وماذا لو كانت طبيعة الفكر ليست واحدة في كل العالم؟
«نقيصتان غربيتان تتمثلان في فصل الشكل عن المحتوى، وفي الإصرار على المناهج المنطقية، أدتا معًا في غالب الأحيان إلى إنتاج قدر كبير من الهراء الأكاديمي.»
تبين لنا عمليًّا في كل دراسة نهضنا بها أن الفوارق بين الشرق آسيويين والغربيين كانت، ولا تزال، عادة كبيرة. ووجدنا في الحقيقة، في أغلب الأوقات، أن الشرق آسيويين والغربيين يسلكون على نحو متمايز كيفيًّا؛ إذ لوحظ أن الأمريكيين في المتوسط يجدون صعوبة أكثر في اكتشاف التغيرات الحادثة في خلفية المشاهد، بينما يجد اليابانيون صعوبة أكثر في اكتشاف الموضوعات في الصدارة. وفشل الأمريكيون بعامة في تمييز دور القيود والضغوط الموقفية على سلوك المتكلم، بينما استطاع الكوريون ذلك. واستطاعت غالبية الكوريين أن تصدر رأيًا بأن موضوعًا ما يكون أقرب شبهًا بمجموعة يشترك معها في تشابه فصيلي وثيق، بينما أصدرت غالبية، ربما أكبر من هذه، بين الأمريكيين رأيًا يقرر أن موضوعًا ما يكون أقرب شبهًا بمجموعة يمكن نسبته إليها بناء على قاعدة الحتمية. وحين نكون بصدد قضيتين ظاهرتَي التناقض فإن الأمريكيين يميلون إلى استقطاب معتقداتهم حول قضية دون الأخرى، بينما يتجه الصينيون إلى القبول المتكافئ للقضيتين معًا. وإذا رأى اليابانيون شيئًا فإنهم يكونون ضعف الأمريكيين من حيث ميلهم إلى النظر إلى الشيء باعتباره جوهرًا — كتلة متصلة من المادة — بينما يكون الأمريكيون ضعف اليابانيين من حيث ميلهم إلى النظر إليه باعتباره موضوعًا، أي: شيئًا مستقلًّا منفصلًا غير متصل، وليس جوهرًا. وهكذا دواليك.
إن الدرس الذي يستخلصه علماء النفس من هذه الفوارق الكيفية يتمثل في الآتي؛ إذ لو أن التجارب موضوع البحث أُجريت على غربيين فقط لانتهوا إلى نتائج عن العمليات الإدراكية والمعرفية التي ليست عامة بحال من الأحوال، والحقيقة أن مثل هذه النتائج الخاطئة عن الكلية الشاملة هي بالفعل ما سبق التوصل إليه بالنسبة إلى عمليات كثيرة سجَّلها هذا الكتاب. ويبدو واضحًا الآن أننا بحاجة إلى إعادة تفكير الآن لنتبين أي العمليات الإدراكية والفكرية هي الأساسية، وأيها يطرأ عليها تغير جوهري من مجموعة بشرية إلى مجموعة أخرى. والجدير ذكره أن خطوط النزاع مآلها إلى أن تكون أعمق كثيرًا، وفي مواقع مختلفة، على عكس ما ذهب إليه الظن حتى الآن.
(١) هل هذا مهم؟
ولكن النتائج الواردة في متن الكتاب مبنية في أغلبها على اختبارات معملية، لماذا نفترض أن النتائج ما هي إلا نباتات مستزرعة داخل دفيئة (صوبة) وليس لها نظير في عالم الواقع فكرًا أو سلوكًا؟
السؤال جدير بأن نسأله، وسيكون مفيدًا أن نحاول الإجابة عنه. توجد في الحقيقة مجالات كثيرة في الحياة التي يفكر ويسلك فيها الشرق-آسيويون والغربيون على نحو مختلف تمامًا. وهذه الفوارق بدت مفهومة بوضوح في ضوء دعاوانا عن النظرة الكلية مقابل الفكر التحليلي.
الطب
يلتزم الطب في الغرب نهجًا تحليليًّا، وموجهًا نحو الموضوع، وتدخليًّا، وهذه أساليب تناول شاعت على مدى آلاف السنين؛ الكشف عن الجزء المسبب للمرض أو المزاج الضار، ويعمل على إزالته أو تغييره. ولكن الطب في شرق آسيا مغرق في النظرة الكلية ولم يتجه أبدًا، حتى العصر الحديث، إلى الجراحة أو غير ذلك من تدخلات جريئة. فالصحة هي نتاج توازن بين قوًى حميدة داخل الجسم، والمرض سببه تفاعل معقد بين القوى، وهو ما يتعين التصدي له بأدوية وتدخلات متساوية معه من حيث تعقده، وهي عادة أدوية وتدخلات طبيعية، وغالبيتها من الأعشاب. ونعرف أن تشريح الأبدان إلى الأجزاء المكوِّنة لها عمل مارسه الإغريق القدامى، ثم حدثت قطيعة خلال العصور الوسطى، ليعود ثانية ويمارسه الغرب ثانية على مدى القرون الخمسة الأخيرة. ولم ينتقل التشريح عن طريق الغرب إلى الطب في شرق آسيا حتى القرن التاسع عشر.
القانون
لنتأمل المعادلة التالية؛ أولًا: نحن نحدد إيثار المجتمع للمحامين على المهندسين كنسبة:
ثانيا: نحدد نسبة إلى هذه النسب في ضوء التفضيلات النسبية لبلدين للمحامين على المهندسين.
العدد حاصل قسمة نسبة تفضيل المحامين في الولايات المتحدة عن نسبة تفضيل المحامين في اليابان هو أربعون-واحد.
