«لتكن لك عينان في مؤخرة رأسك» أم «لتكن عيناك على الكرة»؟
«إذا كانت الحياة بسيطة، وما على المرء إلا أن يضع عينه على الهدف كي ينجز شيئًا ما؛ إذن فالحياة يمكن التحكم فيها. وإذا كانت الحياة معقدة وعرضة لتقلبات الحظ دون إشعار سابق، فلن يكون مهمًّا نوع الهدف الذي ننشده؛ إذ ستكون الحياة أمرًا يصعب التحكم فيه بسهولة.»
إذا كان الناس حقًّا يرون العالم في ضوء مصطلحات بشروط يفرضها عليهم وجودهم الاجتماعي، فإن لنا أن نتوقع أن يكون لدى مجتمعات شرق آسيا الحديثة النوع نفسه من النظرات الكلية إلى العالم، شأن مفكري الصين قديمًا. ولنا أيضًا أن نتوقع أن يكشف أبناء الثقافة الأوروبية في عصرنا الحديث عن الأنواع نفسها من النُّهُج التحليلية التي تميز بها مفكرو الإغريق قديمًا. علاوة على هذا، فإن الحقائق الواقعية الاجتماعية المختلفة يمكن أن تولد أنماطًا شديدة الاختلاف من حيث رؤية العالم بالمعنى الحرفي للكلمة. إن من يعيشون في عالم تكون فيه القوى الخارجية البيئية هي القوى المهمة، نتوقع منهم أن يولوا اهتمامًا وانتباهًا شديدين للبيئة المحيطة. وإن من يعيشون في عالم تكون فيه الثمار والنتائج وليدة الفعالية الشخصية، سوف يركزون أساسًا على الموضوعات التي بوسعهم التعامل معها، والتأثير فيها، لخدمة أهدافهم هم.
(١) النظرة الكلية مقابل التحليل
كنت يومًا جالسًا في طائرة أقلعت من شمال كاليفورنيا، حين سمعت صوت رجل — أمريكي أوروبي الأصل — يوجه أسئلة إلى ابنه البالغ سنتين ونصفًا:
على الرغم من أن هذا الحديث المتبادل قد يبدو في نظر الغربيين عاديًّا، إلا أنه وفقًا للمعايير الشرق آسيوية أمر غير عادي تمامًا. تقوم أسئلة الأب على توجيه انتباه ابنه إلى موضوعات بذاتها، ويسأله عن خواصها. وبينما يبدو هذا في نظر الغربيين أسلوبًا طبيعيًّا جدًّا لتوجيه انتباه الطفل، فإنه ليس كذلك في نظر أبناء شرق آسيا. وأسباب ذلك تكشف عن دلالات عميقة من حيث الاختلافات الثقافية، وأثرها في الإدراك والمعرفة.
والجدير ذكره هنا أن عالمين من علماء نفس المعرفة، هما موتسومي إيماي، وديدر جنتنر، عرضا موضوعات مؤلفة من مواد محددة على أمريكيين ويابانيين من أعمار مختلفة، تتراوح ما بين أقل من سنتين وحتى سن البلوغ. ووصفا لهم الموضوعات المعروضة بعبارات محايدة، من حيث بيان أنها موضوعات أم مادة (جوهر). مثال ذلك أن يعرضا هرمًا مصنوعًا من الفلين ويطلبا من المشاركين «النظر إلى هذا التكوين»، ثم يعرضا بعد ذلك على المشاركين صينيتين، إحداهما موضوع عليها شيء له الشكل نفسه للموضوع المعروض سابقًا، ولكنه مصنوع من مادة مختلفة (مثال ذلك: هرم من البلاستيك الأبيض)، وعلى الأخرى شيء مصنوع من المادة نفسها ولكنه ذو شكل مختلف (مثال ذلك: قطع من الفلين). وطلب الباحثان بعد هذا من المشاركين أن يشيروا إلى الصينية التي عليها «التكوين» الذي رأوه التكوين الأصلي.
كان الأمريكيون أميل إلى اختيار الشكل نفسه باعتباره التكوين الأصلي، على عكس اليابانيين. ويفيد هذا بأن الأمريكيين رمزوا إلى ما رأوه بأنه موضوع. وكان اليابانيون أميل إلى اختيار المادة نفسها باعتبارها التكوين الأصلي، مما يفيد بأنهم رمزوا إلى ما رأوه باعتباره مادة-جوهر. وتبين أن الاختلافات بين الأمريكيين واليابانيين كبيرة جدًّا؛ إذ كان المتوسط، وعلى مدى محاولات كثيرة تضمنت عروضًا مختلفة، أن أكثر من ثلثَي الأطفال الأمريكيين البالغين من العمر أربع سنوات، اختاروا موضوعًا آخر باعتباره التكوين الأصلي، بينما لم يفعل هذا سوى أقل من ثلث الأطفال اليابانيين البالغين من العمر أربع سنوات. كذلك كانت الفوارق متساوية بالنسبة إلى الكبار. وأكثر من هذا أن الأطفال من عمر سنتين اختلفوا عن بعضهم؛ إذ كان صغار الأطفال الأمريكيين أميل إلى اختيار الموضوع دون صغار الأطفال اليابانيين.
إذا أخذنا النتائج التي توصل إليها كل من إيماي وجنتنر على ظاهرها، نجد أنها تشير إلى أن الغربيين وأبناء شرق آسيا يرون حرفيًّا عالمين مختلفين. إن الغربيين المحدثين، مثلهم مثل فلاسفة الإغريق القدامى، يرون عالم موضوعات، أي: أشياء منفصلة ومتمايزة وغير مترابطة. كذلك أبناء شرق آسيا المحدثون، مثلهم مثل فلاسفة الصين القدامى، يميلون إلى أن يروا عالم جواهر، أي: كتل متصلة من المادة. يرى الغربي تمثالًا مجردًا، بينما يرى الشرق آسيوي قطعة من رخام. ويرى الغربي جدارًا، بينما يرى الشرق آسيوي كتلة من الأسمنت. وثمة شواهد أخرى كثيرة — ذات طبيعة تاريخية أو قصصية أو علمية منهجية — تشير إلى أن لدى الغربيين نظرة تحليلية تركز على الموضوعات البارزة وصفاتها، بينما لدى أبناء شرق آسيا نظرة كلية تركز على مظاهر الاتصال في الجواهر والعلاقات في البيئة.
ومع مطلع القرن العشرين، ضمت المجاورة التي أسكن فيها آن آربور في النصف الأوسط من ميتشيجان بيوتًا كثيرة، هي أكواخ جذابة الشكل يسكنها عمال، ومبنية من جدران عبارة عن ألواح خشب، وأسقف عبارة عن جمالون مثلث. شحنت أخشاب هذه البيوت شركة سيرز رويبوك، وأفرغت حمولتها عند محطة القطار، لتحملها بعد ذلك إلى قمة التل عربات تجرها خيول، ثم ترصها بجوار بعضها كأنها لعبة اللغز المؤلف من عدد من القطع. وبعد ذلك بفترة غير طويلة كان هنري فورد، صاحب شركة صناعة السيارات، والتي يقع مقرها على بعد أربعين ميلًا من بلدتي، اخترع خط تجميع أجزاء السيارات. كان العمال يجمعون أجزاء السيارة، أو «ذراتها»، الواحدة مع قرينتها، بحيث يؤدون مجموعة أعمال تكرارية ومتطابقة المرة بعد الأخرى، في موقع ثابت، على مدى خط التجميع. وتجلب الشركة خام الحديد إلى المصنع المقام عند أحد طرفَي ريفر روج في ديربورن، ميتشيجان، وبعد صهره وتصنيعه أجزاء صغيرة، يجمِّعها العمال إلى بعضها عن طريق عمليات بسيطة متتابعة، ليخرج من الطرف الآخر السيارة فورد نموذج أ.
