رجل الممر
ظهر رجلانِ في الوقت نفسه عند نهايتَي ما كان أشبه بممرٍّ يمتد بطول أحد جوانب مسرح أبولو في أديلفي. كانت أضواء المساء في الشوارع منتشرة وساطعة ومتلألئة وخاوية. أما الممر فكان طويلًا ومظلمًا نسبيًّا؛ لذا كان بمقدورِ كلِّ واحدٍ منهما أن يرى الآخر كمجرد ظلٍّ أسود عند النهاية المقابلة له، ولكن كان كلٌّ منهما يعرف الآخر، حتى بتلك الصورة المبهمة للغاية؛ لأن كلًّا منهما كان ذا مظهرٍ لافت، كما كان كلٌّ منهما يكره الآخر.
كانت إحدى نهايتَي الممر المغطَّى تفضي إلى أحد شوارع أديلفي المنحدرة، بينما كانت النهاية الأخرى تفضي إلى مصطبة شبه مستوية تطلُّ على النهر المصبوغ بألوان الغروب. كان أحد جانبَي الممر حائطًا مُصمَتًا لأن المبنى الذي كان يدعمه كان عبارةً عن مطعمٍ مسرحي قديم غيرِ ناجح، قد أغلق أبوابه. أما الجانب الآخر للممر، فكان يحتوي على بابَين، واحد في كل نهاية. ولم يكن أيٌّ منهما يُسمَّى بما كان يُعرف بباب المُمثلين؛ بل كانا نوعًا ما بابَين خاصَّين يستخدمهما الممثلون المميزون جدًّا، وفي هذه الحال البطل والبطلة اللذان كانا يمثلان مسرحية شكسبير التي كانت تُعرض في تلك الآونة؛ فمثل هذه الشخصيات البارزة كثيرًا ما كانت تُفضِّل أن يكون لها مثل هذه المداخل والمخارج الخاصة، بغرض لقاء أصدقائهم أو تجنُّبهم.
أما الرجلان اللذان نتحدث عنهما فكانا بكل تأكيد صديقَين من هذا النوع، وكانا يعرفان البابَين وينتظران أن يُفتح لهما؛ حيث اقترب كلٌّ منهما من الباب الذي يُوجد عند النهاية العليا من الممر بالقدْر نفسه من رباطة الجأش والثقة، إلا أنهما لم يكونا على القدْر نفسه من السرعة، ولكن الرجل الذي كان يسير بشكلٍ أسرع كان هو الرجل الآتي من النهاية الأخرى من الممر؛ لذا فقد وصل كلاهما أمام الباب الخفي للمسرح في اللحظة نفسها. حيَّا كلٌّ منهما الآخر في كياسة، وانتظرا لحظةً قبل أن يمد الرجل، الذي كان يمشي مسرعًا، يده، وقد بدا أنه كان يتمتع بقلة صبر، ليطرق الباب.
كان الرجلان في هذا وفي كافة الأمور الأخرى مختلفَين تمامًا، ولا يمكن أن نقول إن أحدهما كان في مرتبةٍ أدنى من الآخر؛ فقد كان كلاهما وسيمًا وشهيرًا وبارعًا وذلك على المستوى الشخصي، أما على المستوى العام، فقد كان كلاهما من أصحاب المقام الرفيع. إلا أن كل شيء يتمتعان به من تألُّق وبهاء، كان مختلفًا تمامًا في كلٍّ منهما عن الآخر؛ فقد كان السير ويلسون سيمور معروفًا وذا مكانةٍ كبيرة لدى الجميع؛ فكلما تعمقتَ أكثر وخالطت الأشخاص في الدائرة الصغيرة في كل كيان أو مهنة، زادت احتمالية أن تُقابله؛ فقد كان هو الرجل البارع الوحيد ضمن عشرين لجنة تضم أعضاءً غير بارعين — وذلك في كل شأن، من إصلاح الأكاديمية الملكية وحتى مشروع نظام المَعدنَينِ الاقتصادي في بريطانيا العظمى. وكان قديرًا في مجال الفنون بصفةٍ خاصة؛ فقد كان يتمتع بتفرُّدٍ كبير حتى إن المرء لا يستطيع أن يُحدِّد ما إن كان من أبناء الطبقة الأرستقراطية الكبار وامتهن الفن، أم إنه كان فنانًا كبيرًا وقد تلقَّفَته الطبقة الأرستقراطية، ولكن لا يمكن لك أن تقابله لخمس دقائق من دون أن يتبادر إلى ذهنك فكرة أنه كان بالفعل يسيطر عليك طَوال حياتك.
وقد كان مظهره «مميزًا» بالقدْر نفسه تمامًا؛ فقد كان عاديًّا وفريدًا في الوقت نفسه. لم يكن هناك أيُّ شيء يتعارض مع الموضة في قُبعته الحريرية العالية — رغم أنها لم تكن مثل أي قبعةٍ أخرى — ربما كانت طويلةً قليلًا، فأضافت شيئًا إلى طوله الطبيعي. وكان قوامه الطويل النحيف مُنحنيًا بعض الشيء، إلا أنه لم يكن يبدو واهنًا أو ضعيفًا. وكان شعره رماديًّا لامعًا، ولكنه لم يبدُ عجوزًا، ورغم أن شعره كان طويلًا أكثر من العادي، فإنه لم يبدُ أنثويًّا، وكان مموجًا، لكنه غير مُجعَّد. وكانت لحيته المدببة بعناية تضفي عليه مظهرًا أكثر رجوليةً وتشددًا من غيره من المظاهر، تمامًا كما فعلت في الأميرالات كبار السن المرسومين في لوحات فيلاثكيث الداكنة اللون المعلقة على جدران منزله. وكانت قُفازاته الرمادية مائلةً أكثر للون الأزرق، وعصاته ذات المقبض الفضي أطول قليلًا، وذلك من بين عشرات العِصيِّ والقُفازات التي كانت منتشرة في أجواء المسارح والمطاعم.
وكان الرجل الآخر غير طويل، لكنه لم يكن ليُرى على أنه قصير، لكنه كان على القدر نفسه من وسامة الرجل الأول وقوته. كان شعره مموجًا، لكنه كان ناعمًا وقصيرًا، وكان رأسه ضخمًا قويًّا — من نوع الرءوس التي يمكنك أن تحطم بها بابًا، كما قال تشوسر في وصف رأس ميلر. وكان شاربه العسكري ووضع كتفَيه يُظهرانه بمظهر الجندي، ولكنه كان يتمتع بعينَين زرقاوَين صريحتَين وثاقبتَين وهما اللتان تشيعان أكثر بين البحارة. كان وجهه مربعًا بعض الشيء، وفكه مربعًا، وكذلك كتفاه وحتى السترة التي كان يرتديها. وفي مدرسة الكاريكاتير الجامحة التي كانت قائمة آنذاك، قدَّمه السيد ماكس بيربوم على أنه فرضية من الكتاب الرابع لإقليدس.
