، وأسباب كثيرة يمكن أن تجعلهم أكثر اهتمامًا بالموضوعات وبأهدافهم هم بالنسبة إليهم. مثال ذلك أن مشروعات الأعمال والبيروقراطيات الحديثة، ومشروعات الأعمال التي يديرها مقاولو الأعمال، لا تستلزم بالضرورة الاهتمام بنطاق واسع من نظائرها وعدد كبير من المراقبين، ولكنها، بدلًا من هذا، تستلزم جماعات تركز على مجموعة محدودة نسبيًّا من الأهداف ومتابعتها بشكل مستقل. ويمكن أن يكون الأداء أفضل عمليًّا إذا ما تم إغفال آخرين إلى حد كبير، بدلًا من الاهتمام بهم عن كثب، ومن ثم لا ضرورة لأن تبدأ السلسلة حتى بالاقتصاد. ويمكن أن تكون هناك أسباب كثيرة مختلفة من شأنها أن تحفز الاهتمام بالآخرين، مثال ذلك العضوية في مجتمع محلي ديني شديد التزمُّت والصرامة، وله قواعده السلوكية الصارمة. كذلك، بالمثل هناك عوامل كثيرة يمكن أن تحفز الناس إلى التركيز أولًا وأساسًا على الموضوعات، وعلى أهدافهم المتعلقة بهم.
(٢) الدعم العصري للنظرية الأصلية
تصادف أن هذا التفسير الاجتماعي-الاقتصادي للمعرفة يتلاءم مع بعض التغيرات التاريخية المهمة في الغرب؛ إذ ما إن أصبح الغرب زراعيًّا أساسًا في العصور الوسطى حتى أصبح أقل نزوعًا للفردية. ولم يكن الفلاح الأوروبي — على الأرجح — مختلفًا كثيرًا عن الفلاح الصيني من حيث التكامل أو الحرية في الحياة اليومية، أو من حيث الإنجاز الفكري والثقافي. وبينما كان الأمراء العرب يناقشون أفلاطون وأرسطو، وحكام مدن الصين يكشفون عن براعتهم في جميع الفنون؛ كان نبلاء أوروبا قابعين على الأرض يهبرون قطع اللحم داخل قلاع رطبة.
وقرب نهاية العصور الوسطى شهدت الزراعة الأوروبية (خاصة مع اختراع طوق رقبة الحصان، الذي يسَّر العمل بالمحراث الذي يجره الحصان) تقدمًا ملحوظًا خلق ثروات وفيرة، مما أدى إلى نشوء مراكز تجارية جديدة تشبه كثيرًا الدول-المدن في اليونان القديمة. وكانت الدول-المدن الإيطالية، ثم من بعدها الدول-المدن الشمالية، تتمتع بدرجة عالية جدًّا من الاستقلال الموضوعي، ولا تخضع في نواحٍ كثيرة لسلطة الملوك والأباطرة المستبدين. وتحلى كثيرون منهم بصفات ديموقراطية، أو على الأقل، صفات الحكام الأوليجاركيين (الأغنياء). وطبيعي أن الميلاد الجديد للدولة-المدينة، مقترنًا بطبقة أغنياء التجار، أفضى إلى بعث جديد للنزعة الفردية، والحرية الشخصية، والنزعة العقلانية، والعلم. ومع حلول القرن الخامس عشر استيقظت أوروبا من سباتها الذي امتد ألف عام، وبدأت تنافس الصين في جل المجالات؛ الفلسفة والرياضيات والفنون والتكنولوجيا.
وكان هذا الافتقار إلى الفضول المعرفي خاصية مميزة للصين؛ إذ كان معروفًا أن سكان المملكة الوسطى (إذ إن اسم الصين بالرسم الصيني يعني مركز العالم) لم يهتموا كثيرًا بالحكايات التي يرويها لهم الأجانب. علاوة على هذا لم تعرف الصين اهتمامًا قويًّا بالمعرفة من أجل المعرفة. وأكثر من هذا أن الفلاسفة الصينيين المحدثين كانوا عزوفين للغاية عن الاستخدام البرجماتي للمعرفة، على عكس اهتمامهم بالتنظير المجرد لذاته.
