هاك البطل
كان أول خبر تناهى إلى مسامع توم صباح يوم الجمعة خبرًا سعيدًا؛ فأخيرًا عادت بيكي ثاتشر وعائلتها إلى المدينة بعد عطلتهم الصيفية. ورأى توم بيكي في الحال وأمضيا وقتًا طيبًا في اللعب مع رفقائهما في المدرسة. ثم أقنعت بيكي والدتَها باختيار اليوم التالي لقضاء نزهة مدرسية طال الوعد بها، كما طال إرجاؤها.
وفي اليوم التالي كان يتجمهر خارج منزل القاضي ثاتشر مجموعة صغار مشاكسين واستُؤجرت سفينة بخارية قديمة من أجل الرحلة البحرية التي كانت ستستغرق يومًا كاملًا، وشق حشد الأطفال السعداء طريقهم نحو السفينة وهم يحملون السلال الممتلئة بالطعام.
وعندما كان الأطفال يستعدون للرحيل، قالت السيدة ثاتشر لبيكي: «إنك لن تعودي إلاَّ في وقت متأخر للغاية، لذلك فمن الأفضل أن تُمضي الليل عند إحدى الفتيات القاطنات بالقرب من مرسى السفينة.»
– «سأمكث عند سوزي هاربر يا أمي.»
– «حذارِ من أن يصدر عنكِ أي شغب.»
وفي الوقت الذي كان توم يسرع فيه نحو السفينة مع بيكي وبقية الأطفال، إذا به يفكر في هاك؛ إذ ربما يأتيه في عين هذه الليلة ويبعث إليه بإشارة مفادها أن حجرة إنجون جو فارغة. لكن إذا كانت الإشارة لم تأته في الليلة المنصرمة، فما يزيد من احتمال وصولها في عين هذه الليلة؟
وعلى بعد ثلاثة أميال جنوبيّ المدينة، توقفت السفينة عند خليج تكسوه الأشجار. وتجمهر جمع الأطفال الفرحين على الشاطئ، وبعد قليل دوت أصداء الصيحات والضحكات في كل أرجاء فضاء الغابة الفسيح والمرتفعات الصخرية. واستكشف الأطفال المتنزهون كل سبل التسلية واللهو قبل أن يكدوا في العودة إلى المعسكر ولديهم نهم شديد إلى الطعام، وبعد الالتفاف في مأدبة عظيمة حان الوقت لاكتشاف كهف ماكدوجال.
أُحضرت الشموع وركض كل الصغار إلى أعلى التل الذي كان مدخل الكهف يقع على جانبه، وكان باب الكهف العملاق المصنوع من خشب السنديان مفتوحًا على مصراعيه. ويا له من مشهد يحبس الأنفاس عندما يقف المرء في الظلام الدامس عند فم الكهف وينظر للخارج، فيرى أشعة الشمس تسطع على الوادي الأخضر.
وبمرور الوقت أخذ موكب الأطفال يتدفق إلى المهبط المنحدر بالممر الرئيسي للكهف، وكان صف أضواء الشموع المتراقصة التي يحملها الأطفال يُظهر جدران الكهف الصخرية الشامخة التي كانت تكتنفهم. لم يكن عرض الممر يتجاوز ثلاثة أمتار، وعلى جدرانه شقوق صخرية أضيق على مسافات متقاربة. وكان يشاع أنه يمكن للمرء أن يجول أيامًا وليالي عبر غياهب هذه الشقوق المعقدة والمتداخلة دون أن يعثر لها على نهاية أبدًا.
وبعد قليل أخذ بعض الأطفال يتسللون بعيدًا عن المجموعة الكبيرة ويلعبون لعبة الاستغماية في المناطق المكتشفة من الكهف، ثم يعودون في مجموعات صغيرة متفرقة إلى فم الكهف لاهثين وضاحكين وملطخين بقطرات الشموع من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين وموحلين في الطين مبتهجين بمغامراتهم. وقد رجعوا في الوقت المناسب؛ إذ كانت أجراس العودة قد دقت لتوِّها وشرعت السفينة البخارية في العودة إلى المدينة.
وبعد مرور ساعة، كان هاك قد بدأ لتوه في نوبة حراسته عندما رأى أضواء قارب تتلألأ، وقد تجاوزت المرسى؛ فتعجب: أي قارب هذا، ولماذا لم يتوقف بالمرسى! ولكنه لم يطل الإمعان في الأمر؛ إذ كان الليل آخذًا في الظلام، وهو لديه مهمة ليقوم بها.
