هل العالم مؤلَّف من أسماء أم أفعال؟
«الألوان الخمسة تُعمي عينَي المرء. الأنغام الخمسة تصيب أذنَي المرء بالصمم. المنكهات الخمس تفسد حاسة الذوق.»
يحكي لنا جورج لويس بورخيس، الكاتب الأرجنتيني، أنه كانت هناك دائرة معارف صينية قديمًا تحمل اسم «الموسوعة السماوية للمعارف الخيرية»، أو «الموسوعة السماوية للعلم النافع». وتضمنت التصنيف التالي للحيوانات: (أ) الحيوانات المملوكة للإمبراطور. (ب) المحنطة. (ﺟ) المروَّضة المدرَّبة. (د) الخنازير الرضيعة. (ﻫ) الحوريات. (و) الحيوانات الخيالية. (س) الكلاب الضالة. (ص) تلك الواردة في هذا التصنيف. (ع) تلك التي ترتعد كأنها مجنونة. (ف) الحيوانات المرسومة بفرشاة رقيقة صقيلة جدًّا مصنوعة من شعر الحمل. (ق) حيوانات أخرى. (م) تلك التي كسرت زهرية. (ي) تلك التي تشبه الطيور عن بعد.
إننا حتى إن قلنا إن بورخيس ربما اخترع هذا التصنيف لأغراض في نفسه، إلا أن المؤكد أن الصين القديمة لم تصنف العالم إلى فئات بالطرق نفسها التي اتبعها الإغريق القدامى. ذهب الإغريق القدماء إلى أن الأشياء تدخل ضمن مقولة أو فئة واحدة إذا كان بالإمكان وصفها بصفات واحدة. ولكن الفيلسوف دونالد مونرو يوضح لنا في حديثه عن الصينيين أن الصفات المشتركة بين الأشياء لا تعني تأسيس فئة عضوية مشتركة بينها. وإنما كان الأمر على العكس من ذلك؛ إذ جرى تصنيف الأشياء في فئة مشتركة لأنهم ظنوا أنها تؤثر بعضها في بعض عن طريق الرنين. مثال ذلك المنظومة الصينية للعمليات الخمس التي تضم فئات الربيع والشرق والخشب والرياح والأخضر؛ ذلك لأن بعضها يؤثر في البعض الآخر. وإن أي تغير يطرأ على الرياح من شأنه أن يؤثر في كل الفئات الأخرى، في عملية أشبه بالصدى الجمعي دون تماسٍّ فيزيقي يتخلل أيًّا منها. ويلحظ أيضًا الفيلسوف دافيد موسار أن التماثل بين الفئات، وليس التماثل بين أفراد الفئة نفسها، هو ما كان يهم الصينيين قديمًا. إنهم ببساطة لم يكونوا معنيين بالعلاقة بين الأفراد أعضاء الفئة؛ فئة «حصان» مثلًا، ثم الفئة إجمالًا ككل (أحصنة).
ويبدو في الحقيقة أن الصينيين كان لديهم عزوف عن التصنيف الفئوي. هكذا نجد الفيلسوف الطاوي قديمًا شوانج تسو يقول: «… المشكلة … فيما يتعلق بعدد البنود والصفات التي يمكن تحديدها، تقود المرء إلى اتجاه خاطئ. إن تصنيف أو تحديد المعرفة يحطم المعرفة الأعظم ويفتتها.» ونقرأ في كتاب «طاو تي شنج» النظرة السوداوية التالية عن الآثار الناجمة عن الاعتماد على الفئات:
والملاحظ أن عدم الاهتمام بفئات الموضوعات المشتركة فيما بينها في صفات واحدة يتسق مع المخطط العام الذي التزم به الصينيون قديمًا في نظرتهم إلى العالم، وتعاملهم معه؛ إذ رأوا أن العالم مؤلف من جواهر/مواد متصلة؛ لذلك كان ما يعنيهم هو ثنائية الجزء-الكل. ولكن البحث عن القسمات المشتركة بين الموضوعات وتقسيمها إلى فئات على هذا الأساس لم يكن يمثل في نظرهم نشاطًا جم الفائدة، ما لم تكن الموضوعات نفسها وحدة التحليل. وحيث إن عالم الإغريق القدامى مؤلف من موضوعات؛ فإن العلاقة الطبيعية في نظرهم هي علاقة الفرد-الفئة. ولقد كان إيمان الإغريق القدامى بأهمية هذه العلاقة يشكل محور إيمانهم بإمكان الاستدلالات الاستقرائية الدقيقة؛ إذ إن معرفة أن موضوعًا ما ينتمي لمقولة-فئة ما ذات خاصية مميزة، يعني أن بوسع المرء أن يفترض أن موضوعات أخرى تنتمي إلى الفئة لها أيضًا الخاصية نفسها. فإذا قلنا إن إحدى الثدييات لها كبد، فإن لنا أن نقول إن جميع الثدييات كذلك، ونكون على صواب. وطبيعي أن التركيز على تنظيم المعرفة على أساس واحد-كثير، فرد-فئة، من شأنه أن يشجع الاستقراء من قضية واحدة مفردة، ولكن التمثيل المعرفي على أساس الجزء-الكل لا يفيد في ذلك.
(١) الفئات مقابل العلاقات في الفكر الحديث
مرة أخرى، نحن إزاء تراثَين فكريين مختلفين أشد الاختلاف في اليونان القديمة والصين القديمة. ومرة أخرى، لنا أن نتساءل عما إذا كانت العادات الذهنية للفلاسفة القدماء تشبه الإدراك والتفكير عند عامة الناس اليوم. لنا أن نتوقع، تأسيسًا على الشواهد والدلائل التاريخية بشأن الفوارق المعرفية، وعلى نظريتنا عن الأصول الاجتماعية لها بأن الغربيين المعاصرين (أ) لديهم ميل أكثر من أبناء شرق آسيا إلى تصنيف الموضوعات إلى فئات. (ب) يجدون من الأيسر لهم تعلم فئات-مقولات جديدة عن طريق تطبيق قواعد عن الخواص على الحالات الفردية. (ﺟ) الإكثار من الاعتماد على الاستقراء على أساس المقولات-الفئات بمعنى التعميم، انطلاقًا من الحالات الجزئية للفئة، وصولًا إلى حالات أخرى، أو إلى الفئة ككل. ولنا أن نتوقع أيضًا أن أبناء شرق آسيا، تأسيسًا على إيمانهم واقتناعهم بالصلة الوثيقة الممكنة بين كل حادثة وحادثة أخرى، ينظمون العالم أكثر مما يفعل الغربيون في ضوء العلاقات المدركة، وأوجه التماثل فيما بين الظواهر.
