«هذا ليس منطقًا» أم «أنت حققت فوزًا في هذه النقطة»؟
«حين يشعر المرء بأنه الأسعد، فإنه حتمًا سيشعر بالحزن في الوقت نفسه.»
الفارق المذهل أكثر من سواه بين تراثَين يحتلان طرفَي العالم المتحضر هو قدر المنطق ومصيره؛ إذ ظل المنطق عند الغرب محوريًّا، ولم ينقطع أبدًا الخيط الممتد لرسالته.
أن يكون العقل الصيني مغرقًا في بنيته العقلية، هو تحديدًا السبب في رفضه لأن يصبح عقلاني النهج … لفصل الشكل عن المحتوى.
ظل هدف التعليم الكلاسيكي الصيني دائمًا تنشئة إنسان معقول في تفكيره كنموذج للثقافة؛ إذ حريٌّ بالإنسان المتعلم أن يكون، أولًا وقبل كل شيء، كائنًا مفكرًا معقولًا يتميز دائمًا بحسه المشترك، وحبه للاعتدال، وضبط النفس، وكراهيته للنظريات المجردة، ومظانِّ التطرف المنطقي.
المحاجاة التزامًا بالاتساق المنطقي … يمكن ألا تكون مثيرة للاستياء فحسب، بل والنظر إليها باعتبارها أمرًا فجًّا.
كم هو عسير على الغربي أن يفهم أن منطقة شرق آسيا شهدت حركتين فقط قصيرتَي العمر وضعيفتَي التأثير، اشتركتا في روح البحث المنطقي التي ظلت دائمًا شائعة ومشتركة في الغرب. هاتان الحركتان هما «ال منج جيا» (وتعني المناطقة)، و«الموهيون»، أو أتباع مو-تسو، وتنتميان معًا إلى الفترة الكلاسيكية القديمة. حقق المناطقة في الواقع تقدمًا ضئيلًا في اتجاه المنطق الشكلي؛ إذ كانوا مهتمين بالمعرفة من أجل المعرفة، على عكس جميع التقاليد الأخرى في تراث الفلسفة الصينية. وتضمن تراث مو-تسو اهتمامات منطقية عديدة، من أبرزها أفكار عن الشروط الضرورية والكافية، ومبدأ عدم التناقض، وقانون الوسط المرفوع. ولكن على الرغم من هذا قصَّرت جهود الموهيين عن إنتاج مذهب محكم صارم للاستدلال المنطقي. أكثر من هذا أنه على الرغم مما أحرزه أتباع مو-تسو من تقدم في مجال الهندسة، فإنهم لم يصوغوها في الصورة الغربية، ولم يستحدثوا مجموعة من المبادئ التأسيسية التي تهيئ إمكانًا لاستنباط حلول على أساس منطقي.
ومع حلول الألفية الأولى من التقويم الميلادي لم تكن قد ظهرت بعدُ أي آثار لنهج منطقي في فهم العالم. وإنما نجد، بدلًا عن هذا، ثقة في الانطباعات الحسية وفي الحس المشترك. ولم تظهر على الإطلاق، حتى بين المناطقة وأتباع مو-تسو، رغبة في قبول الحجج التي تتحدى الخبرة، هذا على عكس الإغريق، الذين اعتادوا أن يبتهجوا أحيانًا لأفكار شواهد وبرهان الحواس. وظل الصينيون، كما سوف نرى، أكثر التزامًا بالمعقولية دون العقل.
(١) المنطق أم الخبرة؟
ارتبط نقص الاهتمام بالمنطق في شرق آسيا ارتباطًا عضويًّا بالشك في تجريد الموضوع من السياق، أي: الشك في التفكير في بنية حجة ما بمعزل عن محتواها، كما ارتبط بالنفور من الاستدلال على أساس القضايا المجردة وحدها. وثمة دراستان أجريتهما أنا ونورنزايان وإدوارد إي سميث وبيوم جون كيم. وتوضح هاتان الدراستان كيف أن هذا لا يزال صحيحًا بالنسبة إلى الإنسان العام في شرق آسيا في القرن الواحد والعشرين.
ليحاول القارئ أن يفكر في الحجتين القياسيتين التاليتين، هل إحداهما أكثر إقناعًا من الأخرى؟
-
(١)
كل الطيور لها شرايين زندية.
لذلك كل النسور لها شرايين زندية.
-
(٢)
كل الطيور لها شرايين زندية.
لذلك كل طيور البنجوين لها شرايين زندية.
(لا حاجة إلى أن يعرف القارئ ما هو الشريان الزندي. إنه في الواقع خاصية «فارغة» ومستخدمة، بحيث لا تتطفل المعرفة بالعالم الواقعي على عملية تقييم لحجة قياسية.)
إحدى سبل قياس مدى اعتماد الناس تلقائيًّا على المنطق الشكلي دون المعرفة الخبرية في التفكير، هي دراسة كيف تعطي هذه فكرة صحيحة عن الخصائص — بشأن «الشرايين الزندية» في المثال السابق — ابتداء من المقولات الكبرى أو الأولية (الطيور)، وصولًا إلى المقولات الصغرى أو الثانوية (النسور والبنجوين). وحري أن يلحظ القارئ أن الحجتين لهما مقدمتان متطابقتان، غير أن النتيجتين تتباينان من حيث تحديد نوعية الطائر الهدف. إن النسور طيور أكثر نموذجية من البنجوين. وإذا ما كنا بصدد نمط منطقي صرف عند تقييمنا لقضايا مثل تلك التي أسلفناها، فإننا سوف نضيف لكل حجة المقدمة الوسطى الضمنية الخاصة بها (كل النسور طيور، وكل البنجوين طيور). وواضح أن من يفعلون هذا من الناس سيجدون الحجتين متكافئتين من حيث الإقناع. ولكن الناس غالبًا ما يجدون الحجج الدالة على حالات نموذجية أكثر إقناعًا من الحجج الدالة على حالات شاذة وغير قياسية. إن الخبرة السابقة تجعلهم أكثر قبولًا للنظر إلى النسور باعتبارها طيورًا، عن اعتبار أنواع البنجوين طيورًا.