وبدأ الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، في أواخر القرن ١٨م ومطلع القرن ١٩م، عملية تذري (تحويل إلى ذرات)، أي: معايرة (تحويل إلى معايير) عالمَي الصناعة والتجارة. وجرى تقسيم وتجزئة إنتاج كل شيء، ابتداء من البندقية البدائية وحتى الأثاث، في صورة أجزاء معيارية قدر الإمكان، وأعمال في أبسط صورها، التي يمكن أداؤها مرارًا وعلى نحو متكرر. وهكذا جرى تحليل كل أداة عمل، وكل مكون من مكونات السلع، وكل عمل أو تصرف، مع الوصول به إلى أقصى درجات الفعالية. وأصبح الآن بالإمكان إنتاج سلع خلال ساعات بعد أن كانت تستغرق في أيدي الحرفيين شهورًا. وأصبح الزمن وحدة معيارية؛ ثلاث دقائق لتثبيت مسمار جهاز الاحتراق (الكاربيراتور)، ونصف دقيقة لتركيب شمعات الشرر.
وبداية من أواخر القرن التاسع عشر تحولت متاجر التجزئة إلى «سلاسل» معيارية. كان من الممكن أن تدخل متجرًا، وبعد ذلك بحوالي نصف قرن تدخل ماكدونالدز في أي مكان في مختلف أنحاء البلاد — والآن في مختلف أنحاء العالم — وترى في كل فرع صفوف البضائع نفسها، أو الموائد والساندويتشات نفسها في أي فرع منها. وأذكر أحد أفلام الكارتون التي أحبها، ويحمل عنوان «مواطن من نيويورك»، يصور الفيلم سيدتين أمريكيتين عجوزين تسألان حارس بوابة فندق: «هل هذا شيراتون جنيف أم شيراتون بروكسل؟»
ويمتد نطاق الموقف الذري للغربيين ليشمل فهمهم لطبيعة المؤسسات الاجتماعية. ونلحظ أن هامبدن-تورنر وترومبنارس في دراستهما الاستقصائية وجها سؤالًا إلى المشاركين عن رأيهم في الشركة، هل يرون الشركة منظومة تنظم المهام، أو كائنًا ينسق بين الناس العاملين:
-
(أ)
الشركة منظومة هدفها أداء وظائف ومهام بأسلوب كفء. وتؤجر العاملين بها لأداء هذه الوظائف بمساعدة ماكينات ومعدات أخرى، ويتقاضون أجرًا مقابل المهام التي يؤدونها.
-
(ب)
الشركة مجموعة من الناس يعملون معًا، وهؤلاء تربطهم علاقات اجتماعية بآخرين وبالمنظمة، وأداء الأعمال يتوقف على هذه العلاقات.
اختار حوالي ٧٥ في المائة من الأمريكيين التعريف الأول، وأكثر من ٥٠ في المائة من الكنديين والأستراليين والبريطانيين والهولنديين والسويديين اختاروا هذا التعريف نفسه، واختاره أيضًا حوالي ثلث اليابانيين والسنغافوريين. واحتل الألمان والفرنسيون والإيطاليون، كمجموعة، مكانًا وسطًا بين أبناء شرق آسيا وأبناء الثقافة البريطانية وشمال أوروبا. وهكذا فإن الغربيين، والأمريكيين بخاصة، وغيرهم من أبناء ثقافة شمال أوروبا أساسًا يرون الشركة مكانًا ذريًّا معياريًّا يؤدي فيه الناس وظائفهم المميزة. ولكن أبناء شرق آسيا، وبدرجة أقل أبناء شرق وجنوب أوروبا، يرون الشركة كيانًا تمثل فيه العلاقات الاجتماعية جزءًا مكملًا ومتكاملًا مع كل ما من شأنه أن يوحد الأشياء معًا.
واتسع نطاق النظرة الكلية للصينيين القدماء ليشمل معنًى عن وحدة الوجود البشري مع الوقائع الطبيعية، بل وما فوق الطبيعة. إن ما حدث على كوكب الأرض تردد صداه وأثره مع أحداث في الطبيعة وفي السماء، ويصدق الشيء نفسه على أبناء شرق آسيا المحدثين. إن الطاوية لا تزال سائدة بنفوذها في الصين وفي أنحاء أخرى من شرق آسيا. وعقيدة الشنتوية لا تزال مهمة وذات شأن في اليابان، ويحتفظ الاثنان بعناصر قوية من العقيدة الإحيائية، التي تؤمن بأن الحيوانات والنباتات والموجودات الطبيعية، بل والمصنوعات الفنية التي صنعتها يد الإنسان جميعها لها أرواح. ويُلاحَظ أن الإعلانات التي تؤكد على الطبيعة تحقق حتى الآن نجاحًا في آسيا أكثر منها في الغرب. واكتشفت شركة نيسان هذه الحقيقة، وكم كان حزنها عميقًا عندما استهلت حملتها الإعلامية لسيارتها، التي بلغت أوج الترف وذروة الإتقان في الولايات المتحدة، بصور عن السيارة ولكن مع مشاهد عن الطبيعة — غالبًا ما كانت صفحات باهظة الكلفة عن مشاهد متتابعة للطبيعة — ولم تتضمن سوى اسم السيارة في أحد أطراف هذه السلسلة، وكانت الحملة ضربًا من الفشل الذريع.
وإذا كانت الاتجاهات الاجتماعية والقيم في أوروبا القارة تحتل موقعًا وسطًا بين اتجاهات وقيم شرق آسيا من ناحية، واتجاهات وقيم الأنجلو-أمريكية، فإن التاريخ الفكري لقارة أوروبا أكثر ميلًا إلى النظرة الكلية من أمريكا وبلدان الكومونولث. إن الأفكار الدالة على النظرة الكلية نجدها في الثقافة الأنجلو أمريكية أندر منها في القارة الأوروبية. لقد شغل الفلاسفة الأنجلو-أمريكيون أنفسهم على مدى عقود طويلة بالتحليل الذري، أو ما يُسمَّى تحليل اللغة العادية. هذا بينما عُني الفلاسفة الأوروبيون في هذه الأثناء بابتكار الفلسفة الظاهراتية (الفينومونولوجية)، والوجودية، والبنيوية وما بعد البنيوية، وما بعد المودرنزم. والملاحظ أن كبرى المنظومات الفكرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية تنبع بداية وأساسًا من القارة، فالماركسية منتج فكري ألماني، وعلم الاجتماع ابتكره الفرنسي أوجست كونت، ثم ارتقى به إلى أرفع مستوًى له من حيث الإنجاز الألماني ماكس فيبر. ونجد أيضًا في علم النفس أن أبناء القارة هم أصحاب السيادة الذين هيمنوا على النظريات الكلية الكبرى؛ فرويد النمساوي وبياجيه السويسري ربما يكونان أعظم علماء القرن العشرين نفوذًا وتأثيرًا. كذلك في الميدان الفرعي الخاص بعلم النفس الاجتماعي برز عالمان ألمانيان، هما كورت ليوين وفريتز هايدر، اللذان أسهما بأكثر النظريات عمومية وشمولًا حتى الآن. وإن مدرسة علم النفس التي انتميت إليها متأخرًا هي مدرسة علم النفس الثقافي-التاريخي، التي أسسها عالما النفس الروسيان ليو فيجوتسكي وألكسندر لوريا.