وقد كان أيضًا رجلًا شهيرًا، رغم أن نجاحه كان من نوعٍ مختلف؛ فلم يكن يتعين عليك أن تكون في أفضل الأوساط حتى تكون قد سمعتَ عن الكابتن كاتلر الذي شارك في حصار هونج كونج والزحف العظيم على الصين. ولن تستطيع الهروب من سماع سيرته في كل مكان؛ فقد كانت صورته على الكثير من البطاقات البريدية، وكانت خرائطه والمعارك التي خاضها بادية في الكثير من المنشورات الشهيرة، وكانت الأغاني تُغنَّى تمجيدًا لأعماله في الكثير من قاعات الموسيقى، أو على الأُرْغُن اليدوي. وكانت شهرته واسعةً ورائجةً أكثر كثيرًا مقارنةً بما كان يتمتع به الرجل الآخر، رغم أنها كانت مؤقتة بشكل أكبر على الأرجح. وفي آلاف المنازل الإنجليزية، كان يبدو أن الكابتن كاتلر ذو مكانةٍ عظيمة، مثل نيلسون. إلا أنه كان يتمتع بسلطةٍ أقل بكثير مما كان يتمتع بها السير ويلسون سيمور.
فتَح الباب لهما خادمٌ أو «عامل ملابس» مُسن، كان وجهه المنهك وهيئته الضعيفة ومعطفه وسرواله الباليان الأسودان؛ متناقضةً بشكلٍ غريب مع الديكور الداخلي البرَّاق لغرفة تبديل الملابس للمُمثلة الرئيسية. كانت الغرفة مجهزةً وتعجُّ بالمرايا في كل زاوية، تلك التي كانت تبدو وكأنها الوجوه المائة لماسةٍ واحدة كبيرة — هذا إذا كان باستطاعة المرء أن يصل إلى داخل الماسة. وكانت مظاهر الرفاهية الأخرى، وبعض الأزهار، وبعض الوسائد الملونة، وبعض الملابس المسرحية؛ مضروبةً في مائة ضعفٍ بفعل المرايا الموجودة في الغرفة؛ مما أضاف لمحة من لمحات الترف المذكور في كتاب «ألف ليلة وليلة»، وكانت تتأرجح وتتغيَّر أماكنها بصفةٍ دائمة كلما حرك الخادم البطيء إحدى المرايا للخارج أو أعادها إلى مكانها في مواجهة الحائط.
تحدَّث كلاهما مع الخادم المنهَك باسمه، فكانا يدعوانه باركنسون وسألاه عن الآنسة أورورا روم. قال باركنسون: إنها كانت في الغرفة الأخرى، إلا أنه سيذهب إليها ويبلغها بحضورهما. تقطَّب جبين الزائرَين نوعًا ما؛ لأن الغرفة الأخرى كانت هي الغرفة الخاصة بالممثل الرئيسي الذي كانت الآنسة أورورا تُمثِّل معه، وقد كانت من النوع الذي لا يثير الإعجاب من دون أن تُلهب نار الغيرة، ولكن، وفي غضون نصف دقيقة، فُتح الباب الداخلي، وطلَّت الآنسة أورورا بطلَّتها المعهودة حتى في حياتها الخاصة، بحيث يبدو الصمت في حد ذاته عاصفةً من تصفيقٍ مستحق عن جدارة. كانت ترتدي رداءً غريبًا من الساتان ذي اللونَين الأخضر المائل للزرقة والأزرق المائل للخضرة، وكان لامعًا وكأنه شيءٌ معدني، وكان شعرها البني الداكن الكثيف يضفي على وجهها بهاءً فتاكًا على الرجال، وخاصة اليافعِين منهم ومن هم في بداية التقدُّم في العمر. كانت الآنسة أورورا هي وزميلها الممثل الأمريكي البارز إزيدور برونو، يُقدِّمان معالجةً شعرية وخيالية لمسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»، التي تم تسليط الضوء فنيًّا فيها على شخصيتَي أوبيرون وتيتانيا، أو هي وبرونو بمعنًى آخر. وفي مَشاهدَ حالمةٍ وشديدة الحساسية، ورقصاتٍ عجيبة، كان الرداء الأخضر الذي يشبه أجنحة الخنفساء اللامعة يُعبِّر عن الفردية المحيرة لملكة الجن، ولكن إذا واجهتَها وهي ترتدي مثل هذا الزي في وضح النهار، فلن يلفت نظرك سوى بهاء وجهها.
حيَّتِ الآنسة أورورا الرجلَين بابتسامةٍ مذهلة ومحيرة، تلك الابتسامة التي جَعلتِ الكثير من الرجال يقفون على المسافة غير الآمنة نفسها منها. قَبلَت بعض الأزهار من الكابتن كاتلر، وكانت استوائيةً وثمينة بقدْر انتصاراته، كما قَبلَت هديةً أخرى من نوعٍ مختلف من السير ويلسون سيمور، وكان قد منَحها إياها فيما بعدُ بشيء من اللامبالاة؛ فقد كان إظهار الشغف مخالفًا لطبيعته، كما كان إعطاء هديةٍ واضحة مثل الورد مخالفًا لمعتقداته التقليدية. قال: إنه قد انتقى شيئًا بسيطًا. لكنه كان في الواقع تحفةً لافتة للنظر، فقد كان خنجرًا يونانيًّا قديمًا ينتمي للحقبة الميسينية، وربما تم استخدامه في زمن ثيسيوس وهيبوليتا. كان الخنجر مصنوعًا من النحاس، شأنه في ذلك شأن كل الأسلحة الملحمية، لكن الغريب أنه كان لا يزال حادًّا بما يكفي بحيث يخترق جلدك. وكان قد انجذب إلى هذا الخنجر بفعل شكله الذي يشبه ورقة الشجر؛ فقد كان مثاليًّا تمامًا كما لو كان زهريةً يونانية. ولئن كان هذا الخنجر محط اهتمام للآنسة روم أو يمكن أن تستخدمه في المسرحية، فقد كان يأمل أنها …
انفتح الباب الداخلي، وظهر عنده رجلٌ ضخم الجثة، كان على النقيض من السير سيمور أكثر من الكابتن كاتلر نفسه. كان طول إزيدور برونو الذي يبلغ تقريبًا ست أقدام وست بوصات، وحجم بنيته الجسدية وعضلاته، وملابسه ذات اللون البني الذهبي المصنوعة من جلد النمر التي كان يرتديها لشخصية أوبيرون تجعله يبدو كإلهٍ بربري. كان متكئًا على ما يشبه رُمحَ صيدٍ كان على المسرح يبدو وكأنه عصًا فضيةٌ متواضعة، أما في الحجرة الصغيرة والمزدحمة نسبيًّا فكان يبدو كرمحٍ وينم عن تهديد ووعيد. كانت عيناه السوداوان المفعمتان بالحيوية تدوران في غضبٍ كبير، أما وجهه البرونزي الوسيم فكان يُظهر عظام خدودٍ بارزة وأسنانًا بيضاء قوية، وهو ما يُشير إلى تخميناتٍ أمريكية معينة بشأن أصله في المزارع الجنوبية.