لنُلقِ نظرة على الموضوعات المصورة في الرسم المبين في الصفحة التالية. إذا كان للقارئ أن يضع اثنين معًا، فأيهما؟ لماذا يرى أن كلًّا منهما ينتمي إلى الآخر؟
إذا كنت غربيًّا فالأرجح أن ترى أن الدجاجة والبقرة تنتميان كل منهما إلى الأخرى. وعرض عالم نفس النمو ليانج-هوانج شيو صورة ثلاثية العناصر، مثل هذه الموضحة في الرسم، على أطفال أمريكيين وصينيين. ووجد شيو أن الأطفال الأمريكيين فضلوا تجميع الموضوعات لأنها تنتمي أو تندرج تحت فئة «التصنيفية للحيوانات»، أي: إن الشرط التصنيفي يمكن أن ينطبق على أي منهما. وفضل الأطفال الصينيون تجميع الموضوعات على أساس العلاقات؛ لذلك كان الأرجح عندهم أن يقولوا: البقرة والعشب في الصورة ينتميان كل منهما إلى الآخر؛ إذ إن «البقرة تأكل العشب».
وحصلنا أنا ولي-جون جي وجيونج جانج على نتائج مماثلة من مقارنة بين طلاب من الولايات المتحدة الأمريكية وطلاب من الصين الأم وتايوان، واستخدمنا في هذا الكلمات بدلًا من الصور. عرضنا على المشاركين مجموعات مؤلفة من ثلاث كلمات (مثل باندا وقرد وموز)، وطلبنا منهم بيان أي اثنين من الثلاثة أكثر تقاربًا. كشف المشاركون الأمريكيون عن تفضيل واضح للتجميع على أساس الانتماء إلى فئة مشتركة؛ حيوان الباندا والقرد؛ إذ يندرجان في مقولة-فئة الحيوان. وكشف المشاركون الصينيون عن تفضيل واضح للتجميع على أساس العلاقات الموضوعية (مثل قرد وموز)، وبرروا إجابتهم في ضوء العلاقات؛ القرد يأكل الموز.
إذا كانت السبيل الطبيعية لتنظيم العالم عند الغربيين هي تنظيمه في ضوء مقولات-فئات والقواعد المحددة لها، إذن لنا أن نتوقع أن يكون إدراك التماثلات بين الأشياء عند الغربيين متأثرًا تأثرًا كبيرًا بالدرجة التي يمكن بها تصنيف الموضوعات إلى فئات عن طريق تطبيق مجموعة من القواعد. ولكن إذا كانت الفئات أقل بروزًا ووضوحًا لإدراك أبناء شرق آسيا، إذن لنا أن نتوقع أن إدراكهم للتماثل سينبني أكثر على أساس التشابه الفصيلي بين الموضوعات.
ورغبة منا في اختبار هذه الإمكانية، عمدنا أنا وأرا نورنزايان وإدوارد إي سميث وبيوم جون كيم إلى الآتي؛ أعطينا أشكالًا تخطيطية عامة كما هو موضح في الرسم التالي إلى مشاركين كوريين وأمريكيين أوروبيين وأمريكيين آسيويين، ويتألف كل عرض من موضوع في أسفل اللوحة، ومجموعتين من الموضوعات المبينة أعلى اللوحة. وحددنا مهمة المشاركين بأن يقولوا فقط أي مجموعة من الموضوعات يبدو معها الموضوع الهدف أكثر تماثلًا. ولعل القارئ يريد أن يتخذ حكمًا بشأن الموضوعات المبينة في اللوحة قبل القراءة عنها.
ذهب غالبية الكوريين إلى الظن بأن الموضوع الهدف أكثر شبهًا بالمجموعة التي على اليمين (۱)، بينما اعتقد أغلب الأمريكيين الأوروبيين أن الموضوع أقرب شبهًا بالمجموعة (۲) على اليسار. والملاحَظ أن الموضوع الهدف يحمل شبهًا فصيليًّا واضحًا بالمجموعة التي على اليمين (۱)؛ لذا من اليسير علينا أن نتبين لماذا رأى الكوريون الموضوع أكثر شبهًا بتلك المجموعة. وواقع الأمر أنهم فعلوا هذا بنسبة ٦٠ في المائة في المرة. ولكن ثمة قاعدة بسيطة غير متغيرة مشتركة مع المجموعة (۲) على اليسار. والقاعدة هي «أن لها جذعًا مستقيمًا» (عكس المنحني). وهذه هي تحديدًا القاعدة التي اكتشفها الأمريكيون الأوروبيون، ووضح أن ٦٧ في المائة في كل مرة وجدوا أن الموضوع الهدف أكثر شبهًا بالمجموعة من هذه الزاوية التي تشكل القاعدة الأساسية للتقسيم الفئوي. واحتلت أحكام الأمريكيين الآسيويين مكانًا وسطًا، ولكن أقرب شبهًا بأحكام الكوريين.
يجري أحيانًا تعلم المقولات-الفئات عن طريق تطبيق القواعد على القسمات المميزة. نحن نقول إن الأرانب حيوانات ثديية لأننا تعلمنا قاعدة، هي أن الحيوانات التي ترضع صغارها حيوانات ثديية. (وهذا صحيح حسب تحديد معنى الفئات من حيث الشكل. ولكن الملاحظ عمليًّا أن غالبية الناس ربما يتعلمون معرفة الثدييات على أساس وصفها ظاهريًّا بهذه الصفة: «هذا الأرنب حيوان ثديي»، و«هذا الأسد حيوان ثديي.» ومن هنا فإن الفئة العامة السائدة، والتي يتعلمها الجمهور، إنما تنبع من الخصائص المشتركة التي نشاهدها: جسمه مغطًّى بالفرو، له أربعة أقدام … إلخ.)
ويبدو أن النمذجة الصريحة المحددة أو صياغة القاعدة خاصية مميزة للتفسير السببي عند الغربيين أكثر مما هي مميزة عند أبناء شرق آسيا. وإذا كان استخدام أبناء شرق آسيا للقواعد والقوانين لفهم العالم أقل احتمالًا، وإذا كان استخدامهم أيضًا للمقولات-الفئات أقل احتمالًا كذلك؛ فإنهم ربما يجدون من الصعب عليهم استخدام الفئات، وربما يجدون عسيرًا عليهم تعلم الفئات عن طريق تطبيق قواعد وقوانين صريحة ومحددة على الموضوعات. وأراد أرا نورنزايان وزملاؤه اختبار هذا الاحتمال؛ لذلك عرضوا أشكالًا كارتونية ملونة تشبه الأشكال المعروضة بالأسود والأبيض في الرسم التالي على طلاب من أبناء شرق آسيا وأمريكيين آسيويين وأمريكيين أوروبيين في جامعة ميتشيجان، وقلنا للمشاركين إنهم سيتعلمون كيف يصنفون الحيوانات على أساس أنها وافدة من كوكب الزهرة أو كوكب زحل.
