حبيسان في الكهف
ما إن بزغ فجر الأحد حتى أسرع هاك مرة أخرى إلى أعلى التل، وقرع برفق باب الويلزي العجوز مرة أخرى.
قال صوت أجش: «من الطارق؟»
– «من فضلك دعني أدخل، أنا هاك فين.»
– «إن هذا لهو الاسم الذي يستحق أن يُفتح له هذا الباب ليل نهار، أيها الصبي! مرحبًا بك.»
سرعان ما فُتح الباب، وأَجلس الشيخُ هاك على مقعد وثير ثم أخذ يعد فطورًا يليق بالبطل هاك.
– «تمنيت أنا وولديَّ أن تعود إلى هنا الليلة الماضية!»
– «كنت مذعورًا جدًّا، فغادرت مسرعًا عندما أُطلقت النيران وكنت أخشى العودة إلى هنا قبل طلوع النهار.»
– «يبدو أنك اجتزت وقتًا عصيبًا الليلة المنصرمة يا ولدي المسكين، هاهنا فراش لك يمكنك أن تستريح عليه بعد أن تنتهي من تناول فطورك. لقد كنا على وشك القبض على هذين الوغدين الليلة المنصرمة لولا أنني عطست، ما أسوأ حظنا! فبعدها مباشرة ركض هذان الوغدان، فأطلقنا النيران عليهما، لكنهما اختفيا في لمح البصر. وقد جمع المأمور القليل من القوات، ولا يزال البحث عنهما جاريًا في الغابة. أعتقد أنك لم تتمكن من رؤية ملامحهما في الظلام، أليس كذلك؟»
– «كلا، لقد رأيتهما بوسط المدينة أولًا، ثم تتبعتهما. أحدهما هو الإسباني الذي عرَّج على المدينة مرة أو مرتين، والآخر هو …»
– «كفى يا ولدي، فأنت تعرف الرجلين! انصرف مع ولدي لتخبر المأمور!»
وما إن همّ ابنا الشيخ بمغادرة الحجرة حتى هبّ هاك من مكانه.
– «أرجوكما لا تخبرا أحدًا قط بأنني أنا الذي وشيت بهما. أتوسل إليكما!»
– «لا بد من أن يُرجع الفضل لك.»
– «لا، لا! أرجوك ألا تخبر أحدًا!»
– «لن يخبرا أحدًا، ولا أنا أيضًا. لكن لماذا تكره أن يُعرف الأمر؟»
لم يعلل هاك الأمر إلا بخوفه الشديد، ووعده الشيخ مرة أخرى بتكتم الأمر.
– «ولماذا تتبعتهما؟ هل بدا عليهما ما يريبك؟»
صمت هاك لفترة وجيزة ليفكر فيما يقول.
– «حسنًا، كما ترى، لم أستطع أن أخلد إلى النوم الليلة المنصرمة ورأيت هذين الرجلين بجانب الحانة، وكان أحدهما يحمل شيئًا بدا مسلوبًا …» ومضى هاك في حديثه متسرعًا يختلق قصة يروي فيها كيف قرر أن يتبع الرجلين — اللذين ميز أن أحدهما هو الرجل الإسباني — إلى التل، ومنه إلى منزل الأرملة دوجلاس.
– «وعندئذ قال الرجل الإسباني …»
– «ماذا؟ أيتكلم الإسباني؟ إنه لا يسمع ولا يتكلم!»
تدارك هاك الخطأ الذي وقع فيه لتوِّه وقام بعدة محاولات واهية ليستر خطأه، ولكن الشيخ قاطعه قائلًا: «لا تخف يا ولدي، لن أدع أحد يمس شعرة واحدة من رأسك تحت أي ظرف من الظروف. إنك تعرف شيئًا بخصوص ذلك الإسباني وتريد أن تكتمه. والآن لتثق بي يا ولدي، أخبرني ببقية الأمر، وأنا لن أخونك قط.»