قال في صوتٍ عميق ينم عن شغَفٍ كبير حرَّك جماهيرَ عريضة: «أورورا، هلَّا …»
لقد توقَّف عن الكلام على نحوٍ حائر حين ظهر شخصٌ سادسٌ فجأة على مدخل الباب — كان ظهور هذا الشخص متناقضًا تمامًا مع المشهد بحيث يبدو كوميديًّا. كان رجلًا قصيرًا للغاية يرتدي الملابس الرسمية السوداء لرجال الدين العلمانيين الرومانيين، وكان يبدو (خصوصًا في ظل وجود برونو وأورورا) كقطعةٍ من إحدى ألعاب سفينة نوح الخشبية تمثل النبي نوحًا، لكنه رغم ذلك لم يبدُ على دراية بهذا التناقُض الذي يمثله، وقال في كياسةٍ مضجرة: «أظن أن الآنسة أورورا أرسلَت في طلبي.»
قد يلاحظ الشخص الذكي أن درجة الانفعالات قد ارتفعَت بفعل ذلك الانقطاع الفاتر. كان انفصال ذلك المتبتِّل المحترف عنهم يوحي للآخرين بأنهم كانوا يقفون حول المرأة في حلقةٍ من العاشقين المتنافسين؛ تمامًا كما سيقول الشخص الذي يأتي من الخارج وعلى معطفه ثلج من الجو إن الغرفة تبدو من ارتفاع درجة حرارتها وكأنها فُرن. وكان وجود الشخص الوحيد الذي لا يهتم لأمرها قد زاد من شعور الآنسة أورورا بأن جميع من حولها يعشقونها، وأن كلًّا منهم يعشقها بطريقةٍ تكاد تكون خطيرة: فالممثل يعشقها وقد تملَّكتْه غريزة الوحش وأيضًا الطفل المدلل؛ والجندي يعشقها بأنانية رجلٍ لديه رغبة لا عقل؛ والسير ويلسون يعشقها بذلك الثبات الذي لا يتزعزع والذي كان يأخذه أتباع مذهب اللذة القدماء على أنه عادة؛ بل حتى باركنسون الفقير الذي كان يعرفها قبل أن تكون على ما هي عليه، فكان يتبعها سواء بعينيه أو بقدميه في الغرفة، كما لو كان كلبًا مفتونًا بها.
كان الشخص الذكي سيلاحظ أيضًا شيئًا أكثر غرابة مما ذكرت، وهو أن الرجل الذي كان يشبه إحدى قطع ألعاب سفينة نوح الخشبية التي تمثل النبي نوحًا الأسود (ولم يكن يخلو من الذكاء) قد لاحظ كل ذلك باستمتاعٍ كبيرٍ لكنه تمكن من احتوائه وعدم إظهاره. كان من الجليِّ أن أورورا الرائعة، رغم أنها لم تكن على الإطلاق غير مبالية بإعجاب الجنس الآخر، كانت ترغب في تلك اللحظة أن تتخلَّص من كل الرجال الذين يحبونها ويعشقونها، وأن تُترك بمفردها مع الرجل الذي لم يكن مفتونًا بها — أو الذي لم يكن مفتونًا بها بهذا الشكل على الأقل؛ لأن رجل الدين القصير أُعجب بل استمتع بالدبلوماسية الأنثوية الحازمة التي شَرعَت بها في مهمتها. ربما كان هناك شيءٌ واحد فقط كانت تتمتع أورورا روم بالمهارة في التعامل معه وهو النصف الآخر من الإنسانية — النصف الرجولي منه. راقب القس القصير سياستها السريعة والدقيقة في صرف عاشقيها دون التخلُّص من أيهم — كما لو كان الأمر أشبه بحملةٍ عسكرية نابليونية. كان برونو — الممثل البارز الضخم — طفوليًّا للغاية بحيث كان من السهل صرفه بإغضابه وجعله يترك المكان في حَنقٍ شديد. أما كاتلر — الجندي البريطاني — فقد كان لا يفهم الإشارات ولكنه كان حريصًا على إظهار سلوكٍ مهذب. كان يتجاهل كل التلميحات والإشارات، لكنه كان يُفضِّل الموت على أن يتجاهل إشارة من امرأة بأن يقوم بشيءٍ ما. أما بالنسبة لسيمور العجوز، فكان ينبغي معاملته بطريقةٍ مختلفة؛ حيث كان لا بد وأن يُترك إلى النهاية؛ فقد كانت الطريقة الوحيدة لصرفه هي بمناشدته بثقة وكأنه صديقٌ قديم، وأن تُطلعه على سر التخلُّص من الجميع. أُعجب القس كثيرًا بالآنسة روم عندما استطاعت تحقيق كل الغايات الثلاث هذه بفعلٍ واحد راقٍ.
اقتربَت من الكابتن كاتلر وقالت له في عذوبة: «لقد أحببتُ هذه الأزهار؛ لأنها المفضلة لديك، ولكنها لن تكون مكتملة دون أن تُتوَّج بزهرتي المفضلة، فاذهب إلى ذلك المتجر عند زاوية الشارع وأحضر بعض أزهار زنبق الوادي؛ إذ حينها ستكون الباقة جميلة للغاية.»
تحقق الهدف الأول من فعلها الدبلوماسي، وهو خروج برونو الغاضب، في الحال. كان قد سلم رمحه في وقار وتعجرف، وكأنه صولجان، إلى باركنسون البائس، وكان على وشك أن يهوي إلى أحد الكراسي المبطنة وكأنه عرش له. ولكن بسبب ذلك التقرب الصريح من خصمه، لَمعَت في مقلتَي عينَيه كل مشاعر الإهانة التي قد يشعر بها العبيد، فضم قبضتَي يدَيه الضخمتَين للحظة، ثم اندفع إلى الباب، واختفى في غرفته على الجانب الآخر، ولكن في تلك الأثناء، لم تكن خطة الآنسة روم في دفع الكابتن كاتلر للتحرُّك ناجحةً كما بدت لها للوهلة الأولى؛ فقد وقف فجأة، ومشى تجاه الباب، من دون قبعته، كما لو أنه جنديٌّ تلقَّى أمرًا عسكريًّا، ولكن ربما كان هناك شيءٌ راقٍ بشكل مبهر في مظهر السير سيمور الواهن الذي كان يسند على إحدى المرايا جعله يتوقف عند مدخل الغرفة، ويحرك رأسه يمنةً ويسرةً وكأنه كلب بولدوج متحير.
قالت أورورا هامسةً إلى سيمور: «لا بد أن أوضِّح لذلك الرجل الغبي المكان المفترض أن يذهب إليه.» ثم هُرعَت إلى عتبة الباب من أجل أن تطلب من الضيف المنصرف أن يسرع.