قلنا للمشاركين إننا نعتبر الحيوان وافدًا من الزهرة إذا توافرت له ثلاث قسمات من بين خمس رئيسية؛ ذيل معقوص، وحوافر، ورقبة طويلة، وفم، وأذنين طويلتين مثل الإيريال. ويُعتبر الحيوان من كوكب زحل إذا لم تكن له هذه القسمات. والملاحظ أن الحيوان في يمين أعلى الصورة (ويبدو في الشكل المعروض على المشاركين ذا لون أزرق) تنطبق عليه معايير الحيوان الوافد من الزهرة. والحيوان في يسار أعلى الصورة (ويبدو للمشاركين بلون أحمر) ليست به هذه القسمات، ويوضع في خانة أو فئة زحل. وبعد أن تعلم المشاركون كيف يصنفون الحيوانات بطريقة صحيحة، اختبرنا مدى تحكمهم في هذه الفئات، وذلك بأن عرضنا عليهم حيوانات جديدة لنرى مدى السرعة والدقة في تصنيفهم لها. واشتملت الحيوانات الجديدة على نمطين يشبهان الأنماط السابق عرضها. بعض هذه الحيوانات كانت «نظائر موجبة»؛ تشبه حيوانًا رآه المشاركون من قبل أثناء محاولات التدريب، وتنتمي إلى الفئة نفسها من حيث القواعد الخاصة بقسماتها. وحيوانات أخرى «نظائر سلبية»؛ تشبه حيوانًا رأوه من قبل ولكنها، طبقًا للقواعد، تنتمي إلى فئة أخرى مختلفة عما رأوه في مرحلة التدريب. ويُلاحَظ أن الحيوان في أسفل يمين الصورة يُعتبر نظيرًا موجبًا للحيوان أعلى يمين الصورة؛ إذ يشبه الحيوان الذي جرى تصنيفه على أنه من كوكب الزهرة، وهذا هو ما توضحه القواعد أيضًا. ولكن الحيوان أسفل يمين الصورة نظير سلبي؛ إذ يشبه حيوان كوكب الزهرة، ولكن القواعد تقول غير ذلك.
استغرق المشاركون من أبناء شرق آسيا وقتًا أطول من الأمريكيين الأوروبيين أو الأمريكيين الآسيويين، لإصدار أحكامهم بشأن ما إذا كان الحيوان من الزهرة أم من زحل. وتساوت الفرق الثلاثة، من حيث السرعة والدقة، بالنسبة إلى النظائر الموجبة، وهي النظائر التي تساعد فيها كل من الذاكرة التي تعي المثل الذي رأوه في السابق، وكذا التطبيقات الصائبة للقواعد في تحديد الفئة من أجل الوصول إلى إجابة صحيحة. ولكن النظائر السالبة فهي على العكس؛ إذ لا يمكن تصنيفها تصنيفًا صحيحًا إلا إذا كان المشاركون يتذكرون جيدًا القواعد، ويمكنهم تطبيقها على نحو صحيح، ولهذا كانت أخطاء المشاركين من أبناء شرق آسيا في التصنيف ضعف أخطاء كل من الأمريكيين الأوروبيين أو الأمريكيين الآسيويين. ويبدو أن التصنيف الفئوي على أساس القواعد ليس يسيرًا على أبناء شرق آسيا بقدر ما هو يسير على الغربيين.
أي من النتيجتين المذكورتين فيما بعد، وكلتاهما تنتهي بعبارة «دم الأرانب يحتوي على إنزيم كيو»، تبدو أكثر إقناعًا لك؟ ولماذا؟
(١) | (٢) |
دم الأسود يحتوي على إنزيم كيو | دم الأسود يحتوي على إنزيم كيو |
دم النمور يحتوي على إنزيم كيو | دم الزراف يحتوي على إنزيم كيو |
دم الأرانب يحتوي على إنزيم كيو | دم الأرانب يحتوي على إنزيم كيو |
غالبية الغربيين الذين سألناهم هذا النوع من الأسئلة يقولون إن النتيجة ٢ أفضل. ويعطون سببًا لذلك يتمثل في صورة نتيجة قائمة على «التنوع» أو «الشمول»؛ ذلك أن الأسود والنمور نوعان متشابهان من نواحٍ كثيرة، وبذا فإنهما لا يشملان كل أعضاء فئة الثدييات التي ينتمي إليها الأرنب، ومن ثم فإن جماعتَي الأسود والزراف تمثلان طابعًا أفضل شمولًا لفئة الثدييات؛ لأنهما مختلفتان إحداهما عن الأخرى. والآن لنفكر في النتيجتين التاليتين، وكلتاهما تنتهي بعبارة «يحتوي دم الثدييات على إنزيم كيو»، أيهما تبدو أكثر إقناعًا لك؟
(١) | (٢) |
يحتوي دم الأسود على إنزيم كيو | يحتوي دم الأسود على إنزيم كيو |
يحتوي دم النمور على إنزيم كيو | يحتوي دم الزراف على إنزيم كيو |
يحتوي دم الثدييات على إنزيم كيو | يحتوي دم الثدييات على إنزيم كيو |
مرة أخرى يقول الغربيون: النتيجة الثانية أكثر إقناعًا، ويدللون على هذا بأن النتيجة الثانية تعبر عن شمول لفئة الثدييات أفضل من النتيجة الأولى.
عرضنا أنا وأنكيول شوي وإدوارد إي سميث مشكلات كهذه على طلاب جامعيين كوريين وأمريكيين. لوحظ أن الكوريين، دون الأمريكيين، أميل إلى تفضيل النتيجة الثانية عند ذكر الفئة ضمن النتيجة؛ ذلك أن الفئة الثديية لا تبدو في نظر الكوريين بارزة ما لم يَجرِ التأكيد عليها بالإشارة إليها تحديدًا وبشكل عملي. ونتيجة لهذا، يُعتبر مبدأ التنوع أهم لاستدلالاتهم عندما نذكرهم صراحة وتحديدًا أن الموضوعات التي يستهدفها السؤال هي ثدييات. وثمة نتيجة مرجحة بالنسبة إلى الفئات الأقل بروزًا في نظر أبناء شرق آسيا، وهي أنها لا تُذكي عند أبناء شرق آسيا فعالية الاستدلالات الاستقرائية بنفس القدر الذي تُحدِثه لدى الغربيين.