(٢) إدراك العالم
إذا كان على أبناء شرق آسيا أن ينسقوا ويؤازروا سلوكهم مع الآخرين، وأن يتلاءموا مع المواقف؛ فإن لنا أن نتوقع منهم الاهتمام والانتباه عن كثب إلى مواقف وسلوك الآخرين أكثر مما هي حال الغربيين. وواقع الأمر أن لدينا من الشواهد والدلائل ما يؤكد أن أبناء شرق آسيا يولون اهتمامًا بالعالم الاجتماعي أكثر مما يفعل الغربيون. ووجدت أنا ولي-جون جي ونوربرت شوارتز دلائل على أن طلاب جامعة بكين لديهم معرفة بمواقف واتجاهات وسلوكيات نظرائهم أكبر من معرفة طلاب جامعة ميتشيجان. وسبق أن تألف فريق بحث من معاملنا في ميتشيجان برئاسة تري هيدين ودنيس بارك، ورئاسة كيشنج جنج بالمعهد الصيني لعلم النفس، وقام هذا الفريق بدراسة الكيفية التي تتأثر بها ذاكرة الكلمات بنمط الخلفية التصويرية التي تظهر فيها الكلمات. وطلب الفريق من الطلاب الصينيين والأمريكيين بالكلية، ومن آخرين من الكبار، أن ينظروا إلى عدد كبير من الكلمات. وجرى عرض بعض الكلمات فوق خلفية «اجتماعية» مؤلفة من صور لناس، وبعض الكلمات الأخرى على خلفية مؤلفة من موضوعات «غير اجتماعية»، مثل الأزهار، ومجموعة ثالثة، من الكلمات بدون خلفية على الإطلاق. وبعد أن رأى المشاركون مجموعة الصور كتبوا جميع الكلمات التي أمكنهم تذكرها. لم يكن هناك فارق بين الصينيين والأمريكيين في تذكر الكلمات التي جرى عرضها أول الأمر على خلفيات غير اجتماعية أو من دون خلفية. ولكن المشاركين الصينيين تذكروا عددًا من الكلمات المعروضة على خلفيات اجتماعية أكبر من العدد الذي تذكره المشاركون الأمريكيون. ويبدو أن ذاكرة صور الناس أفادت كعامل استعادة للكلمات التي اقترنت بها، مما يفيد بأن الصينيين أولوا اهتمامًا بالدلالات الاجتماعية أكثر من الأمريكيين.
وثمة سبب جيد للاعتقاد بأن الغربيين وأبناء شرق آسيا يدركون حرفيًّا العالم على نحو مختلف للغاية بعضهم عن بعض. الغربيون هم أبطال رواياتهم التي تحكي سيرهم الذاتية، أما أبناء شرق آسيا فهم مجرد ممثلين في أفلام تلمح إلى أساليب حياتهم. وأعد عدد من علماء نفس النمو، هم جيسيكا هان، وميشيل ليختمان، وكي وانج، دراسة تضمنت توجيه سؤال إلى أطفال أمريكيين وصينيين تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة والسادسة من العمر. طلبوا من الأطفال أن يرووا أحداثًا يومية من مثل ما فعلوه أثناء نومهم في الليلة الماضية، أو كيف أمضوا آخر احتفال بعيد ميلادهم. ووجد الباحثون ثلاثة أشياء لافتة للأنظار؛ على الرغم من أن جميع الأطفال أشاروا إلى أنفسهم أكثر من الإشارة إلى الآخرين، إلا أن نسبة الإشارة إلى الذات عند الأطفال الأمريكيين ثلاثة أمثال إشارة الأطفال الصينيين إلى أنفسهم. ثانيًا: قدم الأطفال الصينيون كثيرًا من التفاصيل الصغيرة عن الأحداث التي مروا بها، ووصفوها بإيجاز كوقائع. وتحدث الأطفال الأمريكيون بإسهاب وروية أكثر عن كثير من الأحداث المحدودة التي تحظى باهتمام شخصي من جانبهم. ثالثًا: أشار الأطفال الأمريكيون إلى أنفسهم ضعف إشارة الأطفال الصينيين إلى أنفسهم، من حيث الحديث عن الحالة الباطنية الخاصة وتفضيلاتهم وعواطفهم. صفوة القول أن لسان حال الأطفال الأمريكيين كأنه يقول: «حسن، كفى حديثًا عنك، لنتحدث عن نفسي.»
يتصف أبناء شرق آسيا بأن لديهم نظرة أكثر كلية وشمولًا إلى الأحداث تضع في الاعتبار توجه الآخرين من الناس. وهذا ما تشير إليه دراسة أجراها عالما النفس الاجتماعيان دوف كوهين وألكس جونز؛ إذ طلبا من طلاب أمريكيين شماليين (غالبيتهم كنديون)، وطلاب من شرق آسيا (خليط من هونج كونج والصين وتايوان وكوريا، وأقطار مختلفة من جنوب وشرق آسيا)، أن يتذكروا حالات محددة من عشرة مواقف مختلفة كانوا هم فيها محور الانتباه، مثال ذلك: «إن كانوا في حالة ارتباك». كان الأمريكيون الشماليون أكثر ميلًا من الآسيويين إلى استعادة المشهد من وجهة نظرهم الخاصة، وهم يتطلعون إلى الخارج. وكان الآسيويون أميل إلى تخيل المشهد كمراقب يصفه من منظور طرف ثالث.
وجدير بالإشارة إلى أن الدراسات المعروضة في هذا الباب، وكذلك جميع الدراسات التي أجراها فريقنا البحثي، التي اختبرنا خلالها بعض المشاركين باللغة الإنجليزية، والبعض بلغة أخرى؛ حرص خلالها الباحثون على استخدام طريقة «الترجمة العكسية»، ضمانًا لإمكان عمل مقارنة صحيحة؛ إذ كانت المادة تُؤلَّف باللغة «أ»، ثم تُترجَم إلى اللغة «ب»، بعد ذلك يأتي أحد مواطني اللغة «ب» يترجم المادة عكسيًّا إلى اللغة «أ». وإذا حدث وقرر مواطن اللغة «أ» أن الأصل والصيغة المترجمة عكسيًّا متطابقان في المعنى، يجري استخدام مواد الاختبارات كما تكونت. إذا لم تكن متطابقة نعيد ونكرر الإجراء مرة ثانية.
كان تلميذي الياباني الجديد تاكا ماسودا يبلغ طوله ست أقدام وبوصتين، ووزنه ۲۲۰ رطلًا. وهو لاعب كرة (نعم، كرة قدم، فهي أهم ثالث لعبة شعبية في اليابان). وبدهي أن كان مستثارًا لكي يلحق بفريق كرة القدم بعد وصوله بفترة قصيرة إلى ميتشيجان في الخريف. كان في الواقع عاشقًا للعبة، ويهتز لها كيانه طربًا، ولكنه يستشعر خوفًا شديدًا من سلوك زملائه؛ إذ كانوا يظلون وقوفًا ويحجبون عنه الرؤية. وقال لي: نحن في اليابان يتعلم كل امرئ منا منذ نعومة أظافره عبارة «احترس مما وراءك». ليس في هذا نوع من الشعور بالاضطهاد وجنون العظمة، وإنما على العكس، الفكرة هي أن تتأكد من أن ما تفعله لا يؤثر سلبًا في متعة أو راحة الآخرين، ولكن الطلاب الأمريكيين غير مبالين بمن خلفهم من الناس على نحو يبدو له نوعًا من القحة والغلظة.
