نقد وملاحظات
النهضة الفنية (بقلم الأستاذ المبدع عبد الفتاح فرحات)
ذكر الأستاذ الموسيقار المعروف كامل أفندي الخُلَعِي في كتابه «الموسيقى الشرقي» أن الموسيقى «لم يُعرف لها واضع، وكل من حدَّد واضعًا لها، فقد أخطأه الجد وخدعه الباطل، ولم يدرك حقيقة العمران وأطوار بني الإنسان، فإنَّ الإنسان في أي طور ظهر وأرض انتشر فالغناء حليفه، والشعر أليفه. أو ما تراك ترى الأمم الهمجية والقبائل الوحشية لها ألحانٌ وأنغامٌ تلائم طبعها وتناسب حالها؟ نعم إنها تختلف في الأمم اختلافًا هائلًا، وتتباين تباينًا عظيمًا، ومنشأ هذا تفاوتهم في المدنيَّة، ودرجاتهم في العلم والحضارة، فالذي ينظر مثلًا إلى الزنجي في أفريقيا، والأديب في أوروبا، ويضع كل واحدٍ منهما في كفة ميزان، يرى أنَّ الأول كأنه بالنسبة إلى الآخر ليس من نوع الإنسان، بل هو من نوع آخر يشبهه في اعتدال القامة وتقاطيع العضلات، وكما أن الفرق تراه في شكلهما وعلمهما تراه كذلك بين لحنهما وغنائهما.»
وهذا أبلغ ما يقال في الإشادة بمحاسن الموسيقى الغربية، واعترافٌ لا بدَّ منه إذا كانت لنا رغبةٌ حقيقيةٌ في النهضة الفنية. وقد اقتبستُ هذه الملاحظات لأنَّ القصائد والأغاني التي ازدان بها هذا الديوان ذاتُ نزعةٍ أوروبية في معناها، وإن لم يكن معظمها كذلك في مبناه. وقد يتوهم بعض الناس أن المعنى ثانوي بجانب المبنى في اختيار التوقيع المناسب، وهذا خطأ لا يقل عنه تصوُّر بعضهم أنَّ حسن الصوت هو كل شيء في الغناء.
ويحسن بي بعد ذلك أن أشير على سبيل المثل إلى شيء من البدائع الفنية في هذا الديوان؛ لأنها مصدر الحبور والإلهام للموسيقي الحاذق، وخصوصًا لمن امتاز بعواطف حسَّاسة، وشارك الناظم في عوارض حبِّه وشكواه.
خذ مثلًا قصيدته «الطيب والزهر»، فهي من أبلغ قصائد الحب؛ لأنها على إيجازها جمعت الكثير من المعاني والتشابيه والأوصاف الفتانة وعمق الحس الكشَّاف. فما أبدع قوله:
فقد شبه محبوبته بالزهر، وشبه نفسه بالطيب الذي يندثر بطبيعة الحال كلما ابتعد عن مصدره، ولكنه استدرك على ذلك بقوله ما معناه أن حبَّها القريب منه يجدد هذا الطيب، وبعبارة أخرى يجدد حياته التي يودي بها لولا ذلك بعدُه عنها. وما أبرع دقته الخيالية في قوله:
وقوله في الإشارة إلى مكتوب حبيبته وتكريمه بل تقديسه له:
وقد أجاد تصوير نظرة المعشوقة غير القانعة بقوله:
وقرأت متأثرًا قصيدته المشجية «عرس المأتم»، وقد فهمت من أبياتها أنها نُظمت على مسمعٍ ضعيف من موسيقى العرس لحبيبته المغتصبة؛ وكأنَّ كل بيتٍ منها جزءٌ من فؤاده المنفطر، وهي من شعر العواطف المتفجرة التي لا تقاوَم، فله إذن مكانة خاصة في الغناء. وما أكرم شعوره وأسمى خياله الوثَّاب في قوله مخاطبًا أنغام الموسيقى التي ربما كان الأولى به أن يشبه تأثيرها بتأثير حزِّ المدى في قلبه:
ولعل الطبيب الأديب والعالم المطلع على الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) أول من يسجد سجودًا لخيال ووصف شاعرنا الفنَّان في أبياته التالية من قصيدته: «يا قلب!»:
وما أروع كذلك قصيدته «لفتات الغريب»، ففيها من ألحان الحزن والألم ما يهز الجماد، ويعجبني منها على الأخص قوله:
ومن أجمل تكريمه للفضيلة — وهي ميزة بيِّنة في كل شعره الغزلي حتى الخيالي منه — قوله مخاطبًا حبيبته:
وهذان البيتان من قصيدته: «زينب!» ومطلعها غايةٌ في الرقة ولطف الخيال حيث يقول:
وفي قصيدته «شمس نيسان»، كما في قصيدته «ذكرى الحب الأول» تتجلى براعته التصويرية والصناعية في أسمى مظاهرها. وقد أعجبني كثيرًا قوله:
وهو في رأيي أدقَّ وأعذب وأبلغ من قول شوقي بك:
ويغلب على ظني أن قصيدته «الحلم الصادق»، وكذلك «خصلة شعر»، دع عنك «الكروان الرسول»، و«الجزاء العادل» وغيرها، ليست مما تطرب رجال المدرسة القديمة كما يُسَمَّوْنَ، ولكنها من أجمل الأمثلة الحية لشعر المستقبل، وأقول «شعر المستقبل»؛ لأني لا أنكر أنها تكاد تكون في إبداعها سابقة لزمانها.
هذه الجنة الفيحاء جديرةٌ بأن تمتد ظلالُها وأن ينعم بفاكهتها، ومتنوع محاسنها جميع عشاق الجمال من أبناء العربية، ومحبيِّ فن الغناء، وأنصار الأدب الحديث.