وطلبنا من مشاركين كوريين وأمريكيين آسيويين وأمريكيين أوروبيين أن يقيموا ما يستشعرونه من قناعة في عشرين حجة من هذا النوع؛ عشر منها تشتمل نتيجتها على أهداف قياسية من مثل النسور، وعشر أخرى تشتمل على أهداف لا قياسية من مثل البنجوين. ووجدنا أن الكوريين أكثر اقتناعًا بالحجج القياسية عن الحجج غير القياسية. ولكن الأمريكيين الأوروبيين على العكس؛ إذ كانوا شبه مقتنعين بالحجج القياسية وغير القياسية على السواء. هذا بينما احتلت إجابات الأمريكيين الآسيويين مكانًا وسطًا بين إجابات الأمريكيين الأوروبيين والكوريين.
ولنفكر معًا في الحجج التالية، أيها تبدو لك صحيحة منطقيًّا؟
- مقدمة أولى: لا يوجد كلب بوليسي عجوز.
- مقدمة ثانية: بعض الكلاب المدربة تدريبًا عاليًا عجوزة.
- النتيجة: بعض الكلاب العالية التدريب ليست كلابًا بوليسية.
- مقدمة أولى: كل ما هو مصنوع من نباتات مفيد للصحة.
- مقدمة ثانية: السجائر مصنوعة من نباتات.
- النتيجة: السجائر مفيدة للصحة.
- مقدمة أولى: لا «أ» هي «ب».
- مقدمة ثانية: بعض «ﺟ» هو «ب».
- النتيجة: بعض «ﺟ» ليس «أ».
الحجة الأولى تفيد معنًى، وذات نتيجة مقبولة. والحجة الثانية ذات معنًى، ولكن نتيجتها غير مستساغة. والحجة الثالثة مغرقة في التجريد، بحيث لا معنى لها على الإطلاق. بيد أن جميع الحجج الثلاث صواب منطقيًّا.
ويكون الناس على الأرجح في جانب الصواب في أحكامهم بشأن الصواب المنطقي للحجج حين تكون الحجة ذات معنًى ونتيجتها مقبولة. ويكونون بعيدين عن الصواب المؤكد حين تكون الحجة ذات معنًى ونتيجتها غير مقبولة عقلًا. وحدث أن عرضنا على طلاب جامعيين كوريين وأمريكيين حججًا هي إما صواب وإما غير صواب، ولها نتائج إما مقبولة وإما غير مقبولة. وطلبنا منهم تقييم ما إذا كانت نتيجة كل منها لازمة منطقيًّا عن مقدمات كل حجة أم لا. ودرسنا أربعة نماذج للقياس تتراوح ما بين أبسطها [إذا كانت «أ» هي «ب»، و«ب» هي «ﺟ»، إذن «أ» هي «ﺟ»] وحتى البنية الصعبة، من طراز المثال الثالث الذي أسلفناه.
لوحظ أن كلًّا من الكوريين والأمريكيين كانوا أميل إلى وضع القياسات ذات النتائج المقبولة في خانة الصواب. ولكن، كما توقعنا، كان الكوريون أكثر تأثرًا من الأمريكيين بمدى المقبولية والاستساغة العقلية. ولا شك في أن هذا الفارق يرجع إلى أن المشاركين الكوريين أقل قدرة من المشاركين الأمريكيين على أداء العمليات المنطقية. وتساوت أخطاء المشاركين الأمريكيين والكوريين فيما يتعلق بالقياس المجرد المحض. ويبدو أن الفارق بين المجموعتين هو أن الأمريكيين أكثر ألفة من الكوريين مع تطبيق القواعد المنطقية، ولهذا فهم أقدر على إغفال عنصر الاستساغة في النتائج.
إذن أبناء شرق آسيا أميل إلى أن يطرحوا المنطق جانبًا لمصلحة الالتزام بمدى تطابق النتائج مع النموذج، ومدى استساغتها. وهم أيضًا أميل إلى طرح المنطق جانبًا لمصلحة مدى استصواب النتيجة رغبة فيها.
وأوضح وليام ماك جوير أن الناس إذا ما طُلب منهم الحكم على احتمالية أحداث ما ذات علاقة منطقية بعضها ببعض، نلحظ أن أحكامهم القائمة على الاحتمال تتحرك في تساوق مع بعضها، بحيث تؤدي إلى زيادة التلاحم المنطقي للمعتقدات ككل. مثال ذلك: سأل ماك جوير المشاركين إلى أي مدَى يرون أن من المرجح: (أ) سيحدث جفاف هذا العام. (ب) الجفاف يعني تلوث الشواطئ بسبب عدم توافر مياه المطر التي تخفف منه. (ﺟ) إذا تلوثت الشواطئ فسوف تغلقها السلطات. (د) الشواطئ ستُغلق. ووجد ماك جور أنه بمرور الوقت زاد الاتساق المنطقي بين معتقدات الناس بشأن القضايا ذات الصلة. وترجع الزيادة بسبب مطالبتهم بالتفكير في مدى رجحان صدق ما قالوا. ولوحظ أنه بعد مرور أسبوعين على إصدار تقييماتهم لعدد من البنود المماثلة لما ذكرناه آنفًا أصبحت الاحتمالات التي ذكرها المشاركون بالنسبة إلى القضايا المختلفة أكثر توافقًا مع الشروط المنطقية مما كانت أولًا، أي: قبل أن يتوافر لهم الوقت للتفكير فيها. وهكذا، فعلى الرغم من أن الناس لا تريد إغلاق الشواطئ، فإنهم بعد التفكير في ذلك لفترة من الوقت، وعلاقة هذا بالقضايا الأخرى المرجحة أكثر من سواها، والتي تفيد، بشكل مباشر أو غير مباشر، بأن الشواطئ سيجري غلقها، هنا أصبح الناس أكثر تشاؤمًا فيما يتعلق بخططهم الصيفية على شاطئ البحر.