(٢) أن ينشأ المرء في عالم من الموضوعات أم العلاقات
كيف يتسنى لأبناء شرق آسيا اليوم أن يكون لديهم اهتمام قليل بالفئات، ويجدوا صعوبة في تعلم فئات جديدة عن طريق تطبيق القواعد بشأن الخصائص، ويستخدموها تلقائيًّا استخدامًا محدودًا جدًّا لأغراض الاستقراء؟ لماذا يميلون أكثر كثيرًا من الغربيين إلى الاهتمام بالعلاقات في تنظيمهم للموضوعات؟ يقينًا ليس السبب فقط هو أن الفلاسفة الصينيين قديمًا استخدموا المقولات-الفئات بشكل محدود جدًّا، وكانوا مهتمين أكثر بالعلاقات بين الجزء – الكل، وبالتشابهات الموضوعية أكثر من الاهتمام بالتصنيفات على أساس العضو-المقولة أو الفئة. ونحن نشك في القول بأن اهتمامات الفلاسفة أثرت في الأحكام الخاصة بموضوعات الحياة اليومية حتى إن كانوا فلاسفة معاصرين، ومن ثم إذا كانت العلاقات دون المقولات-الفئات هي التي لها الأهمية نسبيًّا عند أبناء شرق آسيا اليوم، فلا بد أن هناك عوامل لا تزال تعمل وتؤثر في التنشئة الاجتماعية للأطفال من شأنها أن تدعم مثل هذه الأساليب المختلفة في الإدراك وفي التفكير العقلي. ولنحاول معًا، قبل البحث عن هذه العوامل، أن نتأمل بعض الفوارق المهمة بين المقولات-الفئات وبين العلاقات.
الفئات-المقولات يُشار إليها عادة بالأسماء. ويبدو واضحًا أن الأسماء سيكون تعلمها أيسر من الأفعال بالنسبة إلى الأطفال. إن كل ما عليك أن تفعله لتعرف أن الحيوان الذي تراه الآن هو «دب» أن تلحظ قسماته المميزة؛ حجمًا ضخمًا، أنيابًا ومخالب كبيرة، فروًا كثًّا، مظهرًا مثيرًا مفزعًا، وهنا يمكنك أن تختزن هذا الموضوع في ذاكرتك تحت هذا الاسم والوصف. ويغدو هذا الوصف ميسورًا لتطبيقه على أي موضوع آخر له هذه الخاصيات.
ولكن العلاقات، من ناحية أخرى، تشتمل صراحة أو ضمنًا على فعل. إن تعلُّم معنى فعل متعدٍّ يتضمن عادة ملاحظة موضوعين، ونوعًا من النشاط يربط بين الفعلين على نحو ما. «أن ترمي» يعني أن تستخدم ذراعك وقبضة يدك لنقل شيء ما عبر الهواء إلى موقع آخر جديد. وإن مجرد الإشارة إلى الفعل لا يضمن لامرئ ما أن يعرف ما الذي تشير إليه.
ونظرًا إلى غموض الأفعال نسبيًّا، يبدو من العسير تذكرها. كذلك الأفعال عرضة لتقلُّب معناها أكثر من الأسماء حين يتواصل شخص مع آخر، أو عندما يفسر ما قاله آخر. وتحديد معنى الأفعال أصعب من الأسماء عند ترجمتها من لغة إلى أخرى. أكثر من هذا أن معنى الأفعال، وغيرها من المصطلحات التي تصف العلاقات، تختلف أكثر مما تختلف الأسماء في اللغات المختلفة. ويقول عالم النفس المعرفي ديدر جنتنر: «الأفعال تتصف بقدر عالٍ من التفاعلية، بينما الأسماء أميل إلى الركود وفقدان الحركة.»
إذا ما سلمنا بهذه الفوارق بين الأسماء والأفعال، لن ندهش كثيرًا حين نعرف أن جنتنر اكتشف أن الأطفال يتعلمون الأسماء أسرع كثيرًا من تعلمهم للأفعال. والحقيقة أن الأطفال الذين يَحْبون يمكنهم تعلم الأسماء بمعدل اسمين في اليوم الواحد، وهذا معدل أسرع كثيرًا من معدل تعلم الأفعال.
وذهب جنتنر إلى الظن، على أساس معقول تمامًا، أن الميزة الكبرى للأسماء ميزة عالمية كلية شاملة، ولكنها تنتهي إلى غير ذلك؛ إذ اكتشفت عالمة نفس النمو تويلا تارديف وآخرون أن أطفال شرق آسيا يتعلمون الأفعال بالمعدل نفسه لتعلم الأسماء، وبسرعة أكبر كثيرًا من سرعة تعلمهم الأسماء، مع بيان بعض التعريفات بشأن ما يُعتبر اسمًا. وثمة عوامل عديدة يمكن أن تشكل أساسًا لهذا الاختلاف الواضح.
- أولًا: الأفعال أكثر وضوحًا وبروزًا في لغات شرق آسيا منها في اللغة الإنجليزية ولغات أوروبية أخرى كثيرة. وتنزع الأفعال في اللغات الصينية واليابانية والكورية إلى أن تأتي إما في أول الجمل أو في آخرها، وكلاهما موقعان واضحان نسبيًّا. ونلحظ في اللغة الإنجليزية أن الفعل عادة يكون مختفيًا وسط الجملة.
- ثانيًا: لعل القارئ يتذكر ما ذكرته في الفصل الثالث عن الأب الذي سمعته يختبر طفله بشأن صفات البنطلون. إن الآباء في الغرب أسرى هاجس الأسماء، يشيرون بأصابعهم لتحديد الأشياء إلى أطفالهم، ويسمونها لهم، ويحكون لهم صفاتها. وكم يبدو غريبًا في نظر الغربيين أن أبناء شرق آسيا لا يعبئون كثيرًا بتسمية الموضوع باعتبار الاسم جزءًا من مهمة أحد الأبوين عند وصف شيء ما. وأذكر أن عالمتَي علم نفس النمو آن فيرنالد وهيرومي موريكاوا دخلتا بيوتًا يابانية وأمريكية، بها أطفال رضع تتراوح أعمارهم بين ستة شهور واثني عشر شهرًا أو تسعة عشر شهرًا. وطلبتا من الأمهات إبعاد لعب الأطفال عن مكان اللعب، وقدمتا بدلًا منها لعبًا عديدة أحضرتاها معهما؛ كلبًا محشوًّا وخنزيرًا محشوًّا وسيارة وشاحنة. وطلبتا من الأمهات أن يلعبن باللعب مع أطفالهن كما يحدث بينهم عادة. واكتشفتا فوارق كثيرة في سلوك الأمهات، حتى في سلوكهن مع صغارهن. استخدمت الأمهات الأمريكيات صفات وأسماء الأشياء ضعف استخدام الأمهات اليابانيات لها. وانهمكت الأمهات اليابانيات في تعليم معايير الأدب ضعف اهتمام الأمهات الأمريكيات بذلك (التقمص الوجداني، والتحيات، على سبيل المثال). ولوحظ أن ثرثرة الأم الأمريكية مع طفلها تجري على النحو التالي: «هذه سيارة، هل ترى السيارة؟ هل تحبها؟ السيارة لها عجلات جميلة.» ولكن الأم اليابانية يمكن أن تقول: «هاي، هذه دوك دوك، أعطيها لك، أعطها الآن لي، نعم، شكرًا.» ويتعلم الأطفال الأمريكيون أن العالم مكان به موضوعات وأشياء، ويتعلم الأطفال اليابانيون أن العالم في الغالب الأعم هو علاقات.