بدا وكأن سيمور يسمع حديثها في حالةٍ سعيدة من اللاوعي، وبدا مسرورًا حين سمع المرأة وهي تعطي بعض التعليمات الأخيرة للكابتن، ثم استدارت فجأة وركضت مسرورة نحو نهاية الممر الأخرى، المؤدية إلى المصطبة المطلة على نهر التيمز، ولكن مرَّت ثانية أو اثنتان قبل أن يُقطِّب السير سيمور جبينه مرةً أخرى؛ فقد كان يواجه الكثير من المنافسين، وتذكر أنه في النهاية الأخرى من الممر كان هناك المدخل الخاص بغرفة برونو الخاصة. لم يتخلَّ السير سيمور عن وقاره، بل تحدَّث في كياسة إلى الأب براون عن إحياء العمارة البيزنطية في كاتدرائية ويستمينستر، ثم خرج بصورةٍ طبيعية نوعًا ما واتجه نحو النهاية العليا للممر. كان الأب براون وباركنسون وحدهما، ولم يكن أيٌّ منهما مهتمًّا بإجراء أي محادثةٍ غير ضرورية، فطاف عامل الملابس في الحجرة، يحرك المرايا للخارج ويعيدها لمكانها، وكان معطفه وسرواله الأسودان الرثَّان يبدوان أكثر كآبة؛ لأنه كان لا يزال يمسك برمح ملك الجن أوبيرون البهيج. وفي كل مرة كان يحرك فيها إطار إحدى المرايا، كانت تظهر هيئة الأب براون السوداء من جديد، بحيث أصبحت الغرفة الزجاجية الغريبة ممتلئة بأشكال الأب براون، مقلوبة رأسًا على عقب في الهواء وكأنها ملائكة، تؤدي حركاتِ شقلبةٍ كلاعبي الأكروبات، وتُدير ظهورها للجميع وكأنها أشخاص في غاية الوقاحة.
بدا الأب براون غير عابئ بهذا الجمع من الشهود، ولكنه كان يتتبع باركنسون بعينَيه باهتمام مع بعض التراخي، حتى خرج ومعه الرمح الغريب وذهب إلى غرفة برونو. ثم سرح في تأملاتٍ تجريدية — كما كان يحلو له دومًا — فبدأ يحسب زوايا المرايا، وزوايا كل انعكاس، والزاوية التي ينبغي أن تتناسب كلٌّ منها مع الحائط … حتى سمع صرخةً قوية لكن مخنوقة.
قفز على قدمَيه ووقف يتسمَّع مُتيبسًا في مكانه. وفي اللحظة نفسها، هُرع السير ويلسون سيمور إلى داخل الغرفة وعلى وجهه شحوبٌ شديد. صاح قائلًا: «من هو ذلك الرجل في الممر؟ أين خنجري؟»
وقبل أن يتحرك الأب براون بحذائه العالي الرقبة الثقيل، كان سيمور يفتِّش الغرفة باحثًا عن سلاحه. وقبل أن يجده أو يجد أي شيءٍ آخر، كان هناك صوت وقعِ أقدام سريعة آتيًا من الرصيف في الخارج، ثم دخل كاتلر بوجهه المُربَّع من نفس المدخل. كان لا يزال يمسك ببعض أزهار زنبق الوادي بشكلٍ غريب، ثم صاح: «ما هذا؟ ما هذا المخلوق الموجود في الممر؟ أهذه إحدى ألاعيبك؟»
صاح منافسه شاحب الوجه مستهجنًا: «ألاعيبي!» ثم أسرع باتجاهه.
وفي غضون اللحظات التي حدث فيها كل ذلك، كان الأب براون قد خرج إلى الممر ونظر فيه ثم سار على الفور مسرعًا نحو ما رآه.
في تلك اللحظة، توقف الرجلان عن صراعهما وانطلقا خلفه، وصاح كاتلر: «ماذا تفعل؟ من أنت؟»
قال القس في نبرةٍ حزينة: «اسمي براون.» بينما انحنى بجسمه نحو شيء على الأرض ثم انتصب مرةً أخرى. ثم استطرد قائلًا: «لقد أرسلَت الآنسة روم في طلبي، وجئتُ بأسرعِ ما يمكنني، ولكني تأخرتُ كثيرًا.»
نظر الرجال الثلاثة إلى أسفل، وقد ماتت الحياة في واحدٍ منهم على الأقل في تلك الساعة المتأخرة من المساء. لقد غادرَتِ الممر وكأنه ممرٌّ ذهبيٌّ، وفي منتصفه كانت ترقد جثة أورورا روم في ثوبها الأخضر والذهبي البرَّاق، وكان وجهها فاقد الحياة موجهًا إلى الأعلى. كان ثوبها ممزقًا كما لو كانت تصارع قبل موتها، وكان كتفها الأيمن عاريًا، ولكن الجرح الذي كان يخرج الدم منه كان على الجانب الآخر من جثتها. وكان الخنجر النحاسي ملقًى بجانبها منبسطًا ولامعًا على بُعد ياردة أو نحو ذلك.
كان هناك سكون تام لبرهة من الوقت، بحيث تمكنوا من سماعِ ضحكةٍ من بعيد لفتاة تبيع الأزهار خارج تقاطُع تشارينج كروس، كما سمعوا شخصًا يصفر في غضب لسائقِ تاكسي كي يتوقف في أحد الشوارع المتفرعة من شارع ستراند، ثم، وفي حركةٍ مفاجئة قد تنم عن صدقِ مشاعر أو يمكن أن تُعتبر تمثيلًا، أمسك الكابتن كاتلر بعنق السير ويلسون سيمور ليخنقه.
نظر إليه سيمور في ثبات ومن دون خوف أو رغبة في قتاله وقال بصوتٍ باردٍ نوعًا ما: «لستَ في حاجة لأن تقتلني؛ فسأفعل ذلك بنفسي.»
تردَّد الكابتن في قبضته ثم حرَّر عنق سيمور، ثم أضاف الأخير في نفس النبرة الباردة: «وإذا ما وجدت أنني لا أتمتع بالقوة لأن أفعل ذلك بالخنجر، فيمكنني أن أفعلها خلال شهر من معاقرة الشراب.»
رد كاتلر: «الشراب ليس جيدًا كفايةً بالنسبة لي، ولكنني سأقتل من تسبَّب في ذلك قبل موتي. ولستُ أتحدَّث عن قتلك أنت — ولكني أعرف من يكون.»
وقبل أن يُفكِّر الآخران فيما يقصد بكلامه، التقط الخنجر من على الأرض وهُرع نحو الباب الآخر في النهاية السفلية للممر، فاندفع خلاله وواجه برونو في غرفةِ تغيير ملابسه. وبينما فعل ذلك، كان باركنسون يترنَّح ويتمايل خارجًا من الباب فوقعَت عينه على الجثة الراقدة في الممر، فتحرك نحوها وهو يرتعش، ونظر إليها بعينَين يملؤهما الوهن والذهول، ثم عاد يرتعش إلى غرفة تغيير الملابس مرةً أخرى، وارتمى فجأة على أحد الكراسي المبطنة الفخمة. على الفور، هُرع نحوه الأب براون، ولم يكترث لكاتلر والممثل الضخم، رغم أن الغرفة كانت تضجُّ بأصوات ضرباتهما وكانا يتقاتلان من أجل الوصول إلى الخنجر. أما سيمور الذي كان لا يزال يتمتع بشيءٍ من المنطق، فقد كان يُصفر طالبًا حضور الشرطة عند نهاية الممر.