وظن أرا نورنزايان وبيوم جون كيم أن أبناء شرق آسيا سيكونون أقل ميلًا إلى أن تأخذ معتقداتهم وجهة غير سارة عن طريق التفكير مليًّا في معلومات تنطوي على احتمالات حدوث نتائج غير مرغوب فيها، بسبب أن أبناء شرق آسيا لا يألفون كثيرًا تطبيق المنطق على أحداث الحياة اليومية. وإنهم لهذا السبب ربما يكون بوسعهم التشبث بمعتقدات تناهض القضايا الأخرى التي طلب الباحثون منهم التفكير فيها، لهذا أعطوا طلابًا كوريين وأمريكيين قضايا ذات علاقة منطقية بعضها ببعض، ولكنهم خلطوها مع قضايا أخرى كثيرة، بحيث لم يكن من المرجح أن يدرك المشاركون أنه جرى اختبار مدى الاتساق في أحكامهم عن الاحتمال. وتناثرت داخل الاستبيان، على سبيل المثال، قضايا مثل ما يلي:
-
أسعار الغداء في الخارج ستزداد.
-
إذا أدى فرض قوانين صحية أكثر صرامة على
-
المطاعم إلى زيادة كلفة تشغيل عمال جدد،
-
فإن ثمن الغداء في الخارج سيرتفع.
-
إن فرض قوانين صحية أكثر صرامة على المطاعم
-
سيؤدي إلى زيادة كلفة تشغيل عمال جدد.
كانت بعض القضايا موجبة، من مثل «سيكون بوسع عدد أكبر من الفقراء الحصول على طعام كافٍ لبقائهم في حالة صحية جيدة». وثمة قضايا أخرى، مثل تلك التي ذكرناها عن زيادة كلفة الغداء خارج البيت، كانت لا تستهوي قارئها. وسأل كيم ونورنزايان المشاركين في وقتين مختلفين عن الاحتمالات التي وضعوها لمختلف القضايا، أي: فور قراءتهم لكل قضية، ثم بعد مرور بضع دقائق عقب انتهائهم من قراءة جميع القضايا.
وكشفت معتقدات المشاركين الكوريين والأمريكيين عن اتساق متعادل عند اختبارهم في المرة الأولى. كذلك كان الاتساق بين الفريقين متعادلًا — وبمعدل أكبر بالنسبة إلى الفريقين — خلال المرة الثانية بالنسبة إلى القضايا الموجبة. بيد أن الأمريكيين قطعوا شوطًا أبعد في اتجاه الاتساق بالنسبة إلى القضايا السالبة، وهو ما لم يحدث بالنسبة إلى الكوريين. وبات واضحًا أن الدفعة المنطقية حين بلغت غاية منشودة كانت الدلالات المنطقية لبعض المعتقدات بالنسبة إلى غيرها أقل قابلية للتأثير في أحكام الاحتمالات للكوريين عنها للأمريكيين.
(٢) «إما-أو» مقابل «كل من-و»
أيُّ مجموعة من مجموعتَي الحكم والأمثال التاليتين تستهويك أكثر من الأخرى؛ الثلاثة الأولى أم الثلاثة الأخيرة؟
-
نصف رغيف أفضل من لا شيء.
-
واحد ضد الجميع مآله السقوط يقينًا.
-
«على سبيل المثال» ليست برهانًا.
-
التواضع الشديد نصف كبرياء.
-
الحذر من الأصدقاء، أما الأعداء فلا.
-
الإنسان أقوى من الحديد، وأضعف من ذبابة.
والجدير ذكره أن أسباب هذه الاختلافات في تفضيل التناقض أسباب عميقة؛ إذ يوجد في فكر شرق آسيا أسلوب للتفكير العقلي يرجع تاريخه إلى الصين قديمًا، وكان يُسمَّى التفكير الجدلي. ويعني هذا أنه يركز على التناقضين، وكيفية حسمهما أو التعالي عليهما، أو كشف الصدق في كل منهما. ونستطيع أن نعرض فيما يلي ثلاثة مبادئ مهمة للجدل، والتي حدد معالمها كايبنج بنج، وإن كنا نخاطر بأن نقول شططًا بشأن روح الجدل الذي لا يلجأ إلى قواعد تفكير عقلاني جامدة أو راسخة ثابتة.
مبدأ التغير
يؤكد تراث الفكر الشرق آسيوي على التحول الدائم المطرد لطبيعة الواقع. العالم ليس في حالة ثبات «استاتيكي»، بل دينامي ومتحول أبدًا. وإذا بدا لنا في حالة بذاتها فليس ذلك سوى علامة على أن هذا الوضع في سبيله إلى التحول. ونظرًا لأن الواقع في حالة فيض دائم، فإن المفاهيم التي تعكس الواقع تتسم بالسيولة والذاتية أكثر من كونها ثابتة وموضوعية.