المحامون في الولايات المتحدة يفيد منهم المجتمع؛ ذلك أن النزاع بين الأفراد في بلدان الغرب تجري معالجة القسط الأكبر منه عن طريق المواجهات القانونية، بينما الأمر المرجح جدًّا في شرق آسيا هو الوساطة. ويُلاحَظ أن الهدف في الغرب هو تطبيق مبدأ العدالة، وافتراض التوجه إلى ساحة القضاء لحسم النزاع هو مثال جيد لمعنى أن ثمة حقًّا وخطأ، وسيكون هناك خاسر وفائز. ولكن الهدف من حسم النزاع في شرق آسيا هو على الأرجح خفض مستوى العداوة، كما أن التوفيق هو النتيجة المرجحة. ويلتزم الغربيون بمبادئ كلية عن العدالة لمواصلة السعي نحو أهدافهم، ويشعر القضاة والمحلفون بأنهم ملزمون باتخاذ قرارات يؤمنون بأنها ستُطبَّق على كل إنسان في ظروف متماثلة تقريبًا. ولكن على العكس في شرق آسيا، إذ نجد المرونة والانتباه واسعَي النطاق إزاء الظروف والملابسات الخاصة بالقضية؛ إذ يمثل هذان السمات المميزة للحكمة في حسم النزاع. وهذا ما عبر عنه مواطن صيني في فترة ما قبل الثورة الصينية حين قال: «… القاضي الصيني لا يسعه التفكير في القانون ككيان مجرد، بل باعتباره كمًّا مرنًا عند تطبيقه شخصيًّا على العميد هوانج أو الرائد لي، ومن ثم فإن أي قانون غير شخصي بما فيه الكفاية بحيث يستجيب لشخصية العميد هوانج أو الرائد لي هو قانون غير إنساني، ومن ثم ليس قانونًا على الإطلاق. إن العدالة الصينية فن وليست علمًا.»
الجدل
عمليات اتخاذ القرارات في قاعات مجالس الإدارات والمجالس التنفيذية في اليابان هدفها تجنب النزاع والتنافر والانشقاق. ويُلاحَظ أن الاجتماعات غالبًا ما تكون أكثر قليلًا من مجرد التصديق على توافق للآراء حققه مقدمًا الرئيس. ويجنح المديرون اليابانيون إلى التعامل مع نزاع بينهم وبين مديرين آخرين عن طريق تجنب الموقف ببساطة، بينما نجد الأمريكيين أميل كثيرًا من اليابانيين إلى محاولة الإقناع. وإن ما يعتبره الشرق-آسيويون تدخلًا ونهجًا خطرًا، يراه الغرب وسيلة للوصول إلى الحق. ويضفي الغربيون ما يرقى إلى مستوى الإيمان الديني على ساحة الحوار الحر للأفكار. إن الأفكار السيئة ليست خطرًا على المدى البعيد على أقل تقدير؛ إذ سيتضح آنذاك هدفها حين تتيسر مناقشتها صراحة بين الناس. ولم يعرف شرق آسيا مثل هذا الافتراض، وغير معروف به حتى الآن.
العلم
في عقد التسعينيات من القرن العشرين حصل العلماء المقيمون في الولايات المتحدة على أربع وأربعين جائزة نوبل، وحصل اليابانيون على جائزة واحدة فقط، هذا على الرغم من حقيقة واقعة، تتمثل في أن ما ترصده اليابان من أموال للبحث العلمي يبلغ نصف ما ترصده الولايات المتحدة. كذلك بالنسبة إلى ألمانيا الغربية التي تنفق نصف ما تنفقه اليابان على العلم، حصل علماؤها على خمس جوائز. ونذكر أيضًا فرنسا التي تنفق على العلم أقل مما تنفقه ألمانيا، ومع هذا حصلت على ثلاث جوائز. ويمكن جزئيًّا رد أسباب الإنجازات الضئيلة نسبيًّا لليابان في مجال العلم إلى ما تفرضه الكونفوشية من احترام لكبار السن، وهو ما يؤدي إلى توجيه الدعم والمساندة إلى العلماء الكبار السن ذوي المستوى المتواضع، دون شباب العلماء الموهوبين. ولكن بعض العلماء اليابانيين يعزون القصور جزئيًّا إلى غياب الحوار والمواجهات الفكرية؛ إذ يُلاحَظ أن المراجعة والنقد بين الأكفاء شأن نادر في اليابان، حيث يُعتبر ضربًا من التجرؤ والغلظة، وحيث لا يسود قبول واسع النطاق لدورهما في توضيح وتقدم الفكر فيما يتعلق بالشئون العلمية. وعبر عن هذا عالم ياباني بقوله: «عملت في معهد كارنيجي في واشنطن، وعرفت عالمين بارزين كانا نعم الصديقان. ولكنني لاحظت إذا تعلق الأمر بعملهما فربما يدور بينهما نقاش حاد قاسٍ، حتى لو كان علنيًّا على صفحات الصحف. هذا النوع من السلوك يقع داخل الولايات المتحدة، ولكنه لا يحدث أبدًا في اليابان.»
الخطابة
مقاومة النقاش والجدل ليست مجرد مسألة اجتماعية أو أيديولوجية، ولا هي مقصورة على نتائج كمية خالصة من مثل عدد أوراق الأبحاث العلمية المنتجة. وإنما الإحجام عن النقاش يتسع نطاقه ليشمل طبيعة الاتصال والخطابة ذواتهما. والجدير ذكره أن الخطابة الغربية — التي تشكل البنية الأساسية لكل شيء، ابتداء من التقارير العلمية وحتى أوراق البحث المتعلقة بالسياسة — تأخذ عادة أشكالًا متباينة على النحو التالي:
-
الخلفية.
-
المشكلة.
-
الفرض أو القضية المقترحة.
-
وسائل الاختبار.
-
الدليل.
-
حُجج تبيِّن وتدعم الدليل وما يفضي إليه.
-
تفنيد أي حجج مضادة محتملة.
-
النتيجة والتوصيات.
والجدير ذكره أن غالبية الغربيين الذين تحدثت إليهم بشأن هذا القالب للبحث يأخذونه مأخذ التسليم كقالب كلي شامل؛ أنَّى لنا عن غير هذا أن ننقل معلوماتنا عن اكتشافاتنا، وأن نقدم توصياتنا بصورة مقنعة، أو حتى أن نفكر بوضوح فيما يفعله المرء؟ بَيد أن الحقيقة أن هذه الصيغة الخطابية الخطية على امتداد مسار أحادي ليست أبدًا شائعة في شرق آسيا. لقد تبين لي أن الصيغة الخطية الخطابية بالنسبة إلى طلابي من شرق آسيا هي آخر شيء حاسم يتعلمونه في طريقهم ليصبحوا علماء اجتماعيين أكفاء في أداء دورهم.