وحين حضَرتِ الشرطة فرَّقت بين الرجلَين اللذَين كانا يتقاتلان وكأنهما قردان شرسان، وبعد بضعة استجواباتٍ رسمية، ألقت القبض على إزيدور برونو بتهمة القتل، التي وجهها له خصمه الغاضب. إن فكرة أن البطل القومي البارز قد ألقى القبض على مجرم وهو أعزلُ كان لها وقعها بلا شك عند الشرطة، التي لم تكن تنقصها عناصر الصحافة؛ فقد عاملوا كاتلر باهتمامٍ جادٍّ مهيب، وأشاروا إلى أنه قد أُصيب بخدشٍ في يده. ورغم أن كاتلر كان يَحصره عند كرسي وطاولة مائلَين، تمكن برونو من أن يُسقط الخنجر من يده وأن يجرحه تحت رسغه مباشرة. كان الجرح بسيطًا حقًّا، ولكنَّ السجينَ المتوحشَ بعض الشيء كان، حتى أخذوه من الغرفة، يُحدِّق في الدم الذي يسيل من خصمه بابتسامةٍ ثابتة.
قال الشرطي في ثقة لكاتلر: «يبدو ذلك الشاب وكأنه من آكلي لحوم البشر، أليس كذلك؟»
لم يرُدَّ كاتلر، ولكنه قال في نبرةٍ حادَّةٍ بعد لحظة: «لا بد وأن نتولى أمر … الوفاة …» ثم بُح صوته.
جاء صوت القس من الجانب الآخر من الغرفة: «الوفاتَين؛ لقد مات هذا الرجل المسكين عندما وصلتُ إليه.» ثم وقف وهو ينظر إلى باركنسون العجوز، الذي كان جالسًا وكأنه كومةٌ سوداء على الكرسي الفخم. كان الرجل أيضًا قد أعرب عن حزنه من وفاة المرأة على نحوٍ لا يخلو من البلاغة.
كان كاتلر هو من كسر الصمت أولًا، وقد بدا في غاية الضعف والحزن، فقال بصوتٍ مبحوح: «أتمنى لو كنت مكانه. أتذكَّر أنه كان يراقبها أينما ذهبَت وينظر إليها أكثر من … أي شخص. لقد كانت هواءه الذي يتنفسه، وقد فرغ صدره من الهواء. لقد مات.»
قال سيمور بنبرةٍ غريبة وهو يُشيح ببصره باتجاه الطريق: «جميعنا موتى.»
استأذنا الأب براون عند زاوية الطريق، مع ذكر بعض الاعتذارات العشوائية عن أي سوء أدبٍ صدر منهما. كانت الفجيعة تبدو على وجهيهما، إلا أن أماراتٍ مبهمةً أيضًا قد بدَتْ عليهما.
كان عقل القس كجُحر تأوي إليه الأفكار الجامحة دومًا، التي كانت تقفز إليه بسرعةٍ شديدة لا يستطيع معها الإمساك بها. لقد واتتْه فكرةٌ خاطفة سرعان ما تفلَّتَت منه مفادُها أنه متأكد تمامًا من حزنهما على مقتلها، ولكنه ليس متأكدًا بالدرجة نفسها حيال براءتهما.
قال سيمور بنبرةٍ متثاقلة: «من الأفضل أن نذهب جميعًا؛ فقد فعلنا كل ما بوسعنا لتقديم المساعدة.»
قال الأب براون في هدوء: «هل ستتفهَّمانني حين أقول إنكما فعلتما كلَّ ما بوسعكما لتتسبَّبا بالأذى؟»
جفلا وكأنهما مذنبان، فقال كاتلر في حدَّة: «نتسبب بالأذى لمن؟»
أجاب القس قائلًا: «لأنفسكما. لم أكن لأُضيف المزيد إلى متاعبكما إذا لم يكن من العدل أن أُحذِّركما. لقد فعلتما كل شيء تقريبًا بوسعكما من أجل أن تتسببا في شنقكما لأنفسكما، وذلك إذا ما جرت تبرئة ذلك الممثل؛ فمن المؤكد أنهم سيستدعونني للمحكمة؛ وسأكون ملزمًا بقول إن كلًّا منكما بعد أن سمعت الصرخة قد هُرع إلى الغرفة في حالة جنون وبدأتما الشجار حول الخنجر. وبقدْر ما يمكن لِيَميني الذي أقسمته أن يتسبب في ذلك، فربما يكون أحدكما هو من فعلها. لقد تسبَّبتما بالأذى لأنفسكما بهذه الطريقة، ثم تسبب الكابتن كاتلر بجرح نفسه بالخنجر.»
صاح الكابتن في تعجُّب وازدراء: «جرحتُ نفسي! إنه خدشٌ صغير بسيط.»
أجاب القس وهو يومئ برأسه: «وقد أراق مقدارًا من الدم. نحن نعلم الآن أن هناك دمًا على الخنجر؛ ومن ثم فلن نعرف أبدًا إذا ما كان هناك دم على الخنجر قبلها.»
ساد الصمت قليلًا، ثم قال سيمور بنبرةٍ مؤكِّدة تكاد تتعارض مع طريقته المعهودة في الكلام: «لكنني رأيتُ رجلًا في الممر.»
أجاب الأب براون وقد جمدت ملامحُ وجهه: «أعرف أنك رأيته، ورآه الكابتن كاتلر أيضًا. وهذا هو ما يبدو أمرًا بعيد الاحتمال جدًّا.»
وقبل أن يفهم أيٌّ منهما ما قال ليتمكنا حتى من الرد عليه، كان الأب براون قد استأذن في كياسة ومشى متثاقلًا على الطريق حاملًا مظلته القديمة الصغيرة.
وفق طريقة عمل الصحف الحديثة، فإن أهم الأخبار وأصدقها تكون هي أخبار الحوادث. وإذا كان القول بأن قضايا القتل في القرن العشرين تحظى بمساحة نشرٍ أكبر مما تحظى به السياسة؛ هو قولًا صحيحًا، فإن ذلك يعود إلى سببٍ وجيه وهو أن جرائم القتل تُعَد مواضيعَ نشرٍ أكثر جدية، ولكن حتى هذا لا يستطيع تقديم تفسيرٍ وافٍ لسبب شيوع وانتشارِ تفاصيل «قضية برونو»، أو «لغز الممر»، في صحافة لندن والمقاطعات. لقد كانت الإثارة حول هذا الموضوع كبيرةً للغاية حتى إن الصحافة كانت تقول حقًّا الحقيقة بشأن هذه القضية لبضعة أسابيع، وكانت تقارير البحث واستجواب الشهود على الأقل يمكن التعويل عليها، حتى وإن كانت مطوَّلة ولا تُحتمل قراءتها. لقد كان السبب الحقيقي بالطبع وراء انتشار هذه القضية هو شهرة الأشخاص الموجودين فيها؛ فقد كانت الضحية ممثلةً شهيرة وكان المتهم ممثلًا بارزًا شهيرًا، وقد أُلقي القبض عليه بالجُرم المشهود — إذا صح التعبير — وذلك على يدِ أحد أكبر الرجال العسكريين الوطنيين في ذلك الوقت. كانت الصحافة في ظل تلك الظروف الاستثنائية مجبرةً على التحلِّي بالنزاهة والدقة؛ ويمكن تسجيل ما يتبقَّى من هذا العمل الفريد بعض الشيء تقريبًا من خلال تقارير محاكمة برونو.