مبدأ التناقض
نظرًا لأن العالم في تحول مطرد، فإن هذا يخلق باستمرار أضدادًا ومفارقات ومظاهر شذوذ؛ القديم والجديد، الخير والشر، القوي والضعيف، جميعها موجودة في كل شيء. والحقيقة أن الأضداد يتمِّم بعضها بعضًا، وتتراكب وتتكامل. ويرى الطاويون جانبَي أيِّ تناقض ظاهري قائم في حالة تناغم نشط، نعم تتعارض ولكنها تترابط، وتحكم بعضها بعضًا. الطاو نتصوره معًا الموجود وغير الموجود. وأوضح هذا لاو تسو مؤسس المدرسة الطاوية: «حين يعرف كل الناس في العالم الجمال من حيث هو جمال، هنا يظهر الاعتراف بالقبح. وحين يعرفون جميعًا الخير من حيث هو خير، يظهر آنذاك الاعتراف بالشر. وهكذا الوجود واللاوجود ينتج أحدهما الآخر …» أو ما قاله ماو تسي تونج الذي حكم الصين زمنًا طويلًا، ورأى في نفسه فيلسوفًا وشاعرًا وسياسيًّا ومحاربًا في آن واحد؛ إذ قال: «… نجد من ناحية أن الأضداد تناقض بعضها بعضًا، وهي من ناحية أخرى مترابطة فيما بينها، نافذة بعضها داخل بعض، متغلغلة فيما بينها، ومعتمدة بعضها على بعض، وهذه هي الخاصية التي نصفها بالهوية.»
مبدأ العلاقة أو الكلية
نتيجة للتغير والتضاد لا يوجد شيء منعزل مستقل عن سواه، بل مترابط بكمٍّ هائل من الأشياء المختلفة. إننا لكي نعرف شيئًا ما على حقيقته يتعين علينا أن نعرف كل علاقاته، إنه مثل النغم الموسيقي المفرد ثاوٍ في اللحن العام.
ويُلاحَظ أن المبادئ الثلاثة للتفكير الجدلي مترابطة؛ التغير ينتج التناقض، والتناقض علة التغير، والتغير والتناقض الدائبان يفيدان بأن لا معنى لأن نناقش الجزء المفرد دون أن نفكر في علاقاته بالأجزاء الأخرى وبالحالات السابقة. وتفيد المبادئ أيضًا معتقدًا آخر مهمًّا ينبني عليه الفكر الشرق آسيوي، وهو الإصرار على ضرورة إيجاد الطريق الوسطى بين الأضداد المتطرفة. ويسود افتراض أولي، وهو أن التناقضات ما هي إلا مظهر، وأن نؤمن بأن «أ» على صواب، وأن «ب» ليس خطأ. وهذا هو عين الموقف الذي استوعبه القول البوذي المأثور: «ما هو ضد الحقيقة الكبرى صادق أيضًا.»
ويمكن أن تبدو هذه الأفكار بالنسبة إلى كثيرين من الغربيين أفكارًا معقولة، بل ومألوفة. علاوة على هذا، عرف الفكر الغربي مثل هذا النوع من التراث الجدلي، منذ أيام كانط ونيتشه وهيجل، هذا على الرغم من أن الجدل الهيجلي أو الماركسي بتأكيده على الأطروحة ونقيضها والمركب منهما، هو جدل أكثر حسمًا وقطعية من الجدل في شرق آسيا؛ ذلك لأن الجهد المبذول فيه يهدف دائمًا إلى محو التناقض، وليس قبوله أو التعالي عليه، أو استخدامه لفهم وضع ما على نحو أفضل.
يؤكد قانون الهوية على الاتساق بين المواقف؛ «أ» هي «أ»، بغضِّ النظر عن السياق. ويحدد قانون عدم التناقض أن قضية ما ونفيها لا يكونان صادقين معًا؛ «أ» وليس «أ» مستحيلان معًا. وعلى النقيض من هذا مبدأ الكلية، النظرة الكلية؛ إذ يفيد بأن شيئًا ما يكون مختلفًا في سياق ما عنه في سياق آخر. ويفيد مبدأ التغير أن الحياة في حالة تحول مطرد من حالة وجودية إلى حالة أخرى. وهكذا الوجود هو لاوجود أو عدم، واللاوجود هو وجود. إن إنسانًا ما هو حرفيًّا إنسان مختلف داخل أسرته، عنه حين يؤدي دوره كرجل أعمال، والثروة تعني أن الفقر يتربص بك وراء الجدار.
والجدير ذكره أن أبناء شرق آسيا المحدثين واعون تمامًا بطبيعة الحال بالمبادئ المنطقية ذاتها التي يعتز بها الغربيون، ويفيدون بالمنطق في بعض سياقات الفكر كما سبق أن أشرنا. ولكن قانون عدم التناقض من وجهة نظر الشرق آسيويين يصدق فقط على مجال المفاهيم والمجردات. وإن رفض النتائج لأنها تبدو متناقضة صوريًّا يمكن أن يكون خاطئًا؛ لأن المفاهيم ما هي إلا انعكاسات للأشياء، ويمكن أحيانًا أن يكون أكثر معقولية وقبولًا لنا التسليم بوجود تناقض ظاهري، أفضل من الإصرار على أن وضعًا ما إما أن يكون هو الصادق أو نقيضه.
وحري الإشارة إلى أن الاختلاف في الموقفين إزاء التناقض له نتائج مهمة من حيث التفكير العقلي في مجالات كثيرة.
طلبنا، أنا وبنج، من عدد من الطلاب الأمريكيين والصينيين خريجي جامعة ميتشيجان، قراءة قصص عن النزاعات بين الناس، وعن نزاعات بين دوافع متعارضة لشخص واحد. أفادت إحدى القصص عن صراع قيمة بين أمهات وبناتهن، وعرضت قصة أخرى صراعًا بين رغبة في اللعب والمزاح ورغبة في العمل الجاد في المدرسة. وطلبنا من المشاركين تحليل هذه الصراعات، ووضعنا علامات شفرية، لبيان ما إذا كانت القرارات تمثل طريقًا وسطى، أم قرارات جدلية أم غير جدلية. وتضمنت الإجابة الجدلية عادة جملًا تردُّ سبب المشكلة إلى كل من الجانبين، وتحاول التوفيق بين الآراء المتعارضة عن طريق حل وسط أو التعالي عليها. مثال ذلك أن إجابة تقول: «كل من الأمهات والبنات فشلن في فهم بعضهن بعضًا» اعتبرناها إجابة جدلية، شأنها شأن إجابة توضح أنه من المرجح في المستقبل غير البعيد جدًّا أن تلتقي الاثنتان وجهًا لوجه، كل تنظر إلى الأخرى بعينيها. ولكن الإجابات غير الجدلية فهي عادة تجد الخطأ واقعًا حصرًا عند هذا الطرف دون الآخر.