ودفع سلوك هواة كرة القدم الأمريكيين ماسودا إلى اختبار فرض يقضي بأن الآسيويين يرون العالم من خلال عدسة منفرجة الزاوية، بينما الغربيون لديهم نظرة ضيقة كأنها عبر نفق. وأنجز ذلك مستخدمًا إجراء بسيطًا خادعًا؛ إذ عرض ثماني لقطات لصور حية ملونة تحت الماء، مثل الصورة المعروضة باللونين الأبيض والأسود عند رأس الصفحة التالية، عرضها على طلاب في جامعة كيوتو وجامعة ميتشيجان. تميز جميع المشاهد المصورة بأن بها سمكة أو أكثر تحتل بؤرة الصورة، وتتصف بأنها أكبر وأكثر لمعانًا، وأسرع حركة من أي سمك آخر في الصورة. واشتمل المشهد أيضًا على حيوانات متحركة بسرعة أقل، ونباتات وصخور وفقاعات هواء … إلخ. ويستمر عرض المشاهد لمدة حوالي عشرين ثانية، ثم تُعرض للمرة الثانية. ويُطلب من المشاهدين بعد العرض الثاني أن يحكوا ما رأوه. وجرى ترميز إجاباتهم على أساس ما أشاروا إليه؛ سمكة في بؤرة المشهد، أي موضوعات نشطة أخرى، الخلفية والموضوعات الساكنة … إلخ.
تساوى الأمريكيون واليابانيون في عدد الإشارات إلى السمكة التي تحتل بؤرة المشهد. ولكن اليابانيين كانت إشاراتهم إلى عناصر الخلفية أكثر من ٦٠ في المائة، بما في ذلك المياه والصخور والفقاعات والنباتات والحيوانات الساكنة. علاوة على هذا، بينما تساوى المشاركون اليابانيون والأمريكيون في عدد الإشارات إلى الحركة المتضمنة حيوانات نشطة، كانت إشارات اليابانيين ضعف إشارات الأمريكيين إلى العلاقات التي تتضمن خلفية لموضوعات ساكنة. ولعل أبلغ تعبير هو ما تضمنته أول جملة على لسان المشاركين اليابانيين في إشارة إلى البيئة؛ إذ قالوا: «تشبه غديرًا»، بينما كانت أول جملة على لسان المشاركين الأمريكيين، التي ترددت ثلاث مرات في إشارة إلى السمكة التي تحتل بؤرة الصورة: «توجد سمكة كبيرة، ربما تكون نوعًا من سمك التروت تتحرك جهة اليسار.»
مهمة خاصة بالتذكر
بعد أن قال المشاهدون إفادتهم عما شاهدوه في كل لقطة من لقطات الصور، عرض عليهم الباحثون صورًا ثابتة لستة وتسعين شيئًا، نصفها سبق لهم رؤيته، والنصف الآخر جديد عليهم لم يروه من قبل. وكانت المهمة المطلوبة هي أن يقولوا إذا ما كانوا قد رأوا هذه الأشياء من قبل أم لا. والجدير ذكره أن بعض الموضوعات التي رأوها بالفعل قبل ذلك سبق عرضها في بيئتهم الأصلية، والبعض الآخر جرى عرضها في بيئة جديدة. ويجد القارئ أمثلة عن كل من النوعين معروضة في أسفل الرسم. ولوحظ أن قدرة اليابانيين على التعرف على أنهم رأوا الشيء المعروض سابقًا تميزت بأنها أكبر موضوعيًّا حين يكون الشيء معروضًا عليهم في بيئته الأصلية مما لو جاء عرضه ضمن بيئة جديدة. ويفيد هذا بأن الشيء المعروض أصبح «مرتبطًا لزومًا» بالبيئة منذ رؤيته لأول مرة، وظل بصورته هذه المتكاملة في الذاكرة. ولم يظهر أي فارق بالنسبة إلى جميع الأمريكيين، سواء رأوا الموضوع في بيئته الأولية الأصلية أو في بيئة جديدة، مما يوحي بأن إدراك الشيء منفصل تمامًا عن بيئته.
وقام ماسودا بدراسة للمتابعة عرض أثناءها أنواعًا مختلفة من الحيوانات داخل سياقات مختلفة على أمريكيين ويابانيين. ولم يكن هدفه هذه المرة مقصورًا فقط على قياس دقة التعرف، بل وأيضًا سرعة المعالجة. وتبين للمرة الثانية أن اليابانيين أكثر تأثرًا من الأمريكيين بتغيير الخلفية؛ إذ وقعوا في عدد أكبر من الأخطاء عند عرض موضوعات الصور على خلفية جديدة، على عكس الحال عند عرضها على الخلفية الأصلية لها. علاوة على هذا، فقد تأثرت سرعة أحكام اليابانيين سلبًا عند عرض الموضوعات على خلفية جديدة، بينما لم تتأثر سرعة أحكام الأمريكيين.
لنفترض أن شخصًا اقترب منك وأنت في الطريق، وسألك عن الاتجاهات، وبينما أنت تتحدث إلى الشخص اقترب شخصان، ووقفا بينكما وهما يحملان لوحًا كبيرًا من الخشب الرقيق «الأبلكاش»، وأمسك الشخص الذي كان يتحدث إليك بطرف اللوح الخشبي، وبقي زميله بعد أن توارى الآخران، كأن زميله هو الشخص ذاته الذي كان يتحدث معك. تُرى إلى أي مدًى يمكن أن يذهب بك الظن إلى أنك كنت تتحدث مع مخادع؟ إنك ما لم تدرك أن الاثنين كانا توءمين متطابقين ربما تخمن بأن لا مجال لمثل هذا الخطأ. وكم هو يسير في الواقع خداع الناس بحيلة كهذه. والمعروف أن الناس بعامة لا يقبلون التصديق بواقع أن مشهدًا ما يرونه بأعينهم قد تغير موضوعيًّا. وهذا هو الأسلوب المتبع في بعض الحيل السينمائية.
وإحدى الدلالات الضمنية لفكرة أن أبناء شرق آسيا يولون اهتمامًا أكبر نسبيًّا من الغربيين للمجال؛ أن لنا أن نتوقع أن يكون الغربيون غير واعين نسبيًّا بالتحولات التي تطرأ على الموضوعات في الخلفية، وبالتحولات في العلاقات بين الموضوعات. ولنا أن نتوقع أيضًا أن الغربيين سيكونون أسرع من أبناء شرق آسيا في إدراك التقلبات الطارئة على الموضوعات البارزة في المقدمة. ورأينا أنا وماسودا أن ندرس هذا الإمكان؛ لذلك عرضنا قصاصات مختصرة لفيلم ملون بالكمبيوتر على مشاركين يابانيين وأمريكيين. كانت القصاصات شبه متطابقة وليست متطابقة تمامًا. ويوضح الرسم التالي نسخًا باللونين الأبيض والأسود لإحدى قصاصتين، ويعرض المشهد إطارين من منتصف القصاصتين. وكانت مهمة المشارك الإفادة من نقاط الاختلاف بين القصاصات. ويمكن للقارئ أن يكتشف أنها تختلف من نواحٍ عديدة. مثال ذلك أن دوار الدفع للطائرة المروحية في أسفل الصورة موجود على اليسار في إحدى النسختين، وعلى اليمين في النسخة الأخرى. كذلك عجلات الهبوط لطائرة الكونكورد، وهي في حالة انطلاق نازلة في إحدى الصورتين، ومرتفعة في الصورة الأخرى. وتختلف العلاقات بين الموضوعات أيضًا، مثال ذلك الطائرة المروحية والطائرة الأحادية المحرك أقرب إحداهما إلى الأخرى في نسخة عن النسخة الأخرى. أخيرًا تفاصيل الخلفية مختلفة؛ برج المراقبة مختلف الشكل في نسخة عن الأخرى.
كما توقعنا مسبقًا، لحظ المشاركون اليابانيون أكثر من الأمريكيين بكثير عديدًا من الاختلافات في الخلفية بين القصاصتين، والعديد من الاختلافات في العلاقات. وكان الأمريكيون أميل إلى التقاط المتغيرات في الأشياء التي تحتل بؤرة الصورة والمقدمة.