- ثالثًا: نعرف أن تسمية الموضوعات التي تشترك معًا في مجموعة من الخاصيات، تسفر عن تعلم فئة تتشكل من موضوعات، تشترك فيما بينها من قسمات. كذلك فإن تسمية الموضوعات التي بينها قسمات مشتركة يحفز إلى الانتباه للقسمات التي تسمح لهم بتشكيل فئات جديدة مبنية على أساس مجموعات متماثلة من الخاصيات. وحدث أن عالمة نفس النمو ليندا سميث وزملاءها عهدوا، بشكل عشوائي، إلى أطفال في الشهر السابع عشر من العمر بإحدى مهمتين؛ إما حالة ضابطة control condition، أو حالة تستمر لمدة تسعة أسابيع، يلعبون ويسمعون خلالها مرات ومرات أسماء لفئات موضوعات غير مألوفة ومحددة بالشكل، مثال ذلك: «كأس». أدى هذا إلى أن تعلَّم الأطفال الذين يَحْبون على الأرض الاهتمام بالشكل، وصوغ فئات من موضوعات، حتى تلك التي رأوها خارج الوضع التجريبي، يمكن تجميعها معًا على أساس بعض القسمات المحددة لها. وتمثلت النتيجة في أن كشف الأطفال بعد تدريبهم عن زيادة درامية في تحصيل أسماء موضوعات جديدة على مدى مرحلة الدراسة.
- رابعًا: يُلاحَظ أن الأسماء العامة (أي: أسماء الفئات) في اللغة الإنجليزية، وغيرها من اللغات الأوروبية، تتميز غالبًا ببناء نحوي خاص؛ إذ عندما يتحول النقاش إلى طائر مائي يمكنك القول: «بطة» أو «البطة» أو «البط» أو «بط». وتمثل الكلمة الأخيرة كلمة عامة، وهذا ما يقوله التركيب النحوي للجملة. وإنه لأمر لازم عادة الإبانة عما إذا كنت تتكلم عن موضوع أم عن فئة من الموضوعات، هذا على الرغم من أن السياق قد يؤدي هذه المهمة أحيانًا. ولكن الملاحظ في اللغة الصينية، وفي غيرها من اللغات ذات الأصول الصينية، أن المعايير السياقية والبرجماتية قد تكون هي الأنواع الوحيدة من المعايير التي يتعين على السامع متابعتها والبناء عليها. إن وجود بطة تخوض ماء بحيرة لتصل إلى الطعام، على سبيل المثال، قد يفيد معنى «البطة» التي يتحدث عنها المرء، وليست «بطة» أو «البط» أو «بط». ودرست عالمتا نفس النمو سوزان جيلمان وتويلا تارديف، أمهات يتكلمن الإنجليزية، وأمهات يتكلمن لغة صينية، ولحظتا أن الكلمات العامة التي يُنطق بها في عدد من السياقات أكثر شيوعًا لدى الأمهات اللاتي يتكلمن الإنجليزية.
أخيرًا هناك شواهد وأدلة مباشرة على أن أطفال شرق آسيا يتعلمون كيف يصنفون الموضوعات فئويًّا في مرحلة متأخرة عن أطفال الغرب، ودرس عالما نفس النمو واللسانيات، أليسون جوبنيك وسونجا تشوي، أطفالًا يتحدثون الكورية والفرنسية والإنجليزية، ابتداء من عمر سنة أو سنة ونصف السنة. واكتشفا أن مهارات تسمية الأشياء وتصنيفها إلى فئات تتطور لدى المتحدثين بالكورية في فترة متأخرة عن المتحدثين بالإنجليزية والفرنسية. ودرس الباحثان أحكام الوسائل-الغايات (من مثل: اكتشف كيف تأخذ هذه الأشياء من داخل الحاوية)، والتصنيف الفئوي الذي درسوه عن طريق عرض أربعة موضوعات من نوع واحد على الأطفال، وعرض أربعة من نوع آخر عليهم، من مثل أربعة مربعات صفراء مستوية السطح، وأربعة أشكال بشرية صغيرة. وطلبا من الأطفال ترتيبها في شكل محدد بحيث تبدو ذات معنًى ودلالة. لوحظ أن صغار الأطفال المتحدثين بالإنجليزية أو الفرنسية تحكموا في أداء مهام الغاية-الوسيلة، ومهام التصنيف الفئوي في المرحلة العمرية نفسها. لكن الأطفال الكوريين تعلموا التصنيف متأخرين ثلاثة أشهر عن تعلمهم قدرات الغاية-الوسيلة.
(٣) الاستعدادات والثبات والفئات
كان الإغريق القدامى مغرمين بالمقولات-الفئات، واستخدموها أساسًا لاكتشاف القواعد والقوانين وتطبيقها. وكانوا كذلك يؤمنون بالثبات، وفهموا كلًّا من العالمين الطبيعي والاجتماعي في ضوء صفات أو استعدادات ثابتة. ولم يكن من قبيل المصادفة والتوافق العرَضي، ولا هي حقائق غير ذات صلة، أن الصينيين القدامى كانوا غير معنيين بالفئات، ومن ثم آمنوا بالتغير أو التحول، وفهموا سلوك كل من الموضوعات الفيزيائية والاجتماعية باعتبار أنها نتيجة لتفاعل الموضوع مع مجال القوى المحيطة به.