العقود
يرى العقل الغربي أن أي صفقة يجري الاتفاق عليها لا سبيل إلى تعديلها، الصفقة صفقة والكلام بشأنها نهائي. ولكن أبناء شرق آسيا غالبًا ما يعتبرون الاتفاقات اتفاقات مبدئية مع وضع أحداث المستقبل في الاعتبار. وطبيعي أن هذه الآراء المتعارضة غالبًا ما تسببت في نزاعات بين أبناء شرق آسيا والغربيين. ولعلنا نتذكر المرارة بين رجال الأعمال اليابانيين والأستراليين بسبب رفض أستراليا إعادة التفاوض بشأن عقد توريد سكر، وذلك حين انخفض سعر السكر انخفاضًا حادًّا في السوق العالمية. لم يكن اليابانيون في موقفهم هذا مرائين، ولا يسعون إلى خدمة أنفسهم على نحو أناني خالص؛ ذلك أن الموردين اليابانيين يضعون مثل هذه الأمور موضع الاعتبار في تعاملهم مع عملائهم. والمعروف أنه إذا تساقط الثلج وغطى طوكيو فإن موزعي الأفلام يعملون على الأرجح من أجل تعويض أصحاب دور السينما بسبب نقص عدد الجمهور. وأشار إلى هذا أستاذا الأعمال هامبدن-تورنر وترومبينارس إذ قالا: «المتابعة التحليلية — بندًا بندًا — ليست فعالة من حيث التكاليف، ولكن المتابعة بهدف تعزيز العلاقة بين العميل والمورد أمر مفهوم تمامًا.» والخلاصة أن اليابانيين ينظرون إلى علاقات العمل نظرة في إطار كلي تشمل السياق مع مضي الزمن.
العلاقات الدولية
حدث نزاع دولي بين الصين والولايات المتحدة نجم عن اختلاف المفاهيم بشأن الأسباب، وذلك حين اصطدمت طائرة مقاتلة صينية بطائرة استطلاع أمريكية، واضطُرت طائرة الاستطلاع إلى الهبوط فوق جزيرة صينية دون الحصول على إذن من المنطقة. أسر الصينيون ملاحي طائرة الاستطلاع، وطلبوا من الولايات المتحدة الاعتذار عن الحادث. ورفض الأمريكيون مؤكدين أن سبب الحادث تهور طيار الطائرة المقاتلة. ولحظ العالم السياسي بيتر جراييس وعالم النفس الاجتماعي كايبنج بنج أنه بالنسبة إلى الصينيين، الإصرار على أن ثمة شيئًا اسمه السبب الذي أدى للحادثة، ومحصور في إطارها فقط؛ أمر شبه مستحيل؛ إذ إن الحادثة وثيقة الصلة بعدد كبير من الاعتبارات، بما في ذلك حقيقة أن الولايات المتحدة، بعد كل شيء، تتجسس على الصين، وأن هناك تاريخًا للتفاعل بين طائرة الاستطلاع والطائرة المقاتلة … وهكذا دواليك. وتأسيسًا على تعقد وغموض السببية — مع تسليم الصينيين بأن الأمر هنا مثله مثل أحداث أخرى — فإن أقل ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة هو التعبير عن أسفها لوقوع الحادث. وطبيعي أن الغموض المفترض مسبقًا بشأن السببية يمكن أن يكون أحد أسس إصرار الشرق آسيويين على الاعتذار عن أي عمل يضر بآخر، سواء حدث عن غير قصد أو على نحو غير مباشر (واستعداد المديرين اليابانيين للاستقالة حين يفقدون السيطرة على مسار الأمور وتأخذ منحًى خاطئًا). وأخيرًا كانت «صيغة» الاعتذار هي ما اتفقت عليه الولايات المتحدة والصين لإنهاء الورطة. ولكن يبدو على الأرجح أن كثيرين من الجانبين لم يفهموا دور اختلاف مفاهيم السببية في النزاع، وهو ما أوضحه وحدده جراييس وبنج.
حقوق الإنسان
ينزع الغربيون — فيما يبدو — إلى الاعتقاد بأن ثمة نوعًا واحدًا فقط للعلاقة بين الفرد والدولة، وأنه وحده الصحيح الملائم. الأفراد وحدات منفصلة، ويدخلون معًا في عقد اجتماعي بينهم وبين الدولة، وبين بعضهم وبعض، مما يترتب عليه حقوق معينة وحريات والتزامات. ولكن غالبية الشعوب — بما في ذلك شعوب شرق آسيا — لا ترى المجتمعات حاصل جمع أفراد، بل جمعًا من جُسيمات أو كائنات. ونتيجة لذلك، فإن مفهوم حقوق الإنسان كشيء أصيل للفرد نادر أو غير موجود. ويرى الصينيون أن أي مفهوم عن الحقوق ينبني على أساس الجزء-الكل مقابل مفهوم المجتمع واحد-كثير. وبقدر ما يكون للمرء حقوق بقدر ما تتألف حصته من الحقوق جملة. والملاحظ أن الغربيين حين يرون الشرق آسيويين يعاملون الناس كأن لا حقوق لهم، إنما يرون ذلك في ضوء الأخلاق فقط. وأيًّا كانت الملاءمة الأخلاقية لسلوك الرسميين في شرق آسيا، فإن من المهم أن نفهم أن سلوك المرء على نحو مغاير لا يستلزم فقط قانونًا أخلاقيًّا مغايرًا، بل وأيضًا مفهومًا مغايرًا عن طبيعة الفرد. (أقول هذا وإن كنت أشارك غالبية الغربيين في الرأي بأن ثمة ما نسميه الحقوق الإنسانية للفرد، وأن هذه الحقوق تصادف أحيانًا انتهاكًا في شرق آسيا.) وطبيعي أن أي مفهوم مغاير عن الفرد سوف ينبني في النهاية على نزوع للتفكير في العالم في ضوء وحدات فردية، وليس على أساس جواهر متصلة، تمثل على أحسن الفروض المستوى الميتافيزيقي الأساسي.
ومن المهم كذلك أن ندرك أن شعوب شرق آسيا، وغيرها من الشعوب المؤمنة بالتكامل، لها اعتراضاتها الأخلاقية على السلوك الغربي. والملاحظ أن طلاب شرق آسيا حين يصبحون على سجيتهم قادرين على التحدث دون حرج داخل قاعات الدرس، فإنهم غالبًا ما يعبرون عن حيرتهم إزاء الكم الكبير من الفوضى والجريمة والعنف والصور الفاضحة جنسيًّا في وسائل الإعلام الغربية، والتي تذيعها وتروجها باسم الحرية والتسامح. إنهم يدركون أن هذه المسائل وليدة حقوق الإنسان؛ ذلك لأنهم يرون الحقوق أصيلة في الروح الجمعية دون الفردية.