ولوحظ بالنسبة إلى نزاع الأمهات-بناتهن أن ٧٢ في المائة من إجابات الصينيين أُدرجت ضمن الإجابات الجدلية، وأن ٢٦ في المائة فقط من إجابات الأمريكيين هي التي أخذت هذه الصفة. كذلك فيما يتعلق بالصراع بين المدرسة واللعب نجد أن نصف إجابات الصينيين جدلية، ولكن ١٢ في المائة فقط من إجابات الأمريكيين هي التي كانت كذلك. الخلاصة أن غالبية إجابات الصينيين حاولت الْتماس طريق وسطى، بينما غالبية إجابات الأمريكيين طالبت بإحداث تغيير في اتجاه واحد فقط.
وعمدت أنا وبنج أيضًا، في دراسة أخرى، إلى بحث تفضيل أبناء شرق آسيا والغربيين للحجج المنطقية مقابل الجدلية؛ طلبنا من المشاركين أن يحددوا أيًّا من الحجتين يفضلون ضد فرض أرسطو القائل إن الجسم الأثقل وزنًا يسقط إلى الأرض أولًا. وكان جميع المشاركين من خريجي الجامعة في العلوم الطبيعية بجامعة ميتشيجان، ولكن لم يكن أي منهم فيزيائيًّا. وبدأت كل من الحجتين بما يلي: «اعتقد أرسطو أن الجسم الأثقل وزنًا هو الأسرع في السقوط إلى الأرض. إلى أي مدًى يمكن أن يكون هذا الفرض خاطئًا؟»
الحجة المنطقية الأولى، وهي أساسًا الحجة الكلاسيكية التي قال بها جاليليو، تمضي على النحو التالي: لنفترض أن معنا جسمين؛ جسم ثقيل هو «ث»، وآخر خفيف هو «خ». حسب فرضية أرسطو فإن «ث» سيسقط إلى الأرض أسرع من «خ». والآن لنفترض أن «ث» و«خ» التصقا ببعضهما … ما الذي سيحدث؟ «ث» زائد «خ» أثقل من «ث»، إذن حسب الافتراض الأول سيسقط أسرع من «ث» وحده. ولكن في الجسم الملتصق … «خ» [أخف من و] ستعمل عمل الكابحة في تأثيرها على «ث»، و«خ» زائد «ث» سيسقطان أبطأ من «ث» وحده. يلزم عن هذا تأسيسًا على الفرض الأول أن «خ» زائد «ث» سيسقطان معًا بأسرع وأبطأ من «ث» وحده. وحيث إن هذا خطأ، إذن لا بد أن الفرض الأول خطأ أيضًا.
وتمضي الحجة الثانية الكلية أو الجدلية على النحو التالي: «… ينبني هذا الفرض على اعتقاد بأن الموضوع الفيزيقي متحرر من أي تأثيرات تؤثر فيها عوامل سياقية أخرى … وهو أمر مستحيل في الواقع. لنفترض أن معنا جسمين؛ جسم ثقيل الوزن هو «ث»، وجسم خفيف هو «خ». إذا وضعنا الاثنين في ظرفين مختلفين، كأن نضع «ث» على سبيل المثال في طقس عاصف (ع)، ووضعنا «خ» في طقس هادئ (ﻫ)؛ فإن «ع» أو «ﻫ» ستحدث فارقًا. وحيث إن هذه الأنواع من المؤثرات السياقية موجودة دائمًا، فإن لنا أن نستنتج أن الفرض الأولي بالضرورة خطأ.»
وسألنا المشاركين أي من الحجتين يفضلونها لإثبات وجود مفارق، الحجة المنطقية أم الكلية. إن الحجة «المنطقية» نسخة من الحجة الكوزمولوجية القديمة، التي تبدأ: كل موجود له سبب … والتحرك من النتيجة إلى السبب أو العلة دائمًا. وهنا يكون المرء إزاء خيارين؛ أن يمضي إلى ما لا نهاية في تعقب الآثار، دون أن يصل إلى علة نهائية على الإطلاق، أو أن يلوذ بسبب ما مفترض، أي سبب موجود بالضرورة، ولكن إذا كانت كل سلسلة التتابع، إذا ما أخذناها جملة، لم يحددها أو يسببها شيء، وهذا باطل، إذن لا مناص من المسار العكسي؛ وجود يحمل سبب وجوده، وليس من سبيل لفرض عدم وجوده، وإلا وقعنا في تناقض.
لوحظ أن غالبية الأمريكيين فضلوا حجة جاليليو المنطقية دون فرض أرسطو عن الجاذبية، هذا بينما فضل غالبية الصينيين الحجة الجدلية الكلية، وفضل غالبية الأمريكيين الحجة «المنطقية» التي تناقش الوجود المفارق دون الحجة الكلية، بينما فضل غالبية الصينيين الحجة الكلية. ورأى زملائي الغربيون العلميون أن تفضيل الصينيين للحجة الكلية دون آراء أرسطو أمر مثير للدهشة؛ نظرًا لأنهم يرون حجة جاليليو بمنزلة الضربة القاضية، ولهذا أرى أن أوضح أن ٦٠ بالمائة فقط من الأمريكيين فضلوا حجة جاليليو.