وإذا كان أبناء شرق آسيا يولون انتباهًا أكبر من الغربيين للبيئة، فإن لنا أن نتوقع أن يكونوا أكثر دقة في إدراك العلاقات بين الأحداث. ورغبة منا في استكشاف هذه المسألة أنا ولي-جون جي وكي ينج ينج؛ عرضنا على مشاركين صينيين وأمريكيين لوحة على شاشة الكمبيوتر، وأطلقنا وميضًا على الجانب الأيسر من الشاشة يضيء شكلًا واحدًا من بين شكلين جرى اختيارهما كيفما اتفق، كأن يكون على سبيل المثال شكلًا تخطيطيًّا لميدالية، أو رسمًا تخطيطيًّا لبصيلة مصباح كهربائي. وعقب ذلك مباشرة أطلقنا وميضًا على الجانب الأيمن للشاشة يضيء شكلًا من شكلين آخرين جرى اختيارهما كيفما اتفق، مثال ذلك إصبع يشير إلى شيء أو رسم تخطيطي لعملة. وبعد بضع محاولات لم يحدث أي ارتباط بين ما ظهر على اليسار وما ظهر على اليمين. مثال ذلك أنه إذا كانت الميدالية هي التي ظهرت على اليسار فإنه لم يكن مرجحًا أن تظهر العملة على اليمين أكثر مما لو كان المصباح الكهربائي هو الذي ظهر على اليسار. ولكن بعد عدة محاولات أخرى ظهر ترابط يبدو أحيانًا قويًّا إلى حد كبير. وسألنا المشاركين عن مدى تقديرهم أو إحساسهم بقوة الترابط خلال كل مجموعة من المحاولات، وعن مدى ثقتهم بأنهم على صواب.
اتجهنا أيضًا أنا وجي وينج إلى دراسة ما إذا كان الأمريكيون أقدر من أبناء شرق آسيا على فصل موضوع ما عن سياقه. عرضنا على الآسيويين الشرقيين (أغلبهم صينيون وكوريون) والأمريكيين اختبار المؤشر والإطار، الخاص بكشف «الاعتمادية على المجال»، والذي ابتكره وتكين وزملاؤه. ويقضي هذا الاختبار بأن نعرض على المشاركين صندوقًا طويلًا في آخره مؤشر. ويمكن تطويع المؤشر في استقلال عن الصندوق، مما يساعد على تأطير الحبل. ومهمة المشارك هنا أن يحكم متى يكون المؤشر رأسيًّا تمامًا، وإن كان وضع الإطار يؤثر حتمًا في الأحكام بشأن المؤشر بدرجة ما. ويُعتبر المرء «معتمدًا على المجال» بقدر ما تكون أحكامه بشأن الوضع الرأسي المؤشر متأثرة بالسياق، أي: توجه الإطار. وتوقعنا مسبقًا أن الآسيويين الشرقيين سيكونون أكثر اعتمادًا على المجال، وهذا ما ثبت صوابه. لقد بدا من الصعب عليهم أكثر من الأمريكيين إصدار أحكام عن وضع المؤشر من دون التأثر بوضع الإطار.
(٣) التحكم في العالم
إذا كانت الحياة بسيطة، وما على المرء إلا أن يضع عينه على الهدف كي ينجز شيئًا ما؛ إذن فالحياة يمكن التحكم فيها. وإذا كانت الحياة معقدة، وعرضة لتقلبات الحظ دون إشعار سابق، فلن يكون مهمًّا نوع الهدف الذي ننشده؛ إذ ستكون الحياة أمرًا يصعب التحكم فيه بسهولة. وتكشف البحوث الاستقصائية أن أبناء شرق آسيا يشعرون بأنهم أقل من نظرائهم الغربيين في السيطرة والتحكم؛ لذلك فإنهم بدلًا من أن يحاولوا التحكم في المواقف نراهم أميل إلى محاولة توفيقها وملاءمتها. درس هذه الظاهرة علماء النفس الاجتماعيون بت مورلنج وشينوبو كيتاياما ويوري مي ياموتو؛ إذ طلبوا من طلاب يابانيين وأمريكيين أن يحكوا لهم عن حوادث عرضت لهم في حياتهم وتكيفوا فيها مع الموقف، وعن حوادث كانوا مسيطرين فيها على الموقف. كانت الأحداث التي اقتضت تكيفًا أكثر شيوعًا بين اليابانيين، حيث إن الأحداث التي تذكروها كانت أقرب عهدًا من الأحداث التي تذكرها الأمريكيون. وبدا أن الأحداث التي أمكن التحكم فيها أكثر شيوعًا لدى الأمريكيين عنها لدى اليابانيين؛ ذلك أن هذا النوع من الأحداث كان أقرب إلى ذاكرة الأمريكيين. وسألت مورلنج مشاركيها عن شعورهم في حالة كل موقف. لاحظت أن الأمريكيين، وليس اليابانيين، شعروا بالحرج والقلق وفقدان الأهلية عندما كان لزامًا أن يتكيفوا مع الموقف.
ويفيد دليل آخر أن شعور المرء بالتحكم ليس مهمًّا لدى الآسيويين بالقدر نفسه لدى الغربيين. وكشفت دراسة استقصائية عن شرق آسيويين وأمريكيين آسيويين وأمريكيين أوروبيين أن شعورهم بالتحكم في حياتهم يرتبط ارتباطًا قويًّا بالصحة العقلية عند الأمريكيين الأوروبيين، ولكنه أقل من ذلك كثيرًا عند الشرق آسيويين والأمريكيين الآسيويين. علاوة على هذا، فإن مشاعر الرفاه يعززها — عند الشرق آسيويين أكثر من الأمريكيين — وجود آخرين حولهم ممن يمكن لهم تقديم المساعدة لتوفير إمكانات التحكم. وبينما يبدو أن الغربيين يؤمنون بأن من الأمور الحاسمة أن تتوافر للمرء قدرة على التحكم الشخصي المباشر، نجد الشرقيين الآسيويين يؤمنون بأن النتائج ستكون أفضل إذا كانوا جميعًا معًا في مركب واحد.
وطلب عالم النفس المختص بالتنظيم الإداري، بي كرستوفر إيرلي، من مديرين صينيين وأمريكيين إنجاز مهام إدارية في ظل ظروف عديدة مختلفة. ظن المديرون إما أنهم يعملون وحدهم، أو يعملون مع أعضاء آخرين من فريقهم الخاص، أو مع جماعة من الإقليم نفسه في بلدهم ولهم مصالح مشتركة مطابقة لمصالحهم، أو يعملون مع أبناء جماعة خارجية، أي: من إقليم آخر من خارج بلدهم، لا يجمعهم شيء مشترك إلا القليل. وتم تجهيز الوضع بحيث إن المديرين شعروا فعلًا أنهم وحدهم في جميع الظروف. وظن المشاركون في ظروف «الجماعة الداخلية» و«الجماعة الخارجية» أن أداءهم سوف يجري تقييمه على مستوى الجماعة فقط، وليس على المستوى الفردي. كان أداء الصينيين عندما رأوا أنهم يعملون مع أعضاء الجماعة الداخلية أفضل من أدائهم حين رأوا أنهم يعملون مع جماعة خارجية. وكان أفضل أداء للأمريكيين حين رأوا أنهم وحدهم، ولم يظهر أي فارق بين العمل وهم يعتقدون أنهم مع جماعة داخلية أو خارجية.
إن القول المأثور «الأمان في الأرقام» يمكن أن يكون غربي النشأة، ولكن عالم النفس الاجتماعي سوسومو ياماجوشي وزملاءه بينوا أن طلاب الجامعة اليابانيين أكثر إيمانًا وتشبثًا بهذه العقيدة من الطلاب الأمريكيين. قالوا للمشاركين في دراستهم إنهم معنيون بالكشف عن آثار ونتائج «خبرة غير سارة»، وهي ابتلاع شراب مر في أثناء أداء مهمة محددة. وسوف يجري تخصيص المشاركين إما إلى وضع التحكم، وإما إلى وضع الخبرة غير السارة، وإن أيًّا من الوضعين سوف يتوقف على الحظ في اليانصيب.