ترأَّس المحكمة السيد جاستس مونكهاوس، وهو أحد القضاة الذين يُسخر منهم لأنهم يتمتعون بروح الفكاهة والدعابة — ولكنه كان في العموم أكثر جديةً بكثيرٍ من القضاة الجادِّين — لأن مزاحهم سببه نفاد صبرهم بسبب وقار مهنتهم؛ لكن القاضي الجاد يملؤه العبث فعلًا؛ لأنه مفعم بالغرور. ونظرًا لأن كل الأطراف الرئيسية في القضية كانوا من ذوي الشأن، فإن المحاميَين القائمَين على الادِّعاء والدفاع كانا مخضرمَين؛ فقد مثَّل جهة الادعاء العام السير والتر كاودراي، وهو محامٍ له ثقله في ذلك النوع من القضايا وهو يعرف كيف يبدو إنجليزيًّا وكيف يكسب ثقة الآخرين، وكيف يكون بليغًا رغم عدم رغبته في ذلك. وقد كان محامي السجين هو مستشار الملك السيد باتريك باتلر، الذي كان الناس الذين لا يفهمون الشخصية الأيرلندية — والذين لم يقعوا تحت طائلة استجوابه — يرون خطأً أنه شخصٌ متكاسل. ولم يكن هناك أيُّ تناقُض في الأدلة الطبية؛ فقد اتفق الطبيب الذي كان سيمور قد استدعاه ساعة الواقعة في الرأي مع الجراح البارز الذي فحص الجثة لاحقًا. كانت أورورا روم قد طُعنَت بأداةٍ حادَّة كسكينٍ أو خنجر؛ أو على الأقل أداة كان نصلها قصيرًا؛ فقد كان الجرح فوق القلب مباشرة، وقد ماتت في لحظتها. وعندما رآها الطبيب في المرة الأولى كانت قد ماتت على الأكثر منذ عشرين دقيقة؛ لذا لم يكن قد مضى على وفاتها سوى ثلاث دقائق على الأكثر حين رآها الأب براون.
تبع ذلك سرد تحرياتِ التحقيق الرسمي، تلك التي كانت تُعنى في الأساس بوجودِ أو غيابِ أي دليلٍ على المقاومة أو الشجار، وكان الأمر الوحيد الذي جاء في ذلك هو تمزُّق الفستان عند الكتف، ولم يبدُ أن هذا يتناسب بشكلٍ خاصٍّ مع اتجاه الضربة ونفاذها؛ لذا فعندما تم تقديم هذه التفاصيل — حتى من دون تفسيرها — تم استدعاء أول الشهود المهمين.
أدلى السير ويلسون سيمور بشهادته كما كان يفعل كل شيء في حياته — ليس فقط بشكلٍ جيد، وإنما بصورةٍ مثالية. ورغم أنه كان أكثر شهرة من القاضي، فإنه تمكن من أن يُظهر تواضعًا مثاليًّا أمام عدالة المحكمة. وعلى الرغم من أن الجميع كان ينظر إليه في إجلال كما لو كان رئيس الوزراء أو رئيس أساقفة كانتربري، فلم يكن بمقدور أحدٍ أن يقول على شهادته التي أدلى بها سوى أنها صادرة عن رجلٍ نبيل يقوم بالتأكيد في كلامه على الأسماء. وقد كان أيضًا كلامه واضحًا جليًّا بصورةٍ كبيرة كما كان مع اللجان. ذكر أنه كان يزور الآنسة روم في المسرح، وقد قابل الكابتن كاتلر هناك، ولفترةٍ قصيرة انضم إليهما المتهم، الذي عاد بعدها إلى غرفة تغيير الملابس الخاصة به؛ ثم انضم لهم قسٌّ كاثوليكي روماني سأل عن القتيلة وقال إن اسمه براون. كانت الآنسة روم قد خَرجَت بعدها إلى خارج المسرح مباشرة عند مدخل الممر؛ من أجل أن تشير للكابتن كاتلر إلى متجر الزهور الذي سيشتري منه المزيد من الأزهار لها، وظل الشاهد في الغرفة، وتحدث مع القس محادثةً قصيرة. ثم سمع الشاهد القتيلة على نحوٍ واضح بعد أن أرسلتِ الكابتن في مهمته وهي تضحك في طريق عودتها في الممر نحو نهايته الأخرى، التي كانت تقع فيها غرفة تغيير الملابس الخاصة بالمتهم. وبدافع الفضول وحده فيما يتعلق بالحركة السريعة لأصدقائه، خرج الشاهد من الغرفة نحو مقدمة الممر ونظر نحو باب غرفة السجين، فهل رأى شيئًا في الممر؟ أجل، لقد رأى شيئًا في الممر.
قدَّم السير والتر كاودراي مداخلةً مذهلة، كان الشاهد خلالها ينظر إلى الأرض، وبدت على وجهه أماراتُ شحوبٍ أكثر من المعتادة عنه رغم تحلِّيه برباطة الجأش المألوفة عنه. ثم قال المحامي بنبرةٍ خفيضة بدت في الحال غريبةً وتنم عن تعاطُف: «هل رأيت هذا الشيء بصورةٍ واضحة لا لبس فيها؟»
على الرغم من أن السير ويلسون كان متأثرًا للغاية، فإنه كان يتمتع برجاحةِ عقلٍ ممتازة فقال: «بوضوحٍ شديد فيما يتعلَّق بمجمله، ولكن بشكلٍ غيرِ واضح إلى حدٍّ ما — وربما بشكلٍ غير واضح تمامًا بالفعل — فيما يتعلَّق بتفاصيله؛ فطول الممر يتسبَّب في أن يُرى أي شخص يقف في منتصفه على أنه كتلةٌ سوداء بفعل الضوء القادم من الجهة المقابلة.» ثم نظر الشاهد إلى الأسفل مرةً أخرى وأضاف: «لقد لاحظتُ هذا الأمر للمرة الأولى حين دخل الكابتن كاتلر أولًا إلى الممر.» ساد الصمت مرةً أخرى، وانحنى القاضي للأمام فدوَّن ملحوظة.
قال والتر بنبرةٍ تنمُّ عن الصبر: «حسنًا، كيف كان يبدو في مجمله؟ هل كان يشبه شكلَ المرأة القتيلة على سبيل المثال؟»
أجاب سيمور في هدوء: «بالقطع، لا.»
«كيف بدا لك؟»
أجاب الشاهد: «بدا لي أنه رجلٌ طويل.»
كان جميع الحضور يصُبُّون ناظريهم على أقلامهم، أو مظلاتهم، أو كتبهم، أو حتى أحذيتهم أو أي شيءٍ آخر ينظرون إليه. بدا الحضور وكأنهم يُبعدون ناظريهم عن السجين رغمًا عنهم، ولكنهم كانوا يشعرون بوجوده في قفص الاتهام، وكانوا يشعرون بأنه ضخمٌ وطويل. ورغم طول برونو، فقد كان طوله يبدو وكأنه كان يتعاظم أكثر وأكثر حين تزوغ عنه كل الأعين.