وإذا قلنا إن العالم مكان ثابت مستقر، إذن فمن المهم أن نحاول استحداث قواعد وقوانين لفهمه، ولصقل المقولات-الفئات التي تنطبق عليها القواعد والقوانين، ويُلاحَظ أن الكثير من المقولات-الفئات المستخدمة لفهم العالم تشير إلى صفات مفترضة للموضوع؛ الصلابة، البياض، الرحمة، الخنوع. وطبيعي أن أبناء شرق آسيا يستخدمون مثل هذه الصفات أيضًا، ولكنهم أقل ميلًا إلى تجريدها من موضوعات بذاتها. هناك بياض الحصان أو بياض الثلج في فلسفة الصين قديمًا، ولكن ليس البياض كمفهوم مجرد يمكن التحدث عنه مستقلًّا عن شيء، ويمكن تطبيقه على أي شيء آخر تقريبًا. والموضوعات في التراث الغربي لها جوهر مؤلف من مزيج متناظر من الصفات أو الكيفيات المجردة. وتهيئ هذه الجواهر إمكان التنبؤ، عن ثقة، بالسلوك المستقل عن السياق. والملاحظ في تراث شرق آسيا أن الموضوعات لها خاصيات عيانية محسوسة، تتفاعل مع الظروف والملابسات البيئية لإنتاج السلوك، ولم يكن هناك أي اهتمام على الإطلاق في مناقشة الخاصيات مجردة كأن لها حقيقة واقعة غير كونها خاصية أو سمة لموضوع بذاته.
وأهم من ذلك أن استعدادات الموضوعات ليست بالضرورة شيئًا ثابتًا في نظر أبناء شرق آسيا. والملاحظ في الغرب أن الطفل الضعيف الأداء في الرياضيات يمكن اعتبار أن قدرته في الرياضيات ضعيفة، أو ربما «معوق تعليميًّا». ولكن مثل هذا الطفل في شرق آسيا يعتبرونه في حاجة إلى العمل بجدية أكثر، أو ربما أن معلمه يتعين عليه أن يبذل معه جهدًا أكبر، أو ربما يلزم تغيير أسلوب التعليم.
إن هاجس الاهتمام بالمقولات-الفئات من نوع إما-أو يستحوذ على تاريخ الفكر الغربي كله. وتطفو على السطح تقسيمات ثنائية كل قرن، وتمثل أساسًا لجدل عقيم لا طائل منه، مثال ذلك ثنائية «العقل-الجسد»، والسجالات الفكرية الدائرة حولها، ونلاحظ في هذه السجالات أنصار الثنائية يأخذون جانبًا يدور حول موضوع: هل من الأفضل لنا لفهم سلوك بعينه أن نفهمه باعتباره ناتجًا عن العقل في استقلال عن أي تجسيد بيولوجي، أو أن ننظر إليه باعتباره رد فعل فيزيقيًّا محضًا لا تتوسطه عمليات ذهنية؟ كذلك السجال الدائر بشأن موضوع «الطبيعة أم التنشئة»، فهو صورة أخرى لهذا الضرب من الجدل، الذي كثيرًا ما ولد حرارة من دون ضوء ينير. وسبق أن أوضح عالم البيولوجيا التطورية ريتشارد ألكسندر أن كل مظاهر السلوك تقريبًا المميزة لمرتبة الثدييات العليا، إنما تحددها كل من الطبيعة والتنشئة. والحقيقة أن التقسيم الثنائي «العاطفة-العقل» أخفى أكثر مما كشف الحقيقة. وقال دافيد هيوم في هذا الصدد: «العقل عبد للعاطفة، وينبغي أن يظل كذلك.» ويفيد التمايز بين الاثنين لأغراض التحليل فقط. وإن إصرار الغربيين الدائم، كما رأى البعض، على التمييز بين «بشري» و«حيواني»، جعل من الصعوبة بمكان قبول مفهوم التطور. وهكذا نجد أن الروح في غالبية منظومات الفكر في شرق آسيا يمكن أن تأخذ شكل أي حيوان. ولم يصادف التطور ملاحاة وجدالًا على الإطلاق في شرق آسيا؛ ذلك لأنه لم يعرف افتراضًا يقضي بأن البشر يعتلون قمة سلسلة الكون، وأنهم بشكل أو بآخر فقدوا طبيعة الحيوانية.
وساد اعتقاد على مدى التاريخ الفكري الغربي يفيد أن بالإمكان أن تُحدَّد الشروط الضرورية والكافية لأي مقولة-فئة. إن المربع موضوع ذو بعدين، له أربعة أضلع متساوية الطول، وأربع زوايا قائمة، ومن ثم لا شيء تعوزه هذه الخاصيات يمكن أن يكون مربعًا، وأي شيء له هذه الخاصيات هو — تحديدًا وحسب التعريف — مربع. وجدير بالذكر أن لودفيج فتجنشتين في كتابه «بحوث فلسفية» حطم كل مشروع الضرورة والكفاية على الأرض في الغرب. كشف فتجنشتين عن اقتناعه (وربما فزعه، وهو ربما أهم الفلاسفة التحليليين في الغرب) أن إثبات الشروط الضرورية والكافية لأي مقولة معقدة أو مهمة، من مثل «لعبة» أو «حكومة» أو «مرض»، لن يكون ممكنا أبدًا. إن شيئًا ما يمكن أن يكون لعبة حتى وإن لم يكن لهوًا، حتى وإن لعبها المرء وحده، وحتى إذا كان الهدف الرئيسي منها هو كسب المال. إن شيئًا ما ليس بالضرورة لعبة، حتى إن كان لهوًا ودعابة، أو نشاطًا غير منتج، شاملًا عددًا من الناس في تفاعل ممتع. ولكن العظة التي يقول بها فتجنشتين لم يكن ليحتاج إليها شرق آسيا. إنهم لن ينظروا هناك في دهشة إلى القول بأن المقولات-الفئات المعقدة لا يمكن دائمًا وأبدًا تحديدها على أساس من شروط ضرورية وكافية.
(٤) هل اللغة هي المسئولة عن هذا الدور؟
إذا سلمنا بالفوارق الموضوعية في استعمال اللغة بين أبناء شرق آسيا والغربيين، فهل يصبح بالإمكان القول إن اللغة وحدها هي الدافعة لاختلافات الميول في تنظيم العالم في ضوء إما الأفعال أو الأسماء؟ وهل الاكتشافات بشأن تنظيم المعرفة مردُّها فقط إلى حقيقة أن اللغات الغربية تشجع استخدام الأسماء، الذي يُفضي إلى تصنيف الموضوعات إلى فئات، وأن لغات شرق آسيا تشجع استخدام الأفعال، مما يؤدي إلى التأكيد على العلاقات؟ أو لنسأل سؤالًا أكثر عمومية: كم من الاختلافات المعرفية الموثقة في هذا الكتاب هي نتيجة للغة؟
هناك في الحقيقة عدد من التوازيات بين أنواع الفوارق المعرفية التي ناقشناها في هذا الكتاب، والفوارق بين اللغات الهندو-أوروبية واللغات الشرق آسيوية. وهذه التوازيات مثيرة بشكل خاص للاهتمام؛ نظرًا إلى أن لغات شرق آسيا، وبخاصة اللغتان اليابانية والصينية، هي ذاتها مختلفة بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا من نواحٍ كثيرة. بَيد أنها، مع هذا، مشتركة مع بعضها في صفات كثيرة تمايزها عن اللغات الهندو-أوروبية.