وها هو الشرق الآن بطبيعة الحال يدنو من رصيد الغرب من الأفكار بمعدل متزايد السرعات. وثمة أسئلة تطرأ على الذهن: ما عسى أن يكون أثر هذه الأفكار في الشرق؟ كيف عساها أن تكون بعد أن تمر عبر المصفاة الشرقية؟ وما التعديلات التي يمكن أن يتبناها الغرب؟ يمكن تخمين الإجابات عند النظر إلى الاختلافات في العادات العقلية للمعاصرين لنا الآن.
من حيث التاريخ، فإن التفسير الذي أقترحه لبيان سبب تباعد الصين واليونان قديمًا على نحو ما رأينا هو تفسير تأملي. بَيد أنه، مع هذا، يمثل رؤية علمية؛ ذلك لأنه يفضي إلى تنبؤات يمكن أن تخضع للاختبار، بل واختبارها في معمل علم النفس.
إحدى دلالات فكرة أن العوامل الاقتصادية يمكن أن تؤثر في العادات المعرفية، هي أن الشعوب الزراعية أكثر اعتمادًا على المجال من الشعوب التي تعوِّل في حياتها على أساليب عيش أقل ركونًا إلى التنسيق الوثيق بين جهودهم وجهود الآخرين، من مثل القنص وجمع الثمار، وهذا هو واقع الحال بالفعل. ولنا أيضًا أن نتوقع أن تكون الشعوب العاملة بالزراعة تقليديًّا أكثر اعتمادًا على المجال من الشعوب التي تعيش في مجتمعات صناعية، حيث يمكن للمرء أن يتابع إنجاز أهدافه الشخصية من دون اهتمام عن كثب بشبكة الأدوار والالتزامات الاجتماعية، وهذا صحيح وما يشهد به الواقع. والمُلاحَظ حقيقة أن الذين يعيشون على القنص وجمع الثمار، وكذا من يعيشون في المجتمعات الصناعية، متساوون في درجة الاعتماد على المجال.
إذن الفارق الأول بين الشعوب الزراعية من ناحية، والمجتمعات التي تعيش على القنص وجمع الثمار، وكذا المواطنون المحدثون المستقلون في المجتمعات الصناعية الحديثة من ناحية أخرى، هو فارق يتعلق بدرجة الاهتمام بالعالم الاجتماعي. وإذا صح هذا فسوف يكون من المقبول عقلًا أن نتوقع أن الثقافات الفرعية داخل مجتمع ما مختلفة من حيث درجة الاعتمادية على المجال. وعمد عالم النفس المختص بدراسة الشخصية، زخاري ديرشوفيتز، إلى اختبار هذا الفرض؛ لذلك درس الاعتمادية على المجال بين صبية يهود أورثوذكس يعيشون، كما أكد هو، داخل أسر وأوضاع اجتماعية تؤكد صراحة على دور العلاقات، وتفرض موضوعيًّا قيودًا اجتماعية. وقارن بين أدائهم وأداء صبية يهود علمانيين يخضعون، كما يؤكد، لضوابط اجتماعية أكثر استرخاء وتساهلًا. وقارنها أيضًا مع صبية بروتستانت يعيشون، كما يعتقد، حياة تسودها ضوابط أكثر من هؤلاء تسامحًا. وكما هو متوقع، وجد ديرشوفيتز أن الصبية الأورثوذكس أكثر اعتمادًا على المجال من الصبية اليهود العلمانيين، وهؤلاء بدورهم أكثر اعتمادًا على المجال من الصبية البروتستانت.