الدين
إن بعض الاختلافات الدينية، وهي كثيرة، يمكن فهمها في ضوء ذهنية الغرب «الصواب/الخطأ»، مقابل التوجه الشرق آسيوي «كل من-و». تتسم ديانات شرق آسيا بالتسامح وتداخل الأفكار الدينية؛ إذ يمكن للمرء أن يكون كونفوشيًّا وبوذيًّا ومسيحيًّا في كوريا واليابان (وفي الصين قبل الثورة). والجدير ذكره أن الحروب الدينية في شرق آسيا نادرة نسبيًّا، بينما كانت داء متوطنًا في الغرب على مدى قرون؛ ذلك أن العقيدة السائدة تصر على ضرورة دخول الآخرين إليها، والالتزام برؤيتها عن الرب. ونجد من يدفع بأن الإغريق لا يُلامون على هذا، وربما يكون صحيحًا (إذ لم يكونوا موحدين، بل آمنوا بأرباب كثيرين، ولا يعنيهم أي الأرباب أثيرٌ عند المرء دون الأرباب الأخرى). ولكن الديانة التوراتية الإبراهيمية، وما تولد عنها من ديانات، هي التي سادها نزوع نحو شن حروب دينية. ولكن هناك من زعم، من ناحية أخرى، أن المسيحية هي العقيدة الدينية الوحيدة التي رأت من الضروري تأسيس فقه لاهوتي يحدد الصفات الجوهرية للرب. ويستطرد أصحاب هذا الزعم قائلين: إن هذا الإصرار على تحديد مقولات الرب وعلى التجريد؛ نهج يمكن تتبع جذوره تاريخيًّا عند الإغريق.
الدورات والعود المطرد يمثلان جزءًا واحدًا من كثير من ديانات شرق آسيا، ولكنهما أقل شيوعًا في الغرب. والميلاد المتجدد جزء من بعض ديانات شرق آسيا، ونادرًا ما نراه في الغرب. وترى ديانات شرق آسيا أن الخطيئة حالة مزمنة، ويمكن التكفير عنها (مثلما هي الحال في الكاثوليكية إلى حد ما). ولكن الخطيئة في التراث البروتستانتي عسير التكفير عنها، أو أن لا سبيل إلى الخلاص منها بالمعنى الحرفي.
أخيرًا، حري ألا ننسى أن أكثر الأدلة التي ناقشناها في هذا الكتاب مستمدة من حل مشكلات الحياة اليومية. إن المديرين اليابانيين يبدءون حياتهم العملية من قاع شركاتهم، ويطوفون بين أقسامها مرات ومرات حتى تتوافر لديهم رؤية شاملة لأنشطة شركاتهم. والمعروف أن المباني في الصين — بما في ذلك ناطحات السحاب في هونج كونج — لم يبدأ بناؤها إلا بعد مسح كامل وشامل على أيدي خبراء فنج شوي الذين يدرسون كل قسمة ممكنة، إيكولوجية وطوبوغرافية ومناخية وهندسية، للمنطقة وللمباني المقترح بناؤها في الوقت نفسه، وفي علاقتها بعضها ببعض. ولكن الغربيين، وخصوصًا الأمريكيين، هم رواد النهج المعياري الذري التبادلي المتماثل في الصناعة والتجارة … وهكذا إلى آخره. وليست دعواي أن الفوارق المعرفية التي كشفنا عنها في المعمل هي سبب اختلاف المواقف والاتجاهات والقيم والسلوك، بل إن الفوارق المعرفية غير منفصلة عن الفوارق الاجتماعية وعوامل الحفز. إن الناس يؤمنون بالعقيدة التي يؤمنون بها بسبب أسلوبهم في التفكير، وهم يفكرون بالأسلوب الذي يفكرون به بسبب طبيعة المجتمعات التي يعيشون فيها.
(٢) كيف يجب أن يفكر الناس؟
في مطلع القرن العشرين اقتسم الفلاسفة وعلماء النفس العمل فيما بينهم. أخذ علماء النفس المهمة الوصفية لاكتشاف كيف يفكر ويسلك الناس. وتولى الفلاسفة مهمة إرشادية ليقولوا للناس كيف ينبغي عليهم أن يفكروا ويسلكوا. وحدث أحيانًا، وإن لم يكن كثيرًا كما هو مستصوب، أن يتأمل الفلاسفة عمل علماء النفس ليعرفوا ما الذي يفعله الناس في الواقع العملي. ولكن حتى لو حرص الفلاسفة على الاهتمام عن كثب بجهود علماء النفس لما وجدوا غير النزر اليسير الذي يحررهم من وهم قناعاتهم بشأن النزعة الكلية الشاملة. وأعتقد أن الجهد الذي يعرضه هذا الكتاب سيكون له أثره في علماء النفس، وبالتالي على الفلاسفة أيضًا.
وإذا شئنا أن نعرف كيف يمكن أن تتأثر الفلسفة بما عرضناه من براهين تؤكد الرؤية غير الكلية، أي: تنفي الشمولية الكلية المطلقة، ندعو القارئ إلى أن يتأمل معنا لغز الاستقراء كما عرضه دافيد هيوم في القرن الثامن عشر. تساءل هيوم ما الذي يبرر لنا أن الطعام الذي نتغذى عليه اليوم سوف يكون غذاء لنا غدًا. لا سبيل إلى حل استنتاجي للمشكلة. إن عبارة «هذا الطعام كان غذاء لي اليوم، ولذلك سيكون غذاء لي غدًا» هي عبارة احتمالية خالصة، تفتقر إلى اليقين اللازم للقياس.
بيد أنني لا أريد أن أستقر في هذا الفراش الخاص بالنسبية، الذي أسهمت في صنعه. إنني أرى على العكس أن أنماط التفكير عند الآسيويين تلقي ضوءًا ذا قيمة عالية على بعض أخطاء التفكير لدى الغرب، كما أن الصورة المقابلة نفسها قد يكون من المفيد عكسها للنظر إلى الفكر في شرق آسيا.
وسوف أركز على عدد قليل فقط من عادات الفكر عند الغربيين، التي تتجلى واضحة عند مقابلتها بأنماط الفكر عند الشرق آسيويين.