علاوة على الممارسات التي أسلفنا مناقشتها — من مثل التحديد بالإشارة والتسمية، وموضع الأفعال في الجمل، ووصف أسماء بأنها عامة وما إلى ذلك — هناك وسائل عديدة تتحدد بها استعمالات اللغة على أساس الفوارق في استعمال الفئة-المقولة.
إن اهتمام الغرب بالمقولات-الفئات يتجلى واضحًا في اللغة. إن العبارات الاسمية التي تشتمل على «اسم عام» أكثر شيوعًا لدى المتكلمين بالإنجليزية عنها لدى المتحدثين باللغة الصينية. ولعل سبب ذلك أن اللغات الغربية تبرز بطريقة أكثر صراحة وتحديدًا ما إذا كان التفسير العام لمنطوق ما هو التفسير الصحيح. وواقع الأمر أننا لا نجد في اللغة الصينية وسيلة تكشف لنا عن الفارق بين جملة «تأكل السناجب البندق»، وجملة «هذا السنجاب يأكل حبات بندق»، ولكن السياق وحده هو الذي يفيد هذه المعلومة. ويعرف الناطقون بالإنجليزية من المحددات اللسانية إذا ما كنا نتحدث عن فئة أم عن فرد.
وتتسم لغات شرق آسيا بأنها «سياقية» بدرجة كبيرة؛ إذ إن الكلمات أو «الفونيمات»، أي: الوحدات الصوتية اللغوية، لها معانٍ عديدة، ومن ثم يستلزم فهمها وضع سياق الجمل في الاعتبار. ولكن الكلمات الإنجليزية متمايزة نسبيًّا، هذا علاوة على أن المتحدثين بالإنجليزية معنيون بالتأكد من أن الكلمات والعبارات المنطوقة في حاجة إلى أقل قدر من السياق. وأوضح عالم الأنثروبولوجيا اللسانية شيرلي برايس أن الآباء والأمهات الأمريكيين من الطبقة الوسطى يحاولون عن عمد إخراج اللغة من سياقها قدر المستطاع عند الحديث إلى أطفالهم. إنهم يحاولون جعل الكلمات مفهومة في استقلال عن سياق الأفعال، وجعل العبارات المنطوقة مفهومة في استقلال عن السياق الموقفي لها. مثال ذلك حين يقرأ أب لطفله عن كلب، نجد الأب ربما يسأل طفله عن ماهية هذا الحيوان: «بوبي … هذا صحيح»، ومن عنده كلب: «نعم جون عنده كلب». وهكذا يجري فصل الكلمة عن سياقها الطبيعي الذي تحدث فيه، وربطها بسياقات أخرى، حيث يكون للكلمة المعنى ذاته.
وتُلزم اللغات الغربية المتكلمين بها بالاهتمام بالموضوعات المحورية التي تحتل البؤرة مقابل السياق. إن اللغة الإنجليزية لغة «تبرز الفاعل»؛ إذ لا بد أن يكون هناك فاعل حتى ولو في جملة مثل «إنها تمطر». ولكن اللغات الصينية واليابانية والكورية، على العكس من هذا، هي لغات «تبرز الموضوع»؛ ذلك أن الجمل لها وضعها، هو — تحديدًا — الوضع الأول الذي يتعين ملؤه بالموضوع الراهن: «هذا المكان، التزحلق جيد». وجدير بالملاحظة أن هذه الحقيقة تطرح تفسيرًا بديلًا على أساس اكتشافنا، بعد أن رأينا المشاهد تحت سطح الماء، أن الأمريكيين يبدءون بوصف موضوع ما (هناك سمكة ضخمة، ربما تكون من نوع التروت تتحرك بعيدًا تجاه اليسار). هذا بينما يبدأ اليابانيون بتحديد السياق («يشبه غديرًا»)، وإن كان من غير المُلزم حسب قواعد النحو، إلا أن الجملة اليابانية الاصطلاحية تبدأ بالسياق، بدلًا من القفز مباشرة إلى الفاعل، كما هي الحال مرارًا في الإنجليزية.
وثمة فارق في ممارسة اللغة يصيب كلًّا من متحدثي الصينية والإنجليزية بالذهول حين يسمعون كيف يتناوله ويعبر عنه الفريق الآخر منهما. ويتمثل هذا في الطريقة الصحيحة لسؤال شخص ما عما إذا كان يريد أن يشرب مزيدًا من الشاي؛ إذ يكون السؤال في الصينية: «تشرب مزيدًا؟» ولكن في الإنجليزية: «مزيد من الشاي؟» الأمر غاية في الوضوح بالنسبة إلى المتحدثين الصينيين؛ إذ إن الحديث منصبٌّ على الشاي وإمكان المزيد منه؛ لذلك فإن ذكر كلمة الشاي ضرب من التزيُّد وعدم الاقتصاد في اللغة. ولكن بالنسبة إلى المتحدثين بالإنجليزية واضح تمامًا أن المرء يتحدث عن شرب الشاي مقابل أي نشاط آخر يمكن أن يؤديه المرء؛ لذلك من الغريب أن يتضمن السؤال إشارة إلى الشرب.
وذهب عالما الأنثروبولوجيا اللسانية، إدوارد سابير وبنيامين وورف، إلى أن عمليات التفكير المعتادة لدى الناس تعكس فوارق البنية اللسانية بين اللغات. وصادف هذا الفرض قبولًا ورفضًا وجدلًا بين علماء اللسانيات وعلماء النفس على مدى عقود، ولكنه الآن يعيش أزهى فتراته التي يحظى فيها بقبول عام. وجدير بالإشارة هنا إلى أن بعض شواهدنا وبراهيننا بشأن اللغة والتفكير مردُّها مباشرة إلى فرض سابير-وورف.
وحري أن نتذكر أن لي-جون جي وجيونج جانج وأنا درسنا موضوع ما إذا كانت اللغة من حيث هي تؤثر في أسلوب الناس في تصنيف الموضوعات إلى فئات. ووصولًا إلى هذا قدمنا ثلاثيات مكتوبة تشمل ثلاث كلمات (مثل الباندا والقرد والموز) إلى طلاب جامعيين صينيين وأمريكيين، وطلبنا منهم بيان أي اثنين من هذه الثلاثة أقرب إلى بعضهما. وكان الطلاب الصينيون إما مقيمين في الولايات المتحدة أو في الصين. وجرى تطبيق الاختبار عليهم إما باللغة الإنجليزية أو الصينية.