تضمنت التجربة في الحقيقة وضعين، ولكنهما كانا وضعًا «أحاديًّا» ووضعًا «جماعيًّا»؛ إذ قيل للمشاركين في الوضع الأحادي أنهم سيسحبون أربع تذاكر يانصيب، كل تذكرة مطبوع عليها رقم. واعتقد جميع المشاركين في الوضع الجماعي أنهم جزء من جماعة مؤلفة من خمسة أشخاص (الذين لم يروا أعضاءها على الإطلاق)، وأن كل شخص سوف يسحب تذكرة يانصيب. وأوضح الباحثون للمشاركين في الحالين أن مجموع الأرقام على التذاكر الأربعة سوف يحدد من الذي سيتناول الشراب المر. وسأل ياماجوشي وزملاؤه المشاركين عن مدى احتمال أن يكونوا بين غير المحظوظين (لم يكن هناك أي سبب موضوعي لكي يظن المشاركون في أي من الحالين أن الفرص ستكون مختلفة في الوضع الأحادي عنها في الوضع الجماعي)، وظن اليابانيون أنهم على أرجح تقدير سيفلتون من الخبرة غير السارة في الوضع الجماعي. وظن الأمريكيون أنهم على أرجح تقدير سيفلتون في الوضع الأحادي. وتطابق سلوك النساء الأمريكيات مع سلوك اليابانيات؛ إذ اعتقدن أن الإفلات سيكون مرجحًا في الجماعة.
الدراسة التي أجراها ياماجوشي — علاوة على دراسة أخرى سنعرضها فيما بعد في هذا الباب — واحدة من الدراسات النادرة التي تكشف عن اختلاف الذكور والإناث الغربيين عن بعضهم، وأنه اختلاف أكبر مما هو حادث بين الذكور والإناث من أبناء وبنات شرق آسيا. ويمكن القول بوجه عام إننا إما أن نجد فوارق جنوسية (الجندر) بين كل من الثقافتين الغربية والشرق آسيوية — من حجم واحد — وإما لا نجد فوارق جنوسية خاصة بأي ثقافة. ولكن كما كان متوقعًا، تأسيسًا على نظريتنا عن الأصول الاجتماعية للفوارق المعرفية والإدراكية، فإن الإناث في كل من الثقافتين ينزعن إلى أن يكن أكثر انتحاء إلى النظرة الكلية من الذكور في توجهاتهن. بَيد أننا نجد هذا فقط في حوالي نصف الحالات، بينما الفوارق الجنوسية (الجندر) أصغر دائمًا من الفوارق الثقافية. وعجزنا عن تحديد الاختلاف بين المهام التي تكشف عن فوارق جنوسية، وتلك التي لا تكشف عنها.
وهكذا العالم في نظر الشرق آسيوي؛ مكان معقد مؤلف من جواهر/مواد متصلة، يمكن فهمه في ضوء الكل وليس في ضوء الأجزاء، ويخضع للتحكم الجمعي أكثر مما يخضع للتحكم الفردي. والعالم في نظر الغربي مكان بسيط نسبيًّا، مؤلف من موضوعات متمايزة، يمكن فهمها دون اهتمام كبير بالسياق، ويخضع بدرجة كبيرة للتحكم الفردي. عالمان مختلفان عن بعضهما غاية الاختلاف في الحقيقة.
ولكن عالم الغربيين ليس عالمًا يمكن التحكم فيه كما يرون. وها هي إلين لانجر، عالمة مختصة في علم النفس الاجتماعي، تحدد نقطة ضعف أساسية تسميها «وهم التحكم»، وتعرفه بأنه توقع أن النجاح الشخصي أكبر مما تكفله الاحتمالية الموضوعية. نعم يمكن أن يفيد الوهم أحيانًا في شيء ما. مثال ذلك أن إحدى الدراسات كشفت عن أن الناس يكون أداؤهم أفضل بالنسبة للمهام الروتينية عندما يؤمنون، عن خطأ، أن بوسعهم التحكم في ضوضاء عالية مشتتة للانتباه، والتي تقع على نحو دوري أثناء أداء المهام. وتوجد من ناحية أخرى بعض البراهين بشأن الوهم الذي يجعلنا نبدو بلهاء. في دراستي المفضلة اقتربت لانجر من بعض عمال يعملون بالبناء، وسألتهم إذا ما كانوا يرغبون في شراء تذكرة يانصيب مقابل دولار. إذا قال الشخص: نعم أشتري، فإنها إما أن تناوله التذكرة، أو أن تبسط حزمة من التذاكر وتطلب من الشخص أن يختار. وبعد أسبوعين عادت إلى جميع من اشتروا تذاكر، وقالت لهم إن أعدادًا كبيرة من الناس يريدون شراء تذكرة ولكن التذاكر نفدت. إذا كان أيكم يريد أن يبيع تذكرته لي فليقل ما الثمن الذي يريده؟ لاحظت في المتوسط أن من ناولتهم يدًا بيد التذكرة أبدوا رغبة في بيعها لها مقابل دولارين، ولكن من سمحت لهم بانتقاء تذاكرهم أرادوا تسع دولارات مقابل التذكرة الواحدة.
أحدثنا تغييرًا ظاهريًّا في مهمة الكشف عن تلازم التغير. والهدف من الصيغة الجديدة هو تحديد مدى احتمال أن يظهر موضوع محدد على الجانب الأيمن من شاشة الكمبيوتر مع ظهور موضوع محدد آخر على الجانب الأيسر. وهيأنا للمشاركين قدرة على التحكم في الموضوع الذي سيظهر على الجانب الأيسر من شاشة الكمبيوتر. وسمحنا لهم باختيار كم الوقت المنقضي مع كل محاولة بين عرض الموضوع على اليسار وعرض الموضوع الآخر على اليمين. ولوحظ في ضوء هذه الظروف أن الأمريكيين رأوا قدر ما رأى الصينيون من تلازم التغير، وكانوا واثقين، شأنهم شأن الصينيين، علاوة على هذا، كان الأمريكيون على مستوًى معقول من الدقة في تحديد درجة تلازم التغير التي شاهدوها، بينما كان الصينيون عمليًّا أقل قليلًا جدًّا في الدقة عندما تكون لديهم القدرة على التحكم، على عكس الحال إذا لم تكن لديهم هذه القدرة.
وفي اختبار المؤشر والإطار الذي أدخلنا عليه تغييرًا بسيطًا، هيأنا للمشاركين قدرة على التحكم في المؤشر بما يسمح لهم بتدويره بأنفسهم. ووضح في هذه التجربة أن الأمريكيين أصبحوا أكثر ثقة في دقة أحكامهم، بينما لم يصبح أبناء شرق آسيا أكثر ثقة. ولوحظ أيضًا أن الرجال الأمريكيين الذين كانوا الأدق بين الجماعات التي بدأنا بها أصبحوا عمليًّا، ولا يزالون، هم الأكثر دقة. ولكن الدقة بالنسبة إلى أبناء شرق آسيا وإلى النساء الأمريكيات لم تتأثر نتيجة للقدرة التي هيأناها لهم للتحكم.
(٤) ثبات أم تغير؟
«حين نفكر في مستقبل العالم نعتقد دائمًا أنه سيكون حيث يتعين له أن يكون إذا ما استمر يتحرك كما نراه يتحرك الآن. ونحن لا ندرك أنه لا يتحرك في خط مستقيم … وأن اتجاهه في تغير دائمًا وأبدًا.»
