تولد الغناء والشعر
نعد من حسن حظنا أن نوفق للحصول على هذا المقال الانتقادي النفيس من قلم الأستاذ الزهاوي؛ لنختم به هذا الديوان، ففيه ما يغني عن الإسهاب في تعزيز الروح التجديدية الشائعة في نظم الأستاذ الدكتور أبي شادي، ولا سيما ما يستملحه من أوزان جديدة، كثيرًا ما لا يرضى عنها رجال الأدب القديم. قال الأستاذ الزهاوي حفظه الله:
كانت المرأة أو الرجل قبل عصور التاريخ تكرر كلمات التوجع عند الفجيعة وفاق لطم الوجه أو اللدم على الصدر أو الشهيق والزفير، وهي تطيل تارة تلك الكلمات وتقصرها أخرى أو تبدي تأوُّهات وتنهدات فوق ذلك اللطم واللدم أو الشهيق والزفير. وهي إذا ندبت ترفع صوتها مرة وتخفضه أخرى تبعًا لفوران إحساساتها، أو خورها من كثرة اللطم واللدم، ويتخلل كلماتها أو حروفها نشيج وانقطاعات قصيرة كما تفعل اليوم المرأة القروية أو البدوية في بلادنا.
وكذلك كان الرجل المتحمس والمرأة الجذلى يبديان إحساسهما بكلمات توافق رفس الأرض بالرجل مرة أو مرتين، أو مد الذراع وقبضها أو قفزاتهما، ووثباتهما عند الرقص أو الحماسة كما يفعل اليوم المتهوسون.
وكان يشترك عند المناحات أو الأفراح المعقبة للانتصارات أو المظاهرات الحماسية عدد من النساء والرجال معًا بإعادة الكلمات التي تفوه بها النائحة أو الرئيس، أو إعادة رفس الأرض ومد الأيدي وقبضها على نسق واحد ونظام من غير زيادة ونقصان.
أما الغناء فقد تولد من امتدادات تلك الأصوات وانقطاعاتها المتخللة إياها وارتفاعاتها وانخفاضاتها بعد أن أخذت أشكالًا معينة بسبب التكرار وإقبال الجمهور عليها إلى أن صارت كلما قلدها أحد تعيد في السامعين والسامعات تلك الإحساسات.
وتفرعت تلك الأشكال بتعدد القبائل، وتأصلت بالوراثة بطنًا عن بطن، في عصور وأحقاب طويلة.
والموسيقى هي الغناء نفسه، وبعبارة أخرى هي تقليد تلك الأصوات بما يتخللها من الانقطاعات، وما لها من الارتفاعات والانخفاضات بواسطة الأوتار أو غيرها، وجعل سلم منها لهما، وكأن العود التي يوقع على أوتارها لحن موسيقي يذكر السامع بشكاة من الآلام قد ورثها البشر من أسلافهم الأقدمين، فهو وإن لم يتذكر الألفاظ يتحسس بوزانها ورفع أصواتها وخفضها.
وأما الشعر فمتولد من تلك الأصوات والانقطاعات التي تتخللها بإعادتها أو زيادة مقطع عليها أو حذفه أو تبديل مقطع بآخر بألفاظ تدل على إحساسات جديدة ومعانٍ تريدها النائحة أو المتحمس تشعران بتلك الإحساسات القديمة، ففيه إحساسان الأول هو الموروث عن الأجداد بإثارة الأوزان لها، والثاني هو الحادث بإثارة ما تدل عليه الألفاظ من المعاني، ولذلك كان يفضل الغناء المجرد من الألفاظ. ولما كان في الغناء تفصيل تلك الأصوات والانقطاعات وتمثيل لارتفاعاتها وانخفاضاتها ليسا في الشعر قرنوا بينهما، فتضاعف تأثير كل منهما بسبب الآخر، وهما على كل حالة شقيقان قد تولدا من إحساس واحد.
فالشعر في أصله كلمة تنطق بها المفجوعة مكررة إياها، وهي تلطم وجهها أو تلدم صدرها، كما إذا قالت «ويلي ويلي»، أو «أوه أوه»، بفترات قصيرة، أو قالت «قد ماتوا قد ماتوا»، أو «يا ويلتا يا ويلتا»، أو «أين أهلي أين أهلي»، أو «لقد هلكوا لقد هلكوا»، إلى غير ذلك من الكلمات التي يكررها المفجوع. ثم تقدموا فيه فأخذوا يؤلفونه من تفاعيل ثلاثة أو أربعة، ثم جعلوا يغيرون بعض تلك الكلمات مع المحافظة على الوزان، ثم جعلوا يؤلفون بين الكلمات من وزانين مختلفين.
وقد كان الشعر في أوله شطرًا واحدًا، ثم جعلوه شطرين متطابقين في وزان الكلمات، مع تكرار الكلمة الأخيرة، ثم جعلوه عدة أبيات موافقة لأول شطر من غير إعادة شيء من الكلمات، إلا الروي الذي هو بمثابة عضو أثري للكلمة التي كانوا يعيدونها، وهذا النوع هو القصيد. وترى مما ذكرت أن الشعر مثل الأحياء، قد مشى على سنن الارتقاء من البسيط إلى المركب.
وقد تفننوا في الأوزان، فولَّدوا من بحر أو بحرين بسيطين بحورًا كثيرة. والبحور البسيطة هي التي تفاعيلها على وزان واحد، كالمتدارك والمتقارب. والمركَّبة هي التي تفاعيلها على وزانين كالطويل والخفيف. والقسم الأول أقدم من الثاني لبساطته.