الشكلانية Formalism
يشتمل النهج المنطقي الشكلي للفكر الغربي على قوة هائلة. وواضح أن العلم والرياضيات يرتكزان عليه، وإن اختلفت الآراء حول مدى هذا الاعتماد. وسبق أن قال فرنسيس بيكون: «المنطق لا جدوى منه، العلم هو الإبداع.» وأعرب برتراند رسل عن رأيه أن القياسات المنطقية لدى رهبان القرن الثاني عشر عمل عقيم. وعلى الرغم من أنني أجنح إلى الموافقة، إلا أن هذه قضية ملغزة تأتي على لسان من آمن بأن كل مشكلات البشرية يمكن حسمها بالمنطق، ولكن بأن نطبق فقط المنطق الشكلي على قضايا العالم الواقعي. وعندي أن هذا أحال تحليله للقضايا السياسية والاجتماعية إلى شيء ساذج. إن القضية الرئيسية في مشكلته هي إصراره على الفصل بين الشكل والمحتوى، وهكذا يمكن المضي قدمًا بالتفكير على أساس المبادئ المنطقية الخاصة بالشكل فقط. هذا هو المرض المزمن الذي يعاني منه الغرب. ويقول في هذا الصدد الفيلسوف إس إتش ليو: «الصينيون أعقل من أن يفصلوا الشكل عن المحتوى.»
-
مفهوم الحركة الانتقالية من الأطروحة إلى نقيضها، ثم إلى المركَّب منهما.
-
القدرة على فهم الأحداث أو المواقف باعتبارها لحظات في طور عملية ما.
-
إدراك إمكان حدوث تغير كيفي نتيجة تغير كمي.
-
القدرة على اتخاذ موقف فكري من النسبية السياقية.
-
إدراك قيمة أطر فكرية عديدة عن مشكلة ما.
-
إدراك عثرات النزعة الشكلية المبنية على الاعتماد المتبادل بين الشكل والمحتوى.
-
القدرة على تمييز المفهوم العقلي للعلاقات المتقابلة في اتجاهين.
-
القدرة على تمييز مفهوم المنظومات الذاتية التحول.
-
القدرة على تصور المنظومات في ضوء توازنها.
والغريب أن كلًّا من ريجيل وبيسيكس — فيما يبدو — لم يكتشف كتابة الرابطة بين أفكارهم عن العمليات بعد الشكلية والجوانب الجدلية في فكر شرق آسيا، على الرغم من أنهما — على أرجح تقدير، كما يبدو — كانا غير مدركين لأوجه التماثل. وثمة احتمال في الواقع بأنهما اعتمدا على أفكار شرق آسيوية لاستحداث مخططاتهما.
نقيصتان غربيتان تتمثلان في فصل الشكل عن المحتوى، وفي الإصرار على المناهج المنطقية، أدتا معًا في غالب الأحيان إلى إنتاج قدر كبير من الهراء الأكاديمي. ويشتمل مجال تخصصي في علم النفس على قدر وفير من الأمثلة التي توضح ما ذهبت إليه. وأذكر تحديدًا أن قدرًا كبيرًا من صياغة نماذج للظواهر المنطقية النفسية على أساس المنطق الشكلي — وأنا واعٍ بأغلبها — يفشل في توضيح الظواهر المستهدفة. إن البهجة تكمن في صياغة النماذج لذاتها وليس لفهم السلوك. وحدث أن أخبرني أصدقاء اقتصاديون أن الشيء البطولي في علم الاقتصاد هو أن ننتقي المبدأ غير المقبول عقلًا، ثم نستخرج منه أكبر عدد ممكن من الظواهر.
(٣) المنطق ثنائي القيمة
كثير من مفكري الغرب أنحوا باللائمة على النهج الثنائي إما-أو في تقييم القضايا، والذي يُعتبر خاصية مميزة للغرب. ولكن أيسر على المرء أن يرى المشكلات من منظور «كل من-و»، وهو النهج المتبع في شرق آسيا. مثال ذلك: إصرار الغرب على أن سلوكًا ما له سبب واحد بدلًا من أسباب عدة، يفضي بالناس إلى النظر إلى السلوك على أساس إما أن سببه داخلي وإما خارجي، وليس الاثنان معًا. وهكذا يمكن للمرء أن يتصرف بدافع من الكرم أو لإشباع دافع يخدم الذات، وليس للطرازين معًا من الأسباب. والتزم آدم سميث هذا المنظور في دفاعه الشهير عن الرأسمالية إذ قال: «إن الخباز أو الجزار لا يزودك أيها العميل بطعامك من باب الرعاية والحرص عليك، بل بسبب حرصه على نفسه.» ولكننا عند التفكير نسأل: ولماذا لا يكون الدافعان معًا؟ يقينًا إن تجارًا كثيرين يديرون مشروعاتهم لإطعام أسرهم هم، ولكن أيضًا وبالمثل يسهمون في المساعدة على إطعام آخرين. لقد أدرك سميث نفسه هذه الحقيقة، ولكن أغفلها أو لم يقدرها حق قدرها كثيرون من تلامذته وتابعيه.
وهناك مفارقة ساخرة بشأن دوافع السياسيين، والتي تمثل سمة مميزة للأمريكيين؛ إذ مهما كان احتمال هذه الدوافع أن تكون مفيدة للحفاظ على الحريات الشخصية، إلا أن المرجح أن تتولد عنها بعض التقييمات غير الصحيحة. إن أيًّا من ليندون جونسون أو ريتشارد نيكسون ليس من بين السياسيين المفضلين عندي، ولكن سادت نظرة على نطاق واسع ترى أنهما أقدما على أعمال بهدف تحقيق كسب سياسي، في الوقت الذي أقدما فيه على أمور اعتقدا هما أنفسهما أنها ستؤدي إلى خسائر سياسية جسيمة. تصور كثيرون أن جونسون كان يحاول تعزيز رأسماله السياسي بالنضال، دفاعًا عن مشروعات قوانين الحقوق المدنية التي دعا إليها كنيدي، ولكنه في واقع الأمر كان يعرف — أفضل مما كان يعرف كنيدي — أنه بذلك يتخلى عن الجنوب للحزب الجمهوري على مدى جيل كامل، وظن كثيرون أن نيكسون كان يلتمس كسبًا سياسيًّا شخصيًّا بفتح الطريق إلى الصين، هذا في الوقت الذي كان فيه هو وكثيرون من مساعديه يخافون من أن تكون هذه المحاولة نقلة غير شعبية إلى أقصى حد.
وهناك قدر ضئيل من البراهين التي تؤكد أن الغربيين يمكن أن يكونوا أكثر تعرضًا من سواهم ﻟ «خطأ الدافع الوحيد». وأذكر أن عالمَي علم نفس النمو، جوان ميللر ودافيد بيرسون، قصا على أطفال أمريكيين ومن شرق الهند حالات ساعد فيها شخص شخصًا آخر، ولوحظ في بعض الحالات أن المساعد توقع مردودًا مقابلًا لمساعدته في بعض الأحيان، ولم يتوقع ذلك في حالات أخرى. افترض الأطفال الهنود أن المساعد كان شغوفًا في باطنه عن أصالة لكي يقدم العون، بغضِّ النظر عن التوقعات بمردود مقابل. واعتقد الأطفال الأمريكيون أن هناك دافعًا باطنيًّا أصيلًا للمساعدة في حالة واحدة فقط، وهو ألا يكون هناك توقع بمردود مقابل.