«نحن نميل إلى التسليم دائمًا بأن الغد سيكون مثل اليوم، وبالمثل حين نكون على وعي بالحركة، فإننا نفترض أن الغد سيأتي مختلفًا عن اليوم تمامًا، مثلما أن اليوم مختلف عن الأمس … لقد أضحت دورة حياة الإنسان أطول، وسوف تكون أطول مستقبلًا. ونقصت ساعات العمل التي يعملها المرء على مدى العام، وسوف تنقص أكثر فأكثر … وكلما ازدادت حدة وعينا بالحركة، ازدادت قوة إيماننا باتصال واستمرار الحركة مستقبلًا.»
كما يبين في نهاية الأمر، فإن «نا» تمثل تعميمًا مفرطًا للغاية. لقد كان لدى فلاسفة الإغريق القدامى نزوع قوي نحو الاعتقاد أن الأمور لا يطرأ عليها تغير كبير أو أنها، إذا كانت تتغير حقًّا، فإن التغير مستقبلًا سوف يستمر في الاتجاه نفسه، وبالمعدل نفسه، للتغير الراهن. ويصدق الرأي نفسه بالنسبة إلى الغربيين المحدثين العاديين. ولكن أبناء شرق آسيا المحدثين، مثلهم مثل الطاويين والفلاسفة الكونفوشيوسيين القدامى، يؤمنون بأن الأشياء في تغير دائب، وأن الحركة في اتجاه بذاته أبعد من أن تشير إلى حدوث التغيرات مستقبلًا في الاتجاه نفسه، وربما تكون علامة على أن الأحداث ربما تعكس الاتجاه.
وإن هذه الافتراضات المختلفة عن التغير يمكن أن نستمدها من صور فهم مختلفة عن تعقد العالم، والتي تكون بدورها نتيجة وتجليًا للاهتمام بالجزء الصغير في البيئة، بدلًا من جماع أو مجموعات من الأجزاء. وإذا بدا العالم مكانًا صغيرًا، لأننا لا نولي القسط الأكبر منه اهتمامًا وانتباهًا، فإننا لن نتوقع تغيرًا كبيرًا. وحيث يكون التغير واقعًا مطردًا، فليس لدينا مبرر لافتراض بأنه سيؤدي إلى أي شيء غير استمراره في اتجاه واحد، ولكن إذا ما بدا العالم مكانًا شديد التعقد — لأننا نلحظ قدرًا كبيرًا من أحداثه — فإن الثبات سيكون هو الاستثناء، والتغيير هو القاعدة، وكلما ازداد عدد العوامل المؤثرة والفاعلة ازداد احتمال أن يؤدي متغير ما إلى تعديل معدل التغير، أو حتى يعكس اتجاهه. وجدير بالملاحظة أن الافتراضات الدورية تحديدًا، التي تقول بها الطاوية، يمكن أن تنبثق من هذه النظريات عن التعقد. أو ربما العكس تمامًا؛ الإيمان بأن العالم في حالة عود على بدء دائمًا، وهو اعتقاد من شأنه أن يفرز افتراض التعقد. ولكي نكون جدليين في هذه النظرة، يمكن القول باحتمال فعالية الاتجاهين معًا، وإن كلًّا منهما يغذي الآخر بالتبادل … في صورة دورة.
واشتركت مع لي-جون جي، الذي كان وقتذاك طالبًا بجامعة ميتشيجان، ويانجي سو، زميل بجامعة بكين، وذلك لدراسة المعتقدات الصينية والأمريكية عن التغير. وسألنا في دراسة منها طلاب جامعة ميتشيجان وجامعة بكين إلى أي مدًى يعتقدون أن المرجح أن يطرأ تحول جذري على وضع ما لبعض الأمور. مثال ذلك: «لوسيا وجيف كلاهما من قدامى طلاب الجامعة نفسها، اعتادا أن يلتقيا معًا بانتظام على مدى عامين، إلى أي مدًى ترجحون أن علاقتهما سوف تنقطع بعد التخرج؟»
وكان هناك أربعة موضوعات كهذه للسؤال عن احتمال التغير. لوحظ في الحالات الأربعة جميعها أن الصينيين رأوا التغير أكثر ترجيحًا من الأمريكيين. ورأى الصينيون في المتوسط أن التغير مرجح بنسبة ٥٠ بالمائة من الوقت، ورأى الأمريكيون أن التغير مرجح بنسبة ٣٠ بالمائة من الوقت.
وفي دراسة أخرى عرضنا أنا وجي وسو على المشاركين من طلاب جامعة بكين اثني عشر رسمًا بيانيًّا في كراسة. ويعرض كل رسم بياني خريطة لاتجاه مزعوم على مدى فترة زمنية، من مثل معدل النمو الاقتصادي العالمي، أو معدل الوفيات في العالم بسبب السرطان. مثال ذلك: معدلات نمو الاقتصاد الكوكبي (تغير النسبة المئوية سنويًّا من إجمالي الناتج القومي الحقيقي) كانت ۳٫۲ بالمائة، ۲٫۸ بالمائة، ۲٫۰ بالمائة للأعوام ١٩٩٥م، ۱۹۹۷م، ١٩٩٩م على التوالي.
وسألنا المشاركين عما يرونه مرجحًا لمعدل النمو الاقتصادي الكوكبي أن يرتفع أم ينخفض أم يظل كما هو عام ٢٠٠١م.
وكانت الاتجاهات المعروضة إما النمو أو الانخفاض، وكان معدل التغيير إما متسارعًا أو متناقصًا. ويوضح الرسم منحنى نمو متسارع إيجابي، ومنحنى نمو متسارع سلبي. وذهبنا في تفكيرنا إلى أنه كلما تعاظمت الزيادة في معدل التغير كان مرجحًا أكثر أن الصينيين سيتوقعون تباطؤًا أو حتى تحولًا عكسيًّا للاتجاه. وكلما زاد معدل التغير في اتجاه معين كان علامة على تحول عكسي في المستقبل القريب. ولكن بالنسبة للأمريكيين، فإن الزيادة في التسارع ربما تكون مؤشرًا قويًّا جدًّا على استمرار الحركة في اتجاه بذاته؛ ولهذا توقعنا أن تظهر الاختلافات على هذا النحو بين الصينيين والأمريكيين، وستكون عند تقييم الاتجاهات المتسارعة إيجابيًّا أكبر منها عند تقييم الاتجاهات المتسارعة سلبيًّا.
وتبين لنا، كما توقعنا، أن الأمريكيين قدموا تنبؤات متسقة مع الاتجاهات التي عرضناها عليهم أكثر مما قدم الصينيون. وصدق هذا بالنسبة لكل الاثني عشر رسمًا بيانيًّا التي عرضناها عليهم. ولوحظ أنه إذا صعد اتجاه معين كان الأمريكيون أميل من الصينيين إلى التنبؤ بأنه سيواصل الصعود. وإذا هبط الاتجاه كان الأمريكيون أميل من الصينيين إلى التنبؤ بأن الانخفاض سيطَّرد. وكانت هذه الاختلافات، كما توقعنا أيضًا، أكبر بالنسبة لاتجاهات التسارع الإيجابي عنها بالنسبة للاتجاهات المتسارعة سلبًا.