حانت الساعة العاشرة وتوقفت الضوضاء الناجمة عن حركة العربات وبدأت الأضواء المنتشرة تخفت أيضًا والشوارع تخلو من الناس أكثر فأكثر. وبحلول الساعة الحادية عشرة كانت الظلمة تغزو كل الأرجاء وانتظر هاك فيما بدا دهرًا سحيقًا متضجرًا دون أن يقع أي شيء جدير بالذكر. وتساءل هاك: هل هناك فائدة بحق يمكن جنيها من وراء المكوث أكثر من ذلك؟ لماذا لا يفقد الأمل ويعود أدراجه؟
وعندئذ تناهى إلى مسامعه صوت مرتفع. فقد انغلق باب الممر بهدوء واندفع هاك نحو ركن محل حلاقة مغلق، وفي اللحظة التالية مر رجلان إلى جانبه مباشرة وبدا أن أحدهما يحمل شيئًا ما تحت ذراعه: إنه الصندوق! لقد كانا ينقلان الكنز! قدح هاك زناد فكره بسرعة؛ فالرجلان سيرحلان بالكنز ولن يمكن العثور عليهما مجددًا، إذن لا بد من أن يتبعهما بنفسه. خرج هاك من مخبئه، وتسلل وراءهما مثل الهرة عاري القدمين وتركهما يتقدمانه بمسافة بعيدة حتى لا يلاحظاه.
سار الرجلان بمحاذاة شارع ريفر، وانعطفا يسارًا بعد ثلاثة مبانٍ، وسارا في الدرب المؤدي إلى تل كاردفيل، ومرا بكوخ الويلزي العجوز الذي يقع في منتصف الطريق نحو قمة التل، وواصلا صعودهما التل. فكر هاك في نفسه: عظيم! سيدفنان الكنز في المحجر القديم. بيد أن الرجلين لم يتوقفا بالمحجر، بل تجاوزاه إلى قمة التل وغاصا في الممر الضيق الذي يتوسط أغصان شجر السماق الطويلة. واقترب هاك منهما قليلًا إذ صار الظلام حالك السواد؛ فلم تعُد تتسنى لهما رؤيته. هرول هاك مقتربًا منهما ثم توقف. أنصت هاك لكنه لم يسمع شيئًا سوى ضربات قلبه، فأوشك على الاستسلام مرة أخرى، وذلك عندما أخذ أحد الرجلين يتنحنح على بعد متر وربع المتر منه فحسب!
وقف هاك مكانه وهو يرتجف بشدة. وقد عرف أين هو بالضبط؛ إنه على بعد متر ونصف المتر من الطريق المؤدي إلى منزل الأرملة دوجلاس. وإذا دفنا الكنز هناك، فسوف يتعسر العثور عليه.
صدر صوت خافت للغاية، وهو صوت إنجون الذي قال: «انظر، ثمة أضواء، ربما لديها صحبة.»
– «لا أستطيع أن أرى شيئًا مما تتحدث عنه.»
سرعان ما أدرك هاك أن صوت الرجل الآخر هو صوت شريك إنجون جو، فارتجف بشدة؛ فهذا هو «العمل الثأري» الذي تحدثا عنه من قبل! وتذكر هاك أن زوج الأرملة دوجلاس كان يشغل منصب قاضي الصلح، وأنه ألقى القبض على إنجون جو عددًا من المرات لا حصر لها. وها هو إنجون جو وشريكه الآن يحيكان المكائد للثأر من أرملته عن طريق سرقتها، أو ما هو أدهى من ذلك!
حبس هاك أنفاسه وتراجع بتؤدة خطوة واحدة للوراء، تلتها خطوات أخرى، وبعدما تراجع بالدرجة الكافية أخذ يركض بسرعة البرق هابطًا التل إلى أن وصل إلى كوخ الويلزي العجوز، وأخذ هاك يقرع الباب بعنف وعلى الفور أطلت من النافذة رءوس الكهل وابنيه العتاة.
– «ما كل هذه الجلبة؟ من الطارق؟ وماذا تريد؟»
– «أنا هاكلبيري فين، هيا أسرع، أدخلني!»
– «أحقًّا أنت هاكلبيري فين! إن هذا الاسم لا يستحق أن تُفتح له الأبواب، لكن دعوه يدخل، ولنر ما المشكلة!»
كانت الكلمات الأولى التي نطق بها هاك لدى دخوله هي: «أرجوكم لا تقولوا قط إني أخبرتكم، لكن الأرملة دوجلاس كانت تحسن معاملتي أحيانًا، وأريد أن أبوح بأمر، لكني لن أبوح به ما لم تعدوني أنكم لن تأتوا على ذكر اسمي أبدًا.»
قال الرجل الطاعن في العمر متعجبًا: «أقسم بالقديس جورج أن هناك أمرًا خطيرًا يعرفه هذا الصبي وإلا ما صار مرتبكًا هكذا! بح بما لديك أيها الصبي ولن يفشي الأمر أحد البتة.»
بعد ذلك بثلاث دقائق كان الشيخ وابناه متسلحين تسلحًا عظيمًا، وفي طريقهم إلى أعلى التل، إلى جانب ممر شجر السماق. تركهم هاك هناك واختبأ وراء صخرة ضخمة، وبعد لحظات قليلة من الصمت المشوب بالتوتر، سمع الصبي الصغير فجأة صوت طلقات نارية وصرخة عظيمة.
لم ينتظر هاك ليرى ما الذي وقع، وإنما أطلق ساقيه للريح وهبط التل على جناح السرعة.