وليس ثمة من سبب يدعو إلى افتراض أن الاعتمادية على المجال تحدث فقط كنتيجة لقيود اجتماعية مفروضة من خارج. وإنما لنا أن نتوقع أن الاهتمام بالآخرين، أيًّا كان مصدره، لا بد أن يقترن بالاعتمادية على المجال. والحقيقة أن من يتصفون بالاعتمادية على المجال نسبيًّا يروق لهم أن يكونوا مع آخرين أكثر مما هي الحال بالنسبة إلى من يتصفون بالاستقلالية النسبية عن المجال. ويُلاحَظ أيضًا أن المعتمدين على المجال لديهم ذاكرة أفضل من حيث تذكر الوجوه والكلمات الاجتماعية (زيارة، حقل) قياسًا إلى المستقلين نسبيًّا عن المجال. وإذا أتيحت فرصة الاختيار للمعتمدين على المجال فإنهم يؤثرون الجلوس متقاربين جدًّا بعضهم من بعض، أكثر مما هي الحال بالنسبة إلى المستقلين نسبيًّا عن المجال.
(٣) دلالات خاصة بالفكر في العالم الحديث
ولكن دلالات الرأي الذي أقترحه تتجاوز كثيرًا حدود أسلوب بعينه في إدراك الموضوعات من حيث علاقتها بالبيئة. وإذا كان صوابًا ما ذهبت إليه من تفسير للعلاقة بين العوامل الاجتماعية وعمليات الفكر، وإذا كانت الفوارق الاجتماعية بين الشرق والغرب اليوم تشبه ما كان في الأزمنة القديمة؛ إذن يصبح بوسعنا أن نصطنع عددًا من التنبؤات المهمة بشأن الفوارق المعرفية بين الآسيويين الشرقيين والغربيين المعاصرين. وأعتقد أن من المحتمل أن نجد اختلافات في:
-
أنماط الانتباه والاهتمام والإدراك؛ حيث أبناء شرق آسيا يهتمون أكثر بالأوساط والبيئات، بينما الغربيون يبدون اهتمامًا أكثر بالموضوعات. كذلك أبناء شرق آسيا أكثر ميلًا من الغربيين إلى اكتشاف العلاقات بين الأحداث والوقائع.
-
الفروض الأساسية عن تكوين العالم، حيث أبناء شرق آسيا يرَون في العالم تكوينات متداخلة، بينما يرى فيه الغربيون موضوعات مستقلة.
-
المعتقدات بشأن إمكان التحكم في البيئة؛ حيث يؤمن الغربيون بإمكان التحكم أكثر مما يؤمن أبناء شرق آسيا.
-
الفروض الضمنية عن الاستقرار والثبات مقابل التحول والتغير، حيث يرى الغربيون الثبات، بينما يرى أبناء شرق آسيا التحول.
-
الأنماط الأثيرة لتفسير الأحداث؛ حيث الغربيون يركزون على الموضوعات، بينما أبناء شرق آسيا يلقون بشبكة عريضة تشمل البيئة.
-
العادات في تنظيم مكونات العالم، حيث الغربيون يؤثرون التصنيف إلى فئات، بينما أبناء شرق آسيا أميل إلى تأكيد العلاقات.
-
استخدام قواعد المنطق الصوري؛ حيث الغربيون يميلون إلى استخدام القواعد المنطقية لفهم الأحداث أكثر مما هي حال أبناء شرق آسيا.
-
تطبيق أساليب التناول الجدلية، حيث إن أبناء شرق آسيا يميلون أكثر إلى الْتماس طريق وسطى إذا ما واجهتهم حالة تناقض ظاهري، هذا بينما الغربيون أكثر ميلًا إلى تأكيد صواب اعتقاد ما دون سواه.
هذه على أي حال توقعاتنا بشأن عادات العقل المترتبة على نظرتنا إذا كان الغربيون وأبناء شرق آسيا حقًّا لديهم أساليب مختلفة على نحو أساسي في النظر إلى أنفسهم من دون رؤية العالم الاجتماعي.