نظر هاك في عيني الشيخ الصادقتين للحظة، ثم همس في أذنه: «إنه ليس بإسباني، إنه إنجون جو!»
كاد الويلزي يهب من مكانه ثم قال بعد لحظة: «لقد اتضح كل شيء الآن، لطالما كان إنجون جو يضمر الشر في قلبه لزوج الأرملة الذي كان يزج به في السجن دائمًا.»
جلس هاك لتناول الفطور؛ إذ كان يشعر بالضعف والوهن. وكان شديد الاستياء من نفسه بسبب توتره وعدم تمكنه من كتمان المعلومات التي لديه بشأن إنجون جو. وراح الويلزي العجوز يروي بقية القصة، وكيف ترك الوغدان وراءهما مجموعة من أدوات السطو عندما لاذا بالفرار. ولم يكن هناك ذكر للكنز مما يعني، كما ظن هاك، أنه لا بد من أن يكون الكنز لا يزال هناك في الغرفة في الحانة، وتصور هاك أنه ربما يُلقى القبض على إنجون جو وصديقه في هذا اليوم نفسه ويُزج بهما في السجن، وعندئذ يتسنى له هو وتوم الاستيلاء على الكنز في هذه الليلة بدون عناء يُذكر.
بكر جميع قاطني مدينة سانت بيترسبيرج إلى الكنيسة في هذا الصباح بعدما انتشرت أنباء عن حادثة البارحة، وشاع القول بأنه لا يوجد أثر لهذين الوغدين. وعندما انتهت الموعظة، قصدت زوجة القاضي ثاتشر السيدة هاربر، التي كانت تسير عبر ممر الكنيسة إلى جانب الجموع، وقالت لها: «هل تنوي صغيرتي بيكي أن تنام كل النهار؟ لقد توقعت أن تكون منهكة بشدة فحسب!»
– «صغيرتك بيكي؟»
– «أجل، ألم تبت عندكِ الليلة المنصرمة؟»
– «ماذا؟ لا.»
شحب وجه السيدة ثاتشر التي سقطت على أحد المقاعد، وعندئذ مرت بهما العمة بولي، وقالت: «صباح الخير يا سيدة ثاتشر، صباح الخير يا سيدة هاربر، أظن أن صغيري توم لا بد من أنه مكث في منزلكِ الليلة المنصرمة، أو عندكِ يا سيدة هاربر. وها هو الآن خائف من المجيء إلى الكنيسة؛ لا بد أن أحاسبه على هذا.»
هزت السيدة ثاتشر رأسها بطريقة واهنة، وشحب وجهها مرة أخرى.
وردت السيدة هاربر التي بدأ يساورها القلق: «لم يمكث عندنا.»
سرعان ما انتشر الخبر بين الحضور، ولكن لم يستطع أحد أن يتذكر آخر مرة رأى فيها توم أو بيكي، كما لم يلحظ أحد من الأطفال ما إذا كانا على متن العبارة أثناء رحلة عودتها إلى المدينة، وأخيرًا أعلن فتى صغير عما في صدره من خوف من أن يكونا لا يزالان هناك في الكهف! فغابت السيدة ثاتشر عن الوعي وأخذت العمة بولي تصرخ وتهز يديها بقوة.
وفي غضون دقائق معدودات، كان الرجال يمتطون الجياد وأُمر بخروج القارب، وفي أقل من نصف ساعة كان هناك مائتا رجل يتدفقون نحو النهر قاصدين الكهف.
وأمضت المدينة الليل بأكمله في ترقب وانتظار لوصول أي أخبار، ولكن طلع الصبح أخيرًا دون العثور على أي أثر للطفلين أيضًا. وأخيرًا وفي وقت مبكر من بعد ظهر الاثنين بدأ بعض الرجال المنهكين في العودة إلى القرية. وفي إحدى البقاع النائية بداخل الكهف التي تبعد عن المناطق التي عادة ما يزورها السائحون، عُثر على آثار اسمي بيكي وتوم مكتوبين على جدار صخري إلى جانب أثر لدخان الشموع. وكان هذا أقصى ما توصل إليه الباحثون بشأن الطفلين المفقودين.