وإذا كانت اللغة هي سبب الاختلاف في فهم العالم نظرًا إلى أن اللغات المختلفة هي أساس التصورات الذهنية المختلفة، إذن لنا أن نتوقع دعمًا يعزز فرض سابير-وورف؛ إذ هنا سنجد ثنائيي اللغة النظيرية سيعمدون، على الأقل، إلى تجميع الكلمات على نحو مختلف عند اختبارهم باللغة الصينية، عن تجميعهم للكلمات عند اختبارهم باللغة الإنجليزية. وإذا كانت اللغة هي سبب الاختلاف، نظرًا إلى أن القسمات البنائية للغة تفرض عمليات تفكير مختلفة، إذن لنا أن نتوقع، حتى من ثنائيي اللغة الدمجية، تجميع الكلمات بطريقتين مختلفتين عند اختبارهم باللغة الصينية ثم بالإنجليزية. وطبيعي أنه إذا لم تكن اللغة ذات شأن ودور أساسيَّين لأداء المهام المعرفية من مثل عملية التجميع التي ذكرناها، إذن لنا ألا نتوقع أي أثر للغة في أيٍّ من عمليتَي التجميع السابقتين.
لن نجد نتائج أوضح من ذلك. أولًا: توجد فوارق واضحة بين الأمريكيين الأوروبيين الذين اختبرناهم باللغة الإنجليزية، وبين النظائريين المتحدثين بالصينية الذين اختبرناهم باللغة الصينية، سواء في الصين أو في الولايات المتحدة. كان ميل الأمريكيين إلى التجميع على أساس التصنيف الفئوي ضعف ميلهم إلى التجميع على أساس العلاقات. كذلك بالنسبة إلى الصينيين في الصين الأم أو في تايوان، والذين اختبرناهم بلغتهم الوطنية، إذ كان ميلهم إلى التجميع على أساس العلاقات ضعف ميلهم إلى التجميع على أساس التصنيف الفئوي. وصدق هذا سواء اختبرناهم في بلادهم أو في الولايات المتحدة. ثانيًا: أحدثت لغة الاختبار فارقًا كبيرًا بالنسبة إلى الصينيين من أبناء تايوان أو الصين الأم؛ إذ عندما اختبرناهم بالإنجليزية كانوا أقل ميلًا إلى التجميع على أساس العلاقات. وهكذا يظهر جليًّا أن الإنجليزية تدعم أسلوبًا في تصور العالم مختلفًا عن الصينية بالنسبة إلى هؤلاء المشاركين.
ولكن الأمر اختلف تمامًا بالنسبة إلى ثنائيي اللغة الدمجية من أبناء هونج كونج وسنغافورة، حيث تحولت عمليات التجميع عندهم تحولًا موضوعيًّا في الاتجاه الغربي. كانوا لا يزالون معتمدين على العلاقات أكثر من اعتمادهم على التصنيف الفئوي، ولكن تفضيلهم لهذا أضعف كثيرًا من تفضيل ثنائيي اللغة النظيرية المتحدثين بالصينية من أبناء الصين الأم وتايوان، وأهم من ذلك، لم يظهر أي فارق تحديدًا بالنسبة إلى ثنائيي اللغة الدمجية، سواء أدوا الاختبار بالصينية أو بالإنجليزية.
النتائج هنا واضحة الدلالة. الثقافة لها تأثيرها على الفكر في استقلال عن اللغة، ونحن نعرف هذا لأن كلًّا من المتحدثين بالصينية من ثنائيي اللغة النظيرية وثنائيي اللغة الدمجية جمعوا الكلمات على نحو مختلف عن الأمريكيين، بغضِّ النظر عن لغة الاختبار. كذلك فإن الفوارق بين المتحدثين النظائريين والدمجيين تشير إلى اختلاف ثقافي مستقل عن اللغة. إن المتحدثين الدمجيين من أبناء الأقاليم المتغربة، أي: التي اكتسبت ثقافة غربية تحولوا إلى اتجاه غربي — وبالدرجة نفسها — بغضِّ النظر عن لغة الاختبار. وهناك أيضًا تأثير واضح للغة مستقل عن الثقافة، ولكن فقط بالنسبة للمتحدثين النظائريين من الصين وتايوان؛ إذ إنهم يجيبون إجابتين مختلفتين تمامًا على أساس لغة الاختبار هل هي الصينية أم الإنجليزية.
وثمة إجابة مبدئية عن سؤال سابير-وورف من حيث علاقته بموضوعنا في هذا الكتاب، وحري أن تظل مبدئية للغاية؛ لأننا فقط كنا نناقش دراستين تتناول نوعًا واحدًا للعملية الذهنية. والإجابة هي أن اللغة تؤثر بالفعل في الفكر ما دامت اللغات المختلفة تقترن على نحو معقول وظاهر بمنظومات تصورية مختلفة.
إننا إزاء دليل واضح على أن أبناء شرق آسيا يرون العالم في ضوء العلاقات أكثر مما يراه الغربيون، الذين ينزعون أكثر من أبناء شرق آسيا إلى أن يروا العالم في ضوء موضوعات استاتيكية يمكن تجميعها في صورة فئات. ولا ريب في أن ممارسات تربية وتنشئة الأطفال لها دورها في توليد هذه الرؤى المختلفة أشد الاختلاف. إن أطفال شرق آسيا يتوجه انتباههم، بفضل التربية، إلى العلاقات، بينما يتوجه انتباه أطفال الغرب إلى الموضوعات والفئات التي تنتمي إليها هذه الموضوعات. وثمة احتمال بأن اللغة لها دورها، الذي يتمثل على الأقل في المساعدة على تركيز الانتباه، وربما تسهم أيضًا في تثبيت التوجهين المختلفين على مدى حياة المرء. ويبدو في ظاهر الأمر أن لا دور لبناء اللغة، هذا على الرغم من أنه عمليًّا يفرض أن يكون العرض في ضوء إحدى اثنتين؛ إما الفئات وإما العلاقات.
وجدير بالذكر، كما سوف نرى فيما يلي، أن النهجين المختلفين تمامًا في فهم العالم لا ينتهيان مع مهمة تنظيم المعرفة. إن نهج الغربيين في التأكيد على الموضوع وتجريده من السياق، ونهج أبناء شرق آسيا في التكامل والدمج والتركيز على العلاقات، يفضيان بكل فريق إلى أسلوب مختلف أشد الاختلاف في الاستدلال العقلي.