وقد ظن الكثيرون أن للأوزان حقيقة في الخارج، فجعلوا يتساءلون عن كيفية العثور عليها، وهذا خطأ، فإن الوزن هو هذا الذي يقوله الموتور أو المتحمس عند ثورة إحساساته، ويكرره، فإذا كان شديد التأثير، وهو لا يكون مؤثرًا إلا إذا تألف من عدة تفاعيل متناسقة، شاع وغنَّى به غيره، فكان وزنًا من الأوزان.
ومثل هذا ما تقوله النائحات اليوم من الكلمات التي تكررها لإثارة الحزن، أو المتحمس لإثارة الشجاعة، وهو ما نسميه «الهوسة»، وليس لهذه الأوزان حد لتكون ستة عشر بحرًا، بل الأبحر الستة عشر هي الأوزان التي سمعت من عرب الجاهلية.
وقد أتى بعض المولدين بأوزان أهملها العرب، منها ما أجزاؤه مفاعيلن فعولن مرتين لكل شطر وهو عكس الطويل كقوله:
ومنها ما أجزاؤه فاعلن فاعلاتن مرتين لكل شطر، وهو مقلوب المديد كقوله:
ومنها ما أجزاؤه فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن لكل شطر كقوله:
ولعرب البادية وقبيلة المعوان وغيرهم اليوم أوزان ليست شيئًا من بحور الخليل، وهي مع ذلك جميلة في الغالب. كقول بعض النائحات:
«دحجت» نظرت، «لنَّ» وإذا، «الكبر» القبر، «كامه» قامه، «ذيج» تلك، «الجهامة» الصورة. وأجزاؤه لكل شطر مستفعلن مستفعلن لن.
وقول بعضهن:
«مكلت لج» أما قلت لك، «يا يمه» يا أماه، «مدري» ما أدري، «الرحية» الرحى، «ثجيله» ثقيلة، «لولا» أم، «العشج» العشق. وأجزاؤه مفاعلن مفعولن أو مستفعلن مفعولن لكل شطر.
وكقول أحد شعراء البادية من قصيدة:
«سجونه» سقونا، «لا جننا» لكننا، «الواشجونه» المشبهون لنا. وأجزاؤه مستفعلن مستفعلن فاعلاتن لكل شطر. أما الواو في «ولا مثلنا» فهي ساكنة يجوز الابتداء بها في لغة العامة والبدو من غير أن يختل الوزن. إلى غير ذلك من أوزان اخترعوها بأنفسهم، فهم أكثر اختراعًا من شعراء اللغة الفصحى.
وإخال أن عرب الجاهلية قد فرضوا الشعر على أوزان كثيرة، غير أن أكثرها ماتت لعدم ملاءمتها لأذواق الشعوب يومئذ، فلم تقو على تنازع البقاء ولا طمع في أن نجد جثتها المتحجرة في طيات التاريخ. ولم يبق حيًّا ينشد أو ينسج على منواله إلا البحور الستة عشر.
وكانوا لا يقسمون الشعر إلا من حيث قلة أجزائه أو كثرتها، أو قصر الأبيات وطولها، فيسمون القصير رَجَزًا والطويل قَصِيدًا. قال أحدهم: «أرجزًا تطلب أم قَصِيدًا؟» (ليس المقصود من الرجز هنا البحر المعيَّن).
وأرى أن لكل شاعر اليوم أن ينظم على أوزان يخترعها غير مرتب بأوزان الخليل، بشرط أن تكون خفيفة على السمع، كما إذا أتى لكل شطر بألفاظ على وزان فعولن فعلن، أو مفاعيلن فعولن، أو مستفعلن لن فعولن، أو فعولن مستفعلن لن، أو فعلن مستفعلن فعلن، أو فاعلن فعلن، أو مفاعيلن فاعلاتن فعلن، إلى غير ذلك.
وأوزان الخليل البسيطة هي التي تتكرر تفاعيلها متشابهة في كل شطر، كما في المتدارك، والمتقارِب، والكامل، والوافر والهزَج، والرجَز، والرمَل. والأوزان المركبة هي التي تختلف فيها التفاعيل، كأن تتألف من عددين مختلفين منها، كما في الطويل، والبسيط، والمديد، والسريع، والمنسرح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمجتث. وهذه أرقى من الأولى، وأرقى الجميع هي الأوزان التي يتركب كل شطر منها من ثلاث تفاعيل مختلفة، مع توافق في الشطرين، أو زيادة مقطع في آخر الشطر الثاني وحذفه، فيكون التكرار المطلوب من تفاعيل الشعر بإعادتها في الشطر الثاني وفاق الشطر الأول.
والرَّوِيُّ هو علامة التكرار، كأنه نص عليه، وقد كان في أصله تكرارًا للكلمة الأخيرة من كل بيت، ولكن التفنن في الكلام والاقتصاد في المعنى جعلا مع الزمان لا يتكرر من الكلمة الأخيرة إلا آخر حرف منها، فهو عضو أثري سوف يزول في المستقبل، فيكتفى بتوافق وزان الكلمات الأخيرة في القصيدة من غير إعادة الحرف الأخير.
وقد بدأ كثير من شعراء العصر يغير القافية بعد كل بضعة أبيات، كأن نفوسهم سئمت الخلاخيل في أرجل غانيات الشعر فجردوها منها.
وفي عدم تسمية عرب الجاهلية للأوزان التي كانوا ينظمون عليها شعرهم دليل على أنها لم تكن لديهم محدودة كما هي لدينا اليوم.