وكان توم وبيكي هناك بالفعل تائهين لا أمل لهما في الغياهب الداخلية للكهف. فبعد أن انتهيا من لعب الاستغماية، هاما على وجهيهما بلا اكتراث في غياهب الكهف يشاهدان الأسماء والتواريخ المكتوبة على الجدران الصخرية. وعندئذ هبطا إلى الأغوار الخفية لأحد الدهاليز، وكان توم يترك علامات بدخان الشموع طوال الطريق حتى لا يضلا. وفي آخر المطاف وصلا إلى مغارة كبيرة للغاية، يحتشد تحت سقفها جماعات كبيرة من الخفافيش، آلاف منها في كل جماعة. فأرعبت أضواء الشموع الخفافيش واندفعت أفواجًا بالمئات تصدر أصواتًا حادةً وتتدافع في هياج شديد لدى رؤية الضوء الساطع. وفي خضم رعدتهما، أمسك توم بيد بيكي وأسرعا نحو أول ممر رآه توم. وطاردت الخفافيش توم وبيكي مسافة لا بأس بها، فواصل توم وبيكي ركضهما، وكانا ينعطفان إلى كل ممر جديد يقابلهما إلى أن تخلصا أخيرًا من المخلوقات المرعبة. وعندما توقفا ليتحققا من المكان الذي وصلا إليه أخيرًا، وجدا أنفسهما على شاطئ بحيرة كبيرة واقعة تحت الأرض، فتملك الرعب الشديد من توم.
سألت بيكي في أمل: «هل يمكنك أن تعثر على المخرج؟»
أجاب توم في حذر: «أظن أنه في استطاعتي العثور عليه. وقد لاحظ أن الخفافيش قد أخمدت شمعة بيكي»، فقال: «لكن إذا أطفأت الخفافيش كلتا الشمعتين فسنصبح في ورطة كبيرة، لنجرب مخرجًا آخر حتى لا نضطر إلى خوض غمار هذا الطريق مرة أخرى.»
وبدآ السير في ممر آخر، وقد التزما الصمت لفترة طويلة، وأخذا يحدقان في كل فتحة جديدة يمران بها بحثًا عن أي أمارات قد تبدو مألوفة لديهما. وفي كل مرة كان يستطلع فيها توم أحد الممرات كان يزداد إحباطًا أكثر فأكثر.
صرخت بيكي مذعورةً، وهي تتشبث بذراع توم بعد أن سارا لبعض الوقت: «لقد ضاعت كل المعالم!» ثم أخذت تتوسل إليه قائلة: «لا تخف من الخفافيش يا توم، دعنا نعود من هذا الطريق!»
وافق توم على كلامها، بيد أنه لم يعد الآن قادرًا على العثور على طريق الخفافيش الذي جاءا منه؛ فكل منعطف انعطفا فيه كان المنعطف الخطأ. وأخذ القلق يستبد ببيكي أكثر فأكثر إلى أن انفجر توم أخيرًا، وقال: «لقد كنت أحمق يا بيكي لأنني لم أضع أي علامات ونحن نهرب من الخفافيش، والآن لا يمكنني العثور على طريق العودة.»
خارت قوة بيكي وسقطت على الأرض وراحت في نوبة من الصراخ الهيستيري ارتعدت لها فرائص توم. ثم أخذا يبحثان حولهما قليلًا ويتتبعان صوت سيل قطرات المياه المتجهة نحو جدول المياه، وفي النهاية سقط الطفلان من شدة التعب وفرط الرعب، وغلبهما النعاس بمرور الوقت.
وبعدما استيقظا من نومهما، اقترحت بيكي أن يواصلا التحرك مرة أخرى.