كان كاودراي في طريقه للعودة إلى كرسيه بوجهه الجاد، وهو يُعدِّل من ثوبه الحريري الأسود، ويُهندِم شاربه الناعم الأبيض. كان السير ويلسون على وشك مغادرة منصة الشهود، بعد الحديث عن بضعة تفاصيلَ أخرى رآها شهود آخرون، حين انتصب محامي الدفاع واقفًا وأوقفه.
قال السيد باتلر الذي كان يبدو عليه أنه شخصٌ ريفي وكان ذا حاجبَين أحمرَين، وتعبير على الوجه يوحي وكأنه كان في سُباتٍ جزئي: «سأؤخرك لدقيقةٍ واحدة فقط.» واستطرَد قائلًا: «هلَّا أخبرت حضرة القاضي كيف عرفت أنه رجل؟»
بدا أن ابتسامةً باهتة مهذبة قد ارتَسمَت على ملامِح سيمور وقال: «لقد عرفتُ هذا من خلال السروال؛ فعندما رأيتُ نور النهار من بين رجليه الطويلتَين، تأكدتُ في النهاية أنه كان رجلًا.»
فتح باتلر عينَيه الناعستَين فجأة وكأنَّ انفجارًا صامتًا قد وقع، ثم كرَّر كلمة الشاهد «في النهاية!» ببطء ثم قال: «إذن في البداية كنتَ تعتقد أن من رأيتَ كانت امرأة؟»
بدا الارتباك على سيمور للمرة الأولى، وقال: «هي مسألة وقائع بالكاد، ولكن إذا كان سيادة القاضي يريد أن أجيب عن السؤال بما كان لديَّ من انطباع، فسأفعل بالطبع. لقد كان هناك شيءٌ فيما رأيتُ يوحي بأنه ليس امرأة بالشكل القاطع، إلا أنه ليس أيضًا رجلًا. لقد كانت انحناءاتُ جسده مختلفةً بشكلٍ ما، وكان لديه شيءٌ يبدو وكأنه شعرٌ طويل.»
قال مستشار الملك السيد باتلر: «شكرًا لك.» وجلس فجأة وكأنه قد حصل على ما كان يريد.
كان الكابتن كاتلر شاهدًا أقل وضوحًا ورباطةَ جأشٍ بكثير من السير ويلسون، ولكن شهادته عن الأحداث الأُولى للواقعة كانت مطابقة لما قال الأخير؛ فوصف عودة برونو إلى غرفة تغيير الملابس الخاصة به، وخروجه لشراء مجموعة من زهور زنبق الوادي، وعودته إلى النهاية العليا للممر، والشيء الذي رآه في الممر، وشكه في سيمور، وشجاره مع برونو، ولكنه لم يستطع أن يقدم سوى مساعدةٍ قليلة حول الجسم الأسود الذي رآه هو وسيمور. وحين سُئل عن هيئته، قال إنه ليس بناقدٍ فني؛ في إشارةٍ ساخرة واضحة جدًّا إلى حدٍّ ما إلى سيمور. وحين سُئل إن كان الجسم لرجل أم لامرأة، قال بأنه بدا وكأنه جسدُ وحش — وأخذ يزمجر بصورةٍ واضحة للغاية في وجه السجين، لكن الرجل كان يرتعش بصورةٍ واضحة جراء شعوره بالحزن والغضب الصادق، وأعفاه كاودراي بسرعة من تأكيد الحقائق التي كانت مؤكدة بالفعل بصورةٍ لا تدع مجالًا للشك.
كان محامي الدفاع مقتضبًا أيضًا في استجوابه الشاهد (كعادته)، إلا أن ذلك بدا أنه قد استغرق الكثير من الوقت. وقال ناظرًا لكاتلر بنبرةٍ ناعسة: «لقد استخدمتَ تعبيرًا مثيرًا للانتباه. ماذا تقصد بقولك إنه بدا أقرب إلى وحشٍ من كونه رجلًا أو امرأة؟»
بدا على كاتلر الانزعاج الشديد وقال: «ربما ما كان عليَّ أن أقول ذلك، ولكن حين يكون للهمجي الذي رأيته كتفان منحنيان ضخمان وكأنهما لشمبانزي وشعيراتٌ منتصبة على رأسه وكأنه خنزير …»
قطع السيد باتلر حديث الرجل الذي يُعبِّر عن نفاد صبره الغريب في منتصفه. وقال: «دعك من فكرة أن شعره كان يشبه شعر الخنزير، هل كان ما رأيت يشبه امرأة؟»
صاح الجندي: «امرأة! يا إلهي، لا!»
علق المحامي في سرعةٍ لئيمة قائلًا: «لقد قال الشاهد السابق إنه كان يشبه امرأة، فهل كان هناك في جسم من رأيت أيُّ انحناءاتٍ مثيرة أو شبهِ أنثوية كانت سببًا في صدور تلك الإشارة الواضحة؟ لا؟ لم تُوجد انحناءاتٌ أنثوية؟ هل كان الجسم — إن كان فهمي لما قلته صحيحًا — يبدو ثقيلًا ومُربعًا أكثر من أي صفةٍ أخرى؟»
رد كاتلر بصوتٍ مبحوح يكاد يكون خافتًا: «ربما كان منحنيًا للأمام.»
قال السيد باتلر: «وربما لم يكن كذلك.» ثم جلس فجأة على كرسيه للمرة الثانية.
كان الشاهد الثالث قد دُعي إلى الشهادة بطلب السير والتر كاودراي وكان هو القس الكاثوليكي الضئيل الجسم، الذي كان ضئيل الجسم للغاية مقارنةً بالآخرين؛ حيث بدا رأسه فوق حافةِ منصة الشهود بالكاد؛ لذا فقد بدا الأمر وكأنه استجواب لأحد الأطفال، ولكن لسوء الحظ كان السير والتر قد أقنع نفسه بطريقةٍ ما (غالبًا بفعل بعض تداعيات ديانة أسرته) أن الأب براون يقف إلى جانب السجين؛ لأن السجين كان شريرًا وأجنبيًّا بل حتى أسود البشرة نوعًا ما؛ لذا فقد كان يقاطع الأب براون بِحدَّة متى حاول ذلك الأسقف المتفاخر أن يشرح أي شيء، وكان يطلب منه أن يُجيب بنعم أم لا، وأن يقُص الحقائق المجردة دون مهاترة. وحين حاول الأب براون بأسلوبه البسيط أن يقول من يظن أنه الرجل الذي كان في الممر، أخبره محامي الادعاء أنه لا يريد أن يسمع نظريته.