(٤) الخطأ الأساسي في نسبة الأسباب
ويعني الميل إلى افتراض أن سلوك شخص آخر إنما نتج عن سمات أو قدرات شخصية، مع إغفال عوامل موقفية مهمة أحيانًا أو التهوين منها. ويمثل الخطأ الأساسي في نسبة الأسباب واحدًا من أهم الظواهر في علم النفس الاجتماعي، والتي أثبتتها براهين على أفضل وجه. وذهب النقاد أحيانًا إلى أن هذا الميل لا يمثل خطأ على الإطلاق. ولكن أبناء شرق آسيا أقل عرضة من الأمريكيين للوقوع في هذا الخطأ في بعض الحالات، فضلًا عن أنه سرعان ما يجري تصحيح الخطأ عندما يتضح لهم الموقف بشكل أو بآخر. وليس بوسع الناقد الأخذ بالأمرين معًا. إما أن يكون الغربيون على خطأ في تلك الحالات التي يُغفلون فيها تأثيرات الموقف، وإما أن يكون الشرق آسيويون على خطأ عندما يضعون تأثيرات الموقف في الاعتبار. ولعل الموقف المقبول أكثر من سواه — خاصة في ضوء المعطيات التي تبين أن الأمريكيين أميل إلى الانتباه فقط للموضوعات البارزة وإغفال السياق — هو القول إن الأمريكيين هم المخطئون، والشرق آسيويين هم المصيبون في هذه الحالات.
وجدير بالملاحظة أن البحوث بشأن الخطأ الأساسي في نسبة الأسباب؛ لها دلالاتها المؤثرة فيما وراء ما يختص بالإبستومولوجيا. إن العمل مهم أيضًا لعلم الأخلاق، وهذه نقطة أكدها فلاسفة عديدون، نذكر من بينهم جون دوريس وجيلبرت هارمان وبيتر فراناس، فضلًا عن كثيرين من علماء النفس؛ إذ يلحظ هؤلاء أن الأخلاق عند أرسطو، التي كان لها دور هائل في تاريخ الفلسفة الغربية، تماثل الفيزيقا عنده. الناس مثل الموضوعات، يسلكون على النحو الذي يسلكون به بسبب خاصياتهم — الفضائل أو الرذائل في حالة الأخلاق ذات الصلة بسلوك الناس. وواضح أن «أخلاق الفضيلة» عند أرسطو أكثر اتساقًا مع الفكر الغربي العامي عنه مع معتقدات شرق آسيا بشأن السلوك الأخلاقي. ويشجع مذهب أرسطو المرء على أن يفترض أن لا سبيل إلى تقويم وإصلاح الناس، أو أن يتخذ موقفًا يقضي بضرورة تبديل السلوك عن طريق تغيير الخاصيات التي يتصف بها الناس، وهذه مهمة عسيرة على أحسن الفروض، وغير مجدية على أسوأ الفروض. إنك إذا شئت أن تجعل الناس يسلكون على نحو ما تعتقد أنت أنه السلوك الذي ينبغي أن يكون؛ فإن أيسر سبيل تشجيعهم على الْتماس مواقف تولد عندهم أفضل سلوك، وأن ينأوا بأنفسهم بعيدًا عن أي مواقف تحثهم على السلوك الرديء. ويُلاحَظ أن مثل هذا النهج للحث على السلوك الأخلاقي نراه أكثر وضوحًا من زاوية النظر الشرق آسيوية، عنه من زاوية النظر الغربية.
التحول عدل وإنصاف، كما أن بالإمكان أيضًا أن نستخدم المبادئ الغربية كنقطة ارتكاز لنقد الفكر الشرق آسيوي. ونعرض فيما يلي تخطيطًا عامًّا لما يمكن أن يكون عليه مثل هذا المشروع.
التناقض
إن أسلوب طرح المشكلات لاكتشاف حلول لها في صورة «هناك صدق على الجانبين»؛ يمكن أن يكون مناسبًا جدًّا كنهج نستخدمه أولًا لفهم أي تناقض ظاهري. ويمكن أن يكون أيضًا أسلوبًا جيدًا للإنجاز في غالب الأوقات. بيد أنه ليس إجراء حسابيًّا ميكانيكيًّا من الأفضل الالتزام به دون تردد؛ إذ يحدث أحيانًا أن قضية ما يكون كل الصدق أو أغلبه إلى جانبها، وقدر قليل إلى جانب الأخرى. ولقد رأينا كيف أن أبناء شرق آسيا أميل من الأمريكيين إلى أن يولوا ثقتهم وتصديقهم لكل من القضيتين اللتين بينهما علاقة تناقض، وأنه يمكن أن ينتهي بهم هذا إلى الوقوع في خطأ خطير، يتمثل في تصديق قضية بذاتها أكثر من الأخرى حين يرونها تُناقض قضية أكثر قبولًا، عما لو رأوها وحدها. ويكاد يكون من المستحيل الدفاع عن هذا على أسس منطقية، ولكن يمكن تبينه كنتيجة للإصرار على الْتماس طريق وسطى. ويؤكد لنا أنكيول تشوي أن عدم الحساسية النسبية لدى أبناء شرق آسيا إزاء التناقض؛ يحد على الأرجح من فضولهم المعرفي اللازم لكي يكونوا علماء. وسواء أكان هذا خيرًا أم شرًّا، إلا أنه رهن بالأفضلية. بيد أنه من الأمور الوثيقة الصلة يقينًا أن المسئولين عن إدارة شئون مجتمعات شرق آسيا الآن يسعون إلى تحقيق القدرة على إنتاج علماء.