تُرى ماذا يحدث لو واجه أبناء شرق آسيا والغربيون قضايا واضحة التناقض؟ يبدو أن النهج المنطقي يستلزم رفض قضية لمصلحة الأخرى تجنبًا للتناقض المحتمل. ولكن النهج الجدلي يُؤثِر الْتماس بعض الصدق في كل منهما، سعيًا للوصول إلى طريق وسطى. ورغبة منا في بحث هذه المسألة طلبنا، أنا وبنج، من بعض طلاب جامعتَي ميتشيجان وبكين أن يقرءوا ما وصفناه بأنه ملخصات نتائج عديد من دراسات في العلوم الاجتماعية، وتضمنت خمسة موضوعات مختلفة، وطلبنا من المشاركين إما أن يقرءوا عن دراسة تقرر اكتشافًا بذاته، وإما دراسة تؤكد ضمنًا شيئًا مختلفًا تمامًا، وإما كليهما. وجدير بالذكر أن الدراستين المتضادتين لا تُناقض إحداهما الأخرى بالضرورة، حسب المعنى المنطقي، ولكنها على الأرجح تتسم بطابع معين، وهو إذا ما كانت إحداهما صادقة، فإن الأخرى غير مرجحة الصدق. ونعرض فيما يلي قضيتين هما نموذج لقضيتين متناقضتين بوضوح أكثر.
- القضية أ: كشفت دراسة استقصائية أن النزلاء المسنِّين هم على الأرجح من قضوا فترة أحكام طويلة بسبب ارتكابهم جرائم عنف شديدة. وخلص كاتبو التقرير إلى ضرورة امتداد سجنهم حتى في حالة أزمة اكتظاظ السجن بنزلائه.
- القضية ب: يرى تقرير عن مسألة اكتظاظ السجن بنزلائه أن النزلاء المسنين ليس من المرجح كثيرًا أن يُقدِموا على ارتكاب جرائم جديدة؛ لذلك إذا كان السجن يعاني أزمة اكتظاظ لكثرة نزلائه، فإن بالإمكان الإفراج عنهم أولًا.
القضيتان نموذج للقضايا غير المتناقضة بالمعنى المنطقي.
- القضية أ: درس عالم نفس اجتماعي حالة الشباب، وقرر أن من يشعرون منهم أنهم ألصق بأسرهم يتمتعون بعلاقات اجتماعية مشبعة.
- القضية ب: درس عالم مختص بعلم نفس النمو حالة عدد من المراهقين، وأكد أن من هم أقل اعتمادًا على أبويهم، وروابطهم الأسرية أضعف، هم أكثر نضجًا بوجه عام.
إذا كان الأمر كذلك حقًّا، وهو أن الشباب الذين يشعرون بأنهم لصيقون بأسرهم يتمتعون بعلاقات اجتماعية مشبعة، إذن ليس من المرجح أن ترى أن الأمر صحيح أيضًا أن المراهقين ذوي الروابط الأسرية الأضعف هم الأكثر نضجًا، هذا على الرغم من أن من المسلَّم به أن هذا لا يُفضي إلى تناقض منطقي.
وضع المشاركون تقديرهم لمدى صدقية القضايا. وتألف كل زوج من القضايا من قضية أكثر معقولية (لدى كل من الصينيين والأمريكيين) من الأخرى، والتي نعرفها بمجرد النظر إلى تقديرات المشاركين الذين قرءوا فقط إحدى القضيتين دون الأخرى.
تُرى، ما الاستدلالات التي عسى أن يتوصل إليها المشاركون؟ يبدو الأمر واضحًا للغاية، فإنه حري بالمشاركين الذين واجهوا قضيتين بينهما تناقض ظاهري، أن يكون تصديقهم لأي منهما أقل من تصديق أولئك الذين عرفوا عن واحدة فقط. ويصدق هذا تحديدًا بالنسبة للقضايا الأقل استساغة التي ناهضتها قضايا أكثر قبولًا واستساغة. ولكن لا الأمريكيون ولا الصينيون استنُّوا هذا النهج؛ إذ إن الصينيين الذين طالعوا القضيتين معًا كشفوا عن إيمان متعادل بكلتيهما. وعملوا على تقييم القضية الأقل استساغة على أساس أنها أقل قابلية للتصديق إذا ما رأوا ما يناقضها، عما لو لم يروا النقيض. وإن هذا الاستدلال غير الملائم نتيجة الإحساس بضرورة الْتماس الصدق في كل من القضيتين المتناقضتين. ولكن الأمريكيين، بدلًا من النزوع إلى التقارب في الإيمان بالقضيتين، تباعدوا فعليًّا مؤمنين بالقضية الأكثر استساغة؛ إذ يرون نقيضها أكثر مما لو لم يروا النقيض. ويبدو أن هذا على الأرجح نتيجة للشعور بأن حسم أي من القضيتين المتصارعتين هو الصواب. بيد أن هذه ممارسة للاستدلال مثيرة للريب، أن تزداد مصداقية قضية حين يزداد تناقضها، وليس العكس. أحسب أن الأمريكيين استنوا النهج الذي استنوه نظرًا لبراعتهم في توليد حجج مناهضة، وهذه مهارة وليدة ممارسة على مدى الحياة؛ إذ الملاحظ أنهم عند مواجهتهم لحجة ضعيفة ضد قضية ما يكونون أميل إلى التصديق، وليست ثمة مشكلة تحول دون إسقاطها. وتتمثل المشكلة في أن سهولة توليدهم للحجج المناهضة يمكن أن يفيد في دعم تصديقهم لقضية ما، كان يبدو أن بالإمكان أن تزعزع إيمانهم، إذا ما كان هناك نقيضها عما لو كانت بدون نقيض لها. ونجد من الدلائل في الحقيقة ما يؤكد أن الأمريكيين ينزعون بالفعل إلى توليد حجج مناقضة أكثر مما هي الحال بالنسبة إلى الصينيين. والنتيجة أن الأمريكيين ربما لا يدركون قوتهم الذاتية، ويفشلون في فهم كم هو يسير عليهم التصدي لحجة يرونها غير مستساغة.