«قيل إنه جرت رؤية جسمٍ أسود في الممر. وأنت تقول إنك رأيتَ ذلك الجسم الأسود. حسنًا، كيف كان شكله؟»
رمشَت عينا الأب براون كما لو كان يتعرض لتوبيخ، ولكنه كان يعرف الطبيعة الحرفية لصفة الطاعة. فقال: «كان قصيرًا وممتلئًا، لكن كان هناك شيئان بارزان أسودان حادَّان ينحنيان لأعلى على كل جانبٍ من جانبَي رأسه أو عند قمته، كما لو كانا قرنَين، و…»
صاح كاودراي فجأة: «أوه! إنه الشيطان ذو القرنَين، بلا شك.» وجلس وهو يشعر بشعور المظفَّر. ثم استطرد قائلًا: «لقد كان الشيطان وقد جاء ليلتهم أتباع البروتستانتيين!»
قال القسُّ دون تأثُّر: «لا. أنا أعلم من هو.»
تملَّك الحضورَ في المحكمة شعورٌ بوجود بعض البشاعة الرهيبة في الأمر وإن كان مبالغًا فيه. لقد نسُوا أمر الرجل الذي يجلس في قفص الاتهام وفكَّروا فقط بأمرِ من شُوهد في الممر. لقد كان هذا الشيء، الذي قد وصفه ثلاثةُ رجالٍ جديرون بالاحترام والوقار كانوا قد رأَوه جميعًا، كابوسًا متغيرًا؛ فقد قال أحدهم إنه كان امرأة، وقال الثاني إنه وحش، والأخير يقول بأنه شيطان …
كان القاضي ينظر إلى الأب براون بعينَين ثابتتَين ثاقبتَين. وقال له: «أنت شاهدٌ غير اعتيادي، ولكنْ هناك شيء حيالك يُخبرني أنك تحاول أن تقول الحقيقة. إذن، من كان الرجل الذي رأيتَه في الممر؟»
قال الأب براون: «لقد كنتُ أنا.»
وقف مستشار الملك باتلر على قدمَيه بسرعة وبثباتٍ استثنائي، وقال بنبرةٍ هادئةٍ نوعًا ما: «حضرة القاضي، أتسمح لي باستجواب الشاهد؟» ثم، ومن دون أن يتوقف، وجَّه سريعًا لبراون سؤالًا يبدو في ظاهره غيرَ ذي صلة: «لقد سمعت بأمر هذا الخنجر، أتعلم أن الخبراء يقولون إن الجريمة وقعت باستخدام نصلٍ قصير؟»
صدَّق براون على كلامه مومئًا برأسه بجديةٍ وكأنه بومة قائلًا: «نصلٌ قصير، ولكن له مقبضٌ طويل للغاية.»
وقبل أن يتمكن الحضور من أن يستبعدوا فكرة أنَّ القس رأى بالفعل نفسه يرتكب الجريمة بخنجرٍ ذي نصلٍ قصير ومقبضٍ طويل (وهو ما بدا أنه يضيف مزيدًا من الفظاعة بعض الشيء على الأمر)، أسرع براون ليشرح الأمر.
«أقصد أن الخنجر ليس هو السلاح الوحيد الذي يحتوي على نصلٍ قصير؛ فالرماح أيضًا لها نصلٌ قصير. ويتصل النصل مع المقبض في الرمح بالطريقة نفسها التي يتصل بها في الخنجر، هذا إذا كانت الرماح من النوع الفاخر والممتاز كالذي يُستخدم في المسارح؛ تمامًا كالرمح الذي قتل باركنسون العجوز المسكين زوجته به، حين أرسلَت في طلبي كي أسوِّيَ خلافاتها الأسرية — وقد وصلتُ متأخرًا للغاية، فليسامحني الرب! ولكنه مات تائبًا نادمًا — لقد مات لأنه أحس بالندم وأراد التوبة. لم يتمكن من احتمالِ ما اقترفَته يداه.»
كان الانطباع العام في المحكمة هو أن القس الضئيل الحجم الذي كان يسير مبتعدًا عن منصة الشهود قد جُنَّ جنونه وهو يعتليها، لكن القاضي كان لا يزال ينظر إليه بعينَين ثابتتَين لامعتين يملؤهما الاهتمام، واستمر محامي الدفاع في أسئلته له برباطة جأش.
قال باتلر: «إذا كان باركنسون قد ارتكب جريمته بذلك الرمح الذي يُستخدم في التمثيل، فلا بد وأنه ألقاه من على بُعد أربعِ يارداتٍ منها. كيف إذن تُفسِّر علامات الصراع، مثل الفستان الممزق عند الكتف؟» كان باتلر يعامل شاهده الآن وكأنه خبير، ولكن أحدًا لم يلاحظ ذلك الآن.
قال الشاهد: «لقد تمزَّق فستان المرأة المسكينة لأنه علق في لوحٍ كان معلقًا خلفها تمامًا. وقد صارعَت لتُخلِّص نفسها، وفيما كانت تفعل هذا، جاء باركنسون من غرفة السجين وطعنها بالرمح.»
ردَّد محامي الادعاء بصوتٍ ينمُّ عن الفضول: «لَوْح؟»
فسَّر الأب براون كلامه قائلًا: «كانت مرآة على الجانب الآخر من الممر. لقد لاحظتُ حين كنتُ في غرفة تغيير الملابس أن هناك بعض المرايا التي يمكن أن تخرج إلى الممر.»
ساد صمتٌ مطبق غيرُ طبيعيٍّ آخر في المكان، وهذه المرة، كان القاضي هو من كسَره فقال: «إذن أنت تقول إنكَ حين نظرتَ في ذلك الممر، كان الرجل الذي رأيته هو أنت — في المرآة؟»
قال براون، «أجل، حضرة القاضي، هذا هو ما أُحاول قوله، ولكنهم سألوني عن شكله، ولِقُبَّعاتنا زوايا تبدو مثل القرون تمامًا؛ لذا …»
انحنى القاضي إلى الأمام، وازدادت عيناه العجوزتان لمعانًا، وقال بنبرةٍ خاصة: «هل تقصد أن تقول إن السير ويلسون سيمور حين رأى ذلك الشيء الهمجي بانحناءات جسمه وشعره الأنثوي وسرواله الرجالي، فقد كان ما رآه هو السير ويلسون سيمور نفسه؟»
قال الأب براون: «أجل، يا سيدي.»
«وتقصد أن ما رآه الكابتن كاتلر، ذلك الشمبانزي ذا الكتفَين المَحنِيَّين وشعر الخنزير، كان ببساطة هو انعكاسًا له؟»
«أجل يا سيدي.»
أراح القاضي ظهره للخلف في كرسيه في أُبَّهةٍ كان من الصعب معها الفصل بين شعوره بالتهكُّم والإعجاب. واستكمل القاضي أسئلته: «هل يمكنك أن تخبرنا بالسبب وراء قدرتك على التعرُّف على صورتك في المرآة، في حين أن مثل هذَين الرجلَين المميزَين لم يتمكنا من ذلك؟»
رمشَت عينا الأب براون حتى أكثر من ذي قبل وبطريقةٍ أكثر ألمًا؛ ثم ردَّ متلعثمًا: «حقًّا سيدي أنا لا أعرف، إلا إذا كان السبب أنني لا أنظر إلى نفسي في المرآة كثيرًا.»