الحوار والخطابة
أشارك الغربيين إيمانهم بفعالية الحوار وصولًا إلى الصدق أو الحقيقة أو الإبقاء على فروض مطروحة للنقاش على مائدة الحوار لما قد تحمله من فائدة. ولا ريب في أن الأسلوب الغربي للحوار — وما يشجعه من عادات ذهنية — مهم للحفاظ على المجتمعات منفتحة بعقول واسعة الأفق. ويتلازم الحوار أيضًا بفن خطابة معياري على أساس الفرض-البينة-النتيجة، وهو المنهج الذي يعتمد عليه بقوة العلم والرياضيات. وسبق لي أن استشهدت باقتباس من عالم الفيزياء ألان كرومر، الذي يؤكد أن «البرهان الهندسي هو الشكل الخطابي في أقصى صورة». وجدير بالذكر أن عالم النفس والإحصائي روبرت أبيلسون ألَّف كتابًا جميلًا يصف الإحصاء بأنه في جوهره خطابي. وأعتقد أن العبارات المجازية هنا عميقة الدلالة وصحيحة المعنى.
التعقد
وطبيعي أن أي ملاحظات إرشادية مثل تلك المعروضة في هذا الباب لن يكون لها معنًى أو قيمة إلا إذا عرفنا أن بالإمكان تغيير عادات العقل عند الناس. هل يمكن هذا؟
(٥) التعليم والاختبار
هل ينبغي على المعلمين أن يلتمسوا السبيل لتقديم مهارات الثقافات الأخرى إلى أبنائهم، أم ينبغي أن يركزوا على ما يحدده المجتمع على أنه مهم في ثقافة مجتمعهم؟
اعتاد الأمريكيون سماع أخبار عن النجاحات التعليمية التي يحققها أبناء شرق آسيا أو الأمريكيون من أصول شرق آسيوية، سواء في شرق آسيا أو في الولايات المتحدة، حتى ليبدو الأمر أشبه بالصدمة أن تسمع أن أبناء رجال الأعمال اليابانيين المقيمين في الولايات المتحدة يوصفون في المدارس الأمريكية «بالمعاقين تعليميًّا»، ويعودون إلى بلادهم. إن عجزهم عن أداء التحليل السببي — في دراسة التاريخ كمثال — وفقًا لأكثر السبل البدائية المتوقعة من الأطفال الأمريكيين يفضي إلى الاعتقاد بأنهم ضعاف معرفيًّا.
وجدير بالذكر أن المهارات التحليلية السببية ليست المجال الوحيد الذي يعتقد أحيانًا رجال التعليم الأمريكيون أن أبناء شرق آسيا ضعاف فيه. إن الحوار أداة تعليمية مهمة لتعليم مهارات التفكير التحليلي، ولفرض وعي ذاتي بصواب أفكار المرء. وهذه نظرة يتزايد أعداد من يؤمنون بها من غير الغربيين الآن. لقد أصبح التعلم عن طريق الحوار صناعة تصديرية أمريكية ثانوية، علاوة على الشباب الوافدين من جميع أنحاء العالم، وبخاصة أبناء شرق آسيا، للإقامة في معسكرات الحوار في الولايات المتحدة الأمريكية.
وحدث منذ بضع سنوات مضت أن طالبة كورية خريجة إحدى الجامعات، اسمها هيجونج كيم، كانت تدرس علم النفس في معهد ستانفورد. وأعربت الطالبة عن سخطها بسبب إلحاح معلميها الأمريكيين بمطالباتهم منها بأن تعبر عن رأيها داخل قاعة الدرس. وقيل لها مرارًا إن عدم التعبير صراحة عن رأيها يمكن اعتباره مؤشرًا على الفشل في فهم مادة الدرس فهمًا كاملًا. وقيل لها كذلك إن التعبير عن الرأي، وسماع ردود أفعال المعلم والزملاء والزميلات، من شأنه أن يساعدها على فهم الدرس على نحو أفضل. ولكن الأمر على العكس؛ إذ كانت تشعر هي وزملاؤها الطلاب من شرق آسيا، أو الأمريكيون من أصول شرق آسيوية، بأنهم لن يفيدوا من الكلام؛ لأن سبيلهم الأساسي لفهم موضوع الدرس ليس سبيلًا كلاميًّا. إن شرق آسيا تسوده يقينًا تقاليد عريقة تساوي الصمت دون الكلام بالمعرفة. وتعرف أن الحكيم الصيني لاو-تسو في القرن السادس قبل الميلاد قال: «من يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف.» وتوضح كيم الفارق بتذكيرنا بالتمايز الذي كشفنا عنه في دراستنا بين الفكر التحليلي والفكر الكلي. إن الفكر التحليلي الذي يشرح العالم في صورة عدد محدود من الموضوعات المنفصلة، ولكل موضوع صفاته الخاصة والمحددة، بحيث يمكننا تصنيفها بطرق واضحة إلى فئات متمايزة، إنما يعكس ذاته في اللغة نفسها. ولكن الفكر الكلي الذي يستجيب لمجموعات أكبر وأوسع نطاقًا من الموضوعات وعلاقاتها، والذي يكشف عن أقل قدر من التمايزات الصارخة بين الصفات أو الفئات-المقولات هو فكر يتلاءم في أدنى حد مع التمثيل اللساني.
أردنا أن نختبر إمكان أن يجد الشرق آسيويون والأمريكيون من أصل شرق آسيوي، أن من العسير عليهم استخدام اللغة للإعلان عن الفكر. طلبت كيم من المشاركين التحدث بصوت عالٍ، في أثناء محاولتهم حل أنواع مختلفة من المشكلات. لم يكن لهذا أثر على أداء الأمريكيين الأوروبيين. ولكن شرط التحدث بصوت عالٍ أضر كثيرًا بأداء الشرق آسيويين والأمريكيين من أصل شرق آسيوي. وطبيعي أن هذا العمل مقنع، شأن جميع الاختبارات التي عرضها هذا الكتاب عن الطبيعة المختلفة للفكر عند كل من أبناء شرق آسيا من ناحية، والغربيين من ناحية أخرى، وهذا أمر له دلالاته المهمة إلى أقصى حد. كيف يمكن لنا أن نعلِّم أبناء شرق آسيا والأمريكيين من أصول شرق آسيوية داخل قاعات الدرس الأمريكية؟ هل هذا شكل من أشكال «الاستعمار» أن تطالبهم بالأداء اللفظي ومشاركة زملائهم فكرهم؟ تُرى هل يؤدي هذا إلى تقويض المهارات الملازمة للنهج الكلي في رؤية العالم، أم أن هذا مجرد حس مشترك لإعدادهم لعالم تكون فيه مهارات التعبير اللفظي ميسورة، حتى وإن تعذَّر عليهم بلوغها؟
ثمة ميزتان واضحتان للمعرفة في شرق آسيا: (۱) حقيقة أن الشرق آسيويين يرون في مشهد ما أو سياق ما أكثر مما يراه الغربيون. (۲) النهج الكلي، الجدلي، القائم على الْتماس طريق وسطى في حل المشكلات. لندع جانبًا الآن السؤال عما إذا كان ينبغي أن نعلِّم الغربيين هذه المهارات. وأذكر أن الدراسات التي أعدها عالما علم النفس المعرفي دافيد مايير ودافيد كييراس، اشتملت على بعض الإلمامات التي تفيد بأن الأمر قد يكون يسيرًا على نحو مثير للدهشة لفتح «عنق الزجاجة» فيما يتعلق بالأداء الإدراكي والأداء الحركي-الإدراكي؛ إذ يمكن تعليم الناس الانتباه إلى نطاق أوسع من المنبهات المختلفة والاستجابة لها على نحو أسرع وأدق، وذلك بفضل كم متواضع من التدريبات. ولكنني أرى الجوانب المعرفية للنهج الكلي والجدلي في التفكير أمرًا مختلفًا تمامًا. إنها بعض سَدى ولُحمة الإدراك والفلسفة، بل والمزاج، حتى ليبدو لي أن من المشكوك فيه أن يحقق التغيير إنجازًا كبيرًا، ولكن يسعدني كثيرًا أن أكون مخطئًا.