وهكذا توجد دلائل كثيرة تشير إلى أن الشرق آسيويين غير معنيين بالتناقض على النحو ذاته الذي يستنُّه الغرب. إنهم يفضلون أكثر الحلول التوفيقية، والحجج الكلية الشمولية، وأميل إلى تعزيز كل من الحجتين المتناقضتين في ظاهرهما. وإذا ما طلبنا منهم تبرير اختياراتهم فإنهم يتجهون إلى التوفيق، واتخاذ موقف يعبر عن الطريق الوسطى، بدلًا من الرجوع إلى مبدأ له السيادة والهيمنة. ويبدو أن النزوع الواضح لدى الأمريكيين إلى مناصرة مبدأ عدم التناقض لا يعطي ضمانًا ضد أي استدلالات مشكوك فيها. وإنما على العكس، إذ إن حالة الرهاب من التناقض التي تصيب الأمريكيين يمكن أن تكون سببًا دافعًا بهم أحيانًا إلى مزيد من التطرف في أحكامهم في ظل ظروف كانت تقتضي منهم أن يكونوا أقل تطرفًا. ويعكس هذا الميل صورة الشكاوى من عادات العقل الغربي المغرقة في المنطق إلى حد التطرف، وهي الشكاوى التي عبر عنها فلاسفة ونقاد اجتماعيون من الشرق والغرب على السواء.
(٣) الدجل والعاطفة والرياضيات
يظن كل إنسان في الغالب الأعم أنه متفائل على نحو معتدل، ولكن ينوشه الحزن أحيانًا، ويبدو أنه اجتماعي، ولكنه خجول في حقيقته، وإن ما لا يدركه الناس هو مدى شيوع هذه المدركات عن النفس، ولهذا يظنون أن عالم النفس، أو العراف، أيًّا من كان، قد سبر غور روحه واكتشف الحقيقة. ودفع أنكيول شوى بأن هذا يكون أيسر حين يعجز الناس عن التعرف على التناقضات القريبة، التي صيغت بحذر وعناية وسط هذه الأوصاف الزائفة عن الشخصية، وأضْفَت عليها معقولية، مهما كان رأي المرء عن شخصيته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن لنا أن نتوقع أن أبناء شرق آسيا أكثر قابلية لظاهرة بارنوم، فيقبلون عن أنفسهم أوصافًا ظاهرة التعارض لشخصياتهم. وأراد تشوي أن يختبر هذا الفرض. ووصولًا إلى هذا، طلب من عدد من الكوريين والأمريكيين أن يصنفوا شخصياتهم وفق عدد من الجداول. وتم تصميم الجداول المختلفة بحيث تستكشف السمات المتضادة التي يقولها الناس. وطلب تشوي من المشاركين أن يقيِّموا كم كانوا غلاظًا، وأن يذكروا في جزء آخر من الاستبيان كم كانوا مهذبين. ولوحظ أن الكوريين الذين قالوا إنهم كانوا أكثر تهذبًا من آخرين كانوا ميالين إلى القول بأنهم أوشكوا أن يكونوا غلاظًا شأن الآخرين. كذلك فإن الأمريكيين الذين قالوا إنهم كانوا أكثر تهذبًا قالوا إنهم كانوا أقل غلظة، أو إذا ما قالوا إنهم كانوا أقل تهذبًا، فإنهم كانوا يميلون إلى القول إنهم كانوا أكثر غلظة. وارتفعت عاليةً رايةٌ حمراء للأمريكيين تشير إلى تناقض محتمل، ولكن كان الأمر أقل احتمالًا بالنسبة إلى الكوريين.
وقدم تشوي برهانًا مذهلًا أكثر عن التناقض الذاتي. أعطى مشاركين كوريين وأمريكيين عددًا كبيرًا من القضايا هي، حرفيًّا أو شبه حرفي، قضايا بينها تضاد.
-
شخصية المرء مصيره، أو شخصية المرء ليست مصيره.
-
كلما ازدادت معارف المرء ازداد إيمانه، أو كلما ازدادت معارف المرء قل إيمانه.
أعطى تشوي لبعض المشاركين قضية من الاثنتين المتضادتين، وأعطى الأخرى للبعض الآخر. ولوحظ أن الأمريكيين الذين أخذوا القضية الأولى إذا نزعوا إلى قبولها، فإن الأمريكيين الذين أخذوا القضية الأخرى نزعوا إلى رفضها. ولكن هذا لم يكن صحيحًا بالضرورة بالنسبة للكوريين، الذين كانوا أميل إلى قبول أي من القضيتين المعروضتين عليهم.
وثمة قصيدة للشاعر وليام بتلر ييتس، عنوانها «اللازورد». يصف فيها جوهرة عليها حفر يمثل عجوزين صينيين تحت سقف باجودا (معبد) مقام على سفح الجبل. يقول فيها:
ربما كان ييتس على صواب في رؤيته للشخصين الصينيين؛ نظرًا لوجود دليل على أن الخبرة الآتية بالعواطف المتصارعة أكثر شيوعًا بين أبناء شرق آسيا منها بين الغربيين. وحدث أن طلب كايبنج بنج وزملاؤه من المشاركين اليابانيين والأمريكيين أن ينظروا إلى عيون بعضهم البعض، ويسجلوا نوع العواطف التي تعبر عنها نظراتهم. رأى الأمريكيون الوجوه سعيدة أو حزينة، غاضبة أو خائفة. ولوحظ أنهم كلما زاد ما أفادوا به عن رؤيتهم لعواطف إيجابية، قلَّ ما سجلوه عن رؤيتهم لعواطف سلبية. وجدير بالذكر أن الحس المشترك [الغربي]، وقدرًا كبيرًا من البيانات التي جمعها علماء النفس على مدى سنين، كل هذا يشير إلى أن الأمور نادرًا ما تكون على غير هذا النحو. ولكنها كانت على غير هذا النحو بالنسبة للمشاركين اليابانيين، كانوا أميل كثيرًا للإفادة بأنهم يرون عواطف إيجابية وسلبية في الوجه الواحد.