وساد صمت طويل قبل أن يتكلم توم: «لا بد من أن أخبرك بشيء ما يا بيكي؛ إننا يجب أن نمكث هنا حيث يوجد ماء للشرب، علاوة على أن هذه هي آخر قطعة من الشمع لدينا!»
أجهشت بيكي مرة أخرى بالبكاء، وفعل توم كل ما في وسعه لكي يريحها.
قال توم: «لسوف يفتقدوننا، وسيأتون للبحث عنا، سيفعلون ذلك بلا ريب.» لكن السؤال الوحيد الذي كان يشغل توم هو: كم سيستغرق هذا الأمر؟ وفيما أخذت بيكي تبكي، رأى توم الشمعة تذوب بالتدريج، وسرعان ما لم يتبق منها سوى الفتيلة، فأخذا يشاهدان اللهب المرتعش يعلو ويهبط مرارًا إلى أن انطفأ تمامًأ، وبعدها ساد رعب الظلام الدامس!
ومرت الساعات ببطء وراح الصغيران في النوم واستيقظا مرة أخرى. وسرعان ما بدآ يشعران بالجوع الشديد، وبدأ توم يتساءل: ترى ما المدة التي بمقدورهما أن يعيشاها بدون طعام، فقطعت بيكي حبل أفكاره: «أنصت! هل سمعت هذا؟»
حبس الصغيران أنفاسهما وأنصتا، فسمعا صوتًا أشبه بصوت صراخ واهٍ للغاية آتٍ من بُعد كبير. وعلى الفور ردّ توم على الصوت وأمسك بيد بيكي وأخذ يتخبط في الظلام متلمسًا طريقه في الممر تجاه الصوت. وسمعا الصوت مرة أخرى، ولكنه كان أقرب هذه المرة على ما يبدو.
صرخ توم: «إنهم قادمون! هيا يا بيكي؛ نحن بخير الآن!»
اقتفى توم أثر الصوت ببطء إلى أن وصلا إلى سردابين صغيرين جانبيين يؤديان إلى أسفل، فأخرج حبل طائرة ورقية من جيبه وربطه في إحدى الصخور، ثم ترك بيكي هناك وبدأ في النزول إلى أحد السردابين.
بعد أن نزل توم عشرين درجة من السلالم بدا له أن السرداب قد انتهى، وانحنى توم على ركبتيه وأخذ يتحسس الرقعة المحيطة بالصخرة الضخمة قدر ما طالت يداه، وفي تلك اللحظة، ظهرت من وراء صخرة تبعد مسافة لا تتجاوز العشرين ياردة يد بشرية تحمل شمعة! تهلل توم بشدة، وعلى الفور تبع هذه اليد جسد صاحبها، إنجون جو!
شُل توم عن الحركة، لكن من حسن حظه أن إنجون جو هو من استدار وولى الأدبار متواريًا بعيدًا عن الأنظار. وقد أيقظ رعب توم كل عضلة في جسده، وشجع نفسه بأنه لو استجمع قواه، وتمكن من الرجوع إلى جدول المياه، فإنه سوف يمكث هناك، وما من شيء سيدفعه إلى المجازفة والالتقاء بإنجون جو مجددًا.
لكن تبين أن الجوع والبرد أقوى من مخاوف توم، خاصة بعد ليلة طويلة أخرى أمضاها بجانب جدول المياه؛ وقد شعر عندئذ بالرغبة في المجازفة والالتقاء بإنجون جو والتصدي لكل المخاوف الأخرى. لكن بيكي كانت ضعيفة للغاية ولم تستطع الذهاب معه، فقبلها في جبينها وأظهر لها أنه واثق من أنه سوف يعثر على مخرج من الكهف ثم أخذ حبل الطائرة الورقية في يده، ومرة أخرى أخذ يتلمس طريقه ونزل عبر أحد السردابين، وهو يشعر بالجوع والإعياء، وتسيطر على ذهنه فكرة الهلاك المحقق.