وعرف القرن الماضي فرضًا أشبه بالمسلَّمات بشأن اختبار الذكاء؛ إذ يرى أن بالإمكان اختبار الذكاء بطريقة منصفة أو مبرأة من القيود الثقافية. وأجمع الخبراء على أن التحيزات الثقافية يمكن أن تتخلل اختبارات الذكاء المعتمدة على اللغة. وأكثر من هذا، ذوو المكانة الاقتصادية الاجتماعية المختلفة داخل ثقافة ما لهم كلماتهم المختلفة. كذلك فإن المقارنة تصبح غير ذات معنًى بين الثقافات واللغات المتباينة. ولكن ثمة توافقًا في الآراء يفيد بأننا إذا اختبرنا الذكاء بدون استخدام الكلمات، فإنه يصبح مقبولًا عمل مقارنات بين جماعات من ثقافات مختلفة.
تشكَّل فريق عمل برئاسة دنيس بارك وتراي هيدين بجامعة ميتشيجان، وفيشنج جنج من معهد علم النفس الصيني، وأنا. وقام الفريق باختبار ذكاء طلاب جامعيين أمريكيين وصينيين وأشخاص من كبار السن. واتبعنا ثلاث طرق؛ اختبارات السرعة والذاكرة المرتبط بدرجات معامل الذكاء (على الأقل بين السكان الغربيين حيث جرت دراسة المسألة)؛ وعن طريق الدرجة المئوية للمعلومات العامة، بالمقارنة بين التجمعات الوثيقة الصلة (أيضًا بينها وبين درجات معامل الذكاء معامل ارتباط مرتفع)؛ وعن طريق اختبار كاتيل لقياس الذكاء غير المقيد بالظروف الثقافية.
عمدنا إلى ضمان تعادل الفرق من حيث السرعة والذكاء، بحيث كان للشباب من الأمريكيين والصينيين درجات متطابقة في المتوسط العام، وهو ما حدث لكبار السن من الأمريكيين والصينيين أيضًا. (لوحظ أن الشباب أسرع كثيرًا وذاكرتهم أفضل، لذلك لم يكن ممكنًا كفالة التعادل لهذه المتغيرات على أساس المجموعات العمرية.) وحددنا درجات مئوية متطابقة للمعلومات أيضًا. (لوحظ، كما هي العادة، أن كبار السن في عيناتنا حصلوا على درجات أعلى من الشباب في المعلومات.) ولكن على الرغم من هذه المباراة تأسيسًا على قياسين شديدَي الاختلاف للذكاء، فإن الأمريكيين، سواء الشباب أو كبار السن، حصلوا على درجات أفضل موضوعيًّا من الصينيين في الاختبار غير المقيد بالظروف الثقافية. وكان الفارق كبيرًا جدًّا (أكثر من أربعة أخماس الانحراف المعياري بالنسبة للقراء ذوي الألفة بالإحصاء). بيد أننا إذا أخذنا نتائج اختبار كاتيل جديًّا، وطرحنا جانبًا المعلومات الأخرى عن القدرات، سنخلص إلى نتيجة محددة، وهي أن الأمريكيين أذكى كثيرًا من الصينيين (أو أن يكون لنا حق المطالبة بتكوين عينة عشوائية من التجمعات ذات الصلة، وهو ما لم نفعله).
(الفوارق عادة كبيرة جدًّا. إنه نموذجيًّا الجزء الأفضل من الانحراف المعياري.) وإذا كان ثمة سبب لافتراض أن المجموعات جرى اختيارها كعينات عشوائية (وهو ما لم يحدث)، فإن هذا ربما يحث البعض على الدفع بأن أبناء شرق آسيا أكثر ذكاء من جماعات من أبناء الثقافة الأوروبية، وهذه حقيقة. ونجد مثل هذا الرأي متضمنًا بين ثنايا الكثير من القضايا المبهمة في كتاب «منحنى الجرس»، تأليف ريتشارد هيرنشتاين وشارلس موراي. علاوة على هذا التأكيد بأن النتيجة المكتشفة دليل قوي على الأساس الجيني للاختلاف، طالما وأن هذه الاختبارات المكانية مبرأة كما هو واضح من القيود الثقافية.
ونعرف أن التنوع العرقي أمر صادف ترحيبًا لأسباب كثيرة على اختلاف أنواعها. ونذكر أن من بين هذه الأسباب أن البيئات التعليمية والعملية تثري وتغتني بفضل سكانها ذوي الخلفيات المتنوعة. وجدير بالذكر أن دراستنا تدعم بقوة الدفع بأن الآراء المتنوعة من شأنها أن تساعد في حل المشكلة. ونعرف أن التوجهات والمهارات المعرفية لدى أبناء شرق آسيا والثقافات الأوروبية بينها اختلاف واضح؛ لذلك يبدو لنا أنه من المرجح جدًّا أنها جميعًا تكمل وتثري بعضها بعضًا في أي مجال يجمع بينها. ولنا أن نتوقع أن المرء إذ يتصدى لحل المشكلات سيكون في وضع أفضل وسط خليط من الناس من ذوي الثقافات المختلفة عن أن يكون كل من حوله من أبناء ثقافة واحدة.
بيد أن بقاء وصمود ميزة التنوع رهن اهتمامنا وانشغالنا بعملية تكفل إضفاء التجانس على الصعيد العالمي.