ويبدو أيضًا أن أبناء شرق آسيا لا يجدون مشكلة في قبول تناقضات ظاهرية في عواطفهم الذاتية. ونذكر في هذا الصدد أن عددًا من علماء علم النفس التنظيمي، ريتشارد باجوزي، ونانسي وونج ويوجاي يي، طلبوا من مشاركين صينيين وكوريين وأمريكيين أن يقيِّموا حالاتهم الانفعالية في اللحظة نفسها، وحالاتهم الانفعالية بعامة. لوحظ أن المشاركين الأمريكيين نزعوا إلى الإفادة بأنهم يشعرون بعواطف إيجابية متماثلة أو عواطف سلبية غير متماثلة. ولكن إجابات الصينيين والكوريين كشفت عن علاقة ضعيفة بين شدة العواطف الإيجابية التي أفادوا بها، سواء الآن أو بوجه عام، وبين شدة العواطف السلبية التي أشاروا إليها. ولوحظ أن الإفادة بعواطف إيجابية قوية تتواءم مع التعبير عن عواطف سلبية قوية. ويبدو أن كونفوشيوس كان يتحدث عن قطاع كبير جدًّا من سكان العالم حين قال: «حين يشعر المرء بأنه الأسعد، فإنه حتمًا سيشعر بالحزن في الوقت نفسه.»
أنا متهم أحيانًا بالتناقض. لماذا الشرق آسيويون اللامنطقيون يبزُّون الأمريكيين في الرياضيات والعلم؟ كيف يحدث هذا إذا كان الشرق آسيويون لا يتواءمون مع المنطق؟ ثمة إجابات عديدة عن هذه الأسئلة.
أولًا: حري بنا أن ندرك أننا لا نجد عمليًّا وفعليًّا الشرق آسيويين في مشكلة مع المنطق الشكلي. نحن فقط نجدهم أقل ميلًا لاستخدامه في مواقفهم الحياتية اليومية حيث تتصارع معه الخبرة أو الرغبة. ثانيا: افتقار الشرق آسيويين للاهتمام بالتناقض، وتأكيدهم على الطريق الوسطى يؤدي دون ريب إلى أخطاء منطقية. ولكن حالة الرهاب الغريبة من التناقض يمكن أن تتسبب أيضًا في أخطاء منطقية.
إن شهرة أبناء شرق آسيا بالمهارات الرياضية الحديثة العهد، وجدير بالذكر أن الثقافة التقليدية الصينية واليابانية أكدت على الأدب والفنون والموسيقى باعتبارها الهدف الصحيح الذي ينذر له المتعلم جهده سعيًا إليه. ولوحظ أننا وآخرين في بحوثنا مع صينيين وأمريكيين شبابًا وشيوخًا، نجد أن شباب الصينيين فقط هم الذين يبزُّون في أدائهم نظراءهم الأمريكيين. ولكن مقارنة أداء كبار السن من الصينيين والأمريكيين المتعلمين كشفت عن أنه أداء متماثل في الرياضيات.
إن تعليم الرياضيات في شرق آسيا أفضل، كما أن طلاب شرق آسيا أكثر جدية ودأبًا في العمل. كذلك فإن تدريب المعلم في شرق آسيا عملية مطردة طوال حياة المعلم العملية، ويتعين على المعلمين أن يقضوا في التعليم وقتًا أقل كثيرًا من نظرائهم الأمريكيين، كما أن التقنيات شائعة الاستخدام أعلى من مستوى نظيراتها في أمريكا. (تفوق تعلم الرياضيات في شرق آسيا عن نظيره في أوروبا في هذه المجالات أقل وضوحًا.) ونلحظ في كل من أمريكا وشرق آسيا أن الأطفال ذوي الخلفية الشرق آسيوية يعملون بدأب وجدية أكثر في مجال الرياضيات والعلم من الأمريكيين الأوروبيين، وأن الفارق في مدى جدية ودأب الأطفال في دراستهم للرياضيات ربما يرجع، جزئيًّا على الأقل، إلى ميل الغربيين أكثر إلى الإيمان بأن السلوك نتيجة لسمات ثابتة. وينزع الأمريكان إلى الإيمان بأن المهارات صفات يملكها أو لا يملكها المرء؛ لذلك لا تفكير في محاولة اصطناع المستحيل. وينزع الشرق آسيويون إلى الإيمان بأن كل إنسان قادر على تعلم الرياضيات إذا ما توفرت له الظروف الصحيحة مع العمل الجاد الدءوب.
الخلاصة أن تفوق الشرق آسيويين في الرياضيات والعلوم ضرب من المفارقة الظاهرة التناقض، ولكنها أبعد ما تكون عن التناقض.
لقد عمدت إلى عرض قدر وافٍ من الأدلة التي تكشف عن اختلاف الغربيين والشرق آسيويين في فروض أساسية عن طبيعة العالم، وفي بؤرة الانتباه، وفي المهارات اللازمة لإدراك العلاقات، والتمييز بين الموضوعات وسط بيئة معقدة، وفي طبيعة المرجعية السببية، وفي الميل إلى تنظيم العالم على أساس تصنيف فئوي أو على أساس العلاقات، وفي الميل إلى استخدام القواعد، بما في ذلك قواعد وقوانين المنطق الشكلي. ويبرز هنا سؤالان رئيسيان في ضوء هذه الدفوع. هل هذا شأن مهم له خطره؟ هل سيستمر؟ يتناول الفصل الثامن السؤال الأول، وتتناول الخاتمة السؤال الثاني.