التباهي في مدرسة الأحد
كان توم لا يزال في حالة مزاجية جيدة على الإفطار في صباح اليوم التالي. فبعد أن امتلأت معدته بكم وافر من كعك العمة بولي اللذيذ، كانت فكرة الانتصار الذي حققه على بين روجرز بالأمس لا تزال تسيطر على ذهنه. وفجأة تذكر توم أن اليوم هو يوم الأحد، ويوم الأحد يعني أكثر من مجرد فطور شهي. وعندما أخرجت العمة بولي إنجيلها الذهبي الأوراق وأعلنت أنه حان وقت التفاف العائلة من أجل العبادة، تأوه توم تأوهًا مليئًا بالاكتئاب.
وبعد مرور نصف ساعة من العذاب المضني، استأذن الصبي كي يحفظ آيات مدرسة الأحد.
قال أخوه سيد: «لقد حفظت آياتي الليلة الماضية.» ثم أسرع سيد وعلى وجهه ابتسامة عريضة إلى خارج الباب الأمامي ليلعب ويلهو.
صاحت العمة بولي: «كفاك تضييعًا للوقت يا توم! فسوف تحضر ابنة عمك ماري في أي لحظة.»
سار توم بخطى متثاقلة إلى غرفته ونفخ التراب عن إنجيله الصغير. لقد كان عليه أن يحفظ خمس آيات من الإنجيل، فاختار توم «الموعظة على الجبل» لأنها تحتوى على أقصر خمس آيات يمكن حفظها. وبعد مرور ساعة وهو منكفئ الوجه على الكتاب المقدس، أفاق توم على صوت ماري ابنة عمه.
قالت ماري وعيناها تتراقصان ابتهاجًا، وهي تأخذ الكتاب