وفي شكل آخر لهذه الدراسة، عرضنا المجموعة نفسها من الرسوم البيانية الاثني عشر مع البيانات الثلاثة الأولية الخاصة بها على فريق جديد من المشاركين، وسألناهم أن يحددوا عمليًّا ما يتوقعون أن تكون عليه بيانات النقطتين التاليتين. كان الأمريكيون أميل إلى مواصلة السير في الاتجاه نفسه، وبالمعدل نفسه، كما بالإمكان أن نستنتج من الموضوعات السابقة. ولكن الصينيين في المتوسط العام تنبئوا بثبات التغير عند مستوًى محدد، وكانوا في مرات عديدة أميل من الأمريكيين إلى التنبؤ بأن يسير التغير في اتجاه عكسي. وأعود لأقول إن هذه الاتجاهات بدت أكثر وضوحًا عندما كانت الرسوم البيانية متسارعة إيجابيًّا عما كانت متسارعة سلبيًّا.
وتؤمن اليوطوبيات الغربية بما يلي:
-
هناك تقدم ثابت وخطي بدرجة أو بأخرى في اتجاههم.
-
ما إن تتحقق اليوطوبيات حتى تصبح حالة ثابتة.
-
نصل إليها بفضل الجهد البشري، وليس القدر أو تدخل مُفارِق.
-
تلتزم عادة بالمساواتية.
-
تُبنى عادة على أساس عدد قليل من الفروض المتطرقة عن الطبيعة البشرية.
وتُعتبر هذه الصفات من نواحٍ كثيرة النقيض التام للمستقبل كما يمكن أن يتصوره العقل البشري، الذي يميل إلى البحث عن طريق وسطى بين متطرفَين، ويفترض رِدة لا تقدمًا، أي: عودًا إلى البداية.
وجدير بالذكر هنا أن العبرانيين القدامى كانوا من هذه الناحية أقرب إلى الصينيين منهم إلى الإغريق. إن يوطوبيا العبرانيين، التي تمثلها جنة عدن، كانت قائمة في الماضي، وتمنوا لو تعود، أو إحياءها من جديد. وكانت فكرتهم عن طبيعة التغير مماثلة لفكرة الصينيين؛ إذ كانت لديهم فكرة واضحة عن ين ويانج الحياة. ولقد باع أنبياء العبرانيين في القرن الثامن قبل الميلاد عقاراتهم وممتلكاتهم إذا ما أصاب اليهود خير، وسارت حياتهم رخاء؛ إذ كانوا على يقين بأن الحياة دوارة، وسرعان ما تستدير نحو الأسوأ، واعتادوا أن يشتروا حين تسوء الأمور! ولا يزال هذا الاتجاه من الحياة باقيًا لدى طائفة اليهود المحدثين، وتحكي عنه نكات لا حصر لها: «أمي خمني ماذا، كسبت سيارة بونتياك من الياناصيب!» الأم: «آه، الضرائب وحدها ستسد علينا السبل، وتضعنا أسرى الفقر.»
إذا استمرت الفوارق في الافتراضات بشأن اتجاه التقدم البشري، وإذا صاغ الناس الحياة على غرار اتجاه حياة بشرية وحيدة، فإن لنا أن نتوقع أن يؤمن الغربيون بأن مستقبلهم الخاص سوف يتحرك باستمرار في اتجاه واحد، من شر إلى خير، أو من خير إلى شر. ويمكن لأبناء شرق آسيا أن يتوقعوا أن تعاني حياتهم من تقلبات في الحظ، من خير إلى شر إلى خير، أو من شر إلى خير إلى شر. ورغبة منا في دراسة هذه الإمكانات؛ عمدت أنا وجي وسو إلى مطالبة عدد من طلاب جامعتَي ميتشيجان وبكين بأن يتنبئوا بمسار السعادة في حياة كل منهم. وعرضنا عليهم ثمانية عشر اتجاهًا مختلفًا للاختيار من بينها، ستة منها مسارات خطية — مستقيمة صعودًا أو هبوطًا ولكن مع تذبذبات على مدى المسار — واثنا عشر منها لا خطية، إما تتوقف عند الاتجاه الأول، وإما تعكس مسار الاتجاه الأول لتغير الحياة. لوحظ أن نصف الأمريكيين تقريبًا اختاروا واحدًا من المسارات الستة الخطية للحياة باعتقادهم أنه الأكثر احتمالًا. هذا بينما أقل من ثلث اختيارات الصينيين كانت خطية. (لم تكن الاختيارات مردُّها إلى افتراضات تشاؤمية أو تفاؤلية عن مسار الحياة؛ إذ كان الفريقان متعادلين من حيث الشعور بأنهم سيبلغون النهاية سعداء، وكذا من حيث الشعور بأنهم سينتهون إلى وضع غير سعيد.)
معنى هذا أن أبناء شرق آسيا، مثلهم مثل أسلافهم، يؤمنون بأن العالم زاخر بالتغيرات، وأنه ما طار طائر وارتفع إلا كما طار انخفض. بينما الغربيون (أو لنقُل: الأمريكيون؛ حيث لا توجد لدينا بيانات عن غربيين آخرين فيما يتعلق بهذه النقطة) يعتقدون بأن ما يصعد ليس بحاجة إلى أن يهبط ثانية.
ورأينا في الباب الثالث أن التنظيم الاجتماعي والممارسات الاجتماعية لدى أبناء شرق آسيا المحدثين، تشبه ما كان لدى الصينيين قديمًا، وأن التنظيم الاجتماعي والممارسات عند الأوروبيين المحدثين تشبه ما كان لدى الإغريق القدامى. ورأينا في هذا الباب أن أبناء شرق آسيا المحدثين، مثلهم مثل الصينيين القدماء، يرون العالم في صورة كلية، إنهم يرون جانبًا كبيرًا من المجال، خاصة أحداث الخلفية العامة. وإنهم مهرة في إدراك العلاقات بين الأحداث، ويرون العالم مركبًا وقابلًا للتغير بدرجة كبيرة، وأن مكوناته متداخلة متشابكة. كذلك يرون الأحداث تتحرك في دورات بين طرفين متناقضين، ويشعرون بأن التحكم في الأحداث يستلزم تآزرًا وتنسيقًا مع الآخرين. ولكن الغربيين المحدثين، مثلهم مثل الإغريق القدامى، يرون أن العالم في صورة تحليلية ذرية، وأن الموضوعات متمايزة ومنفصلة عن بيئاتها، وأن الأحداث تتحرك في مسار خطي، إذا تحركت أصلًا، ويشعرون بأنهم شخصيًّا متحكمون في الأحداث والوقائع، حتى وإن لم يكونوا كذلك. والملاحظ أن الاختلاف ليس قاصرًا فقط على النظرة إلى العالم من حيث المفاهيم، بل وأيضًا ينظرون إلى العالم حرفيًّا بأسلوبين مختلفين. يرى أبناء شرق آسيا الصورة الكبرى الكلية، ويرون الموضوعات في علاقتها بالبيئة. إلى الحد الذي يتعذر عليهم فيه فصل الموضوعات بصريًّا عن بيئاتها. ولكن الغربيين يركزون على الموضوعات بينما يهملون المجال، ويرون حرفيًّا عددًا أقل مما يرى أبناء شرق آسيا من موضوعات وعلاقات في البيئة.
وإذا كان هناك بعض من يرى العالم من خلال عدسة منفرجة الزاوية، ويرون الموضوعات في سياقاتها، بينما يركز آخرون أولًا وأساسًا على الموضوع وخواصه، إذن فمن المرجح أن يفسر كل طرف الأحداث تفسيرًا مختلفًا عن الآخر. إن أصحاب النظرة المنفرجة الزاوية ربما يميلون إلى أن يروا الأحداث ناتجة عن نقل عوامل في سياقات معقدة ومتداخلة. بينما من ينظرون عبر بؤرة ضيقة نسبيًّا ربما يكونون أميل إلى تفسير الأحداث أولًا وأساسًا في ضوء خواص الموضوعات. وسوف نرى في الباب التالي إذا ما كانت النظرتان المختلفتان إلى العالم مرتبطتين حقًّا بأنواع مختلفة من التفسيرات السببية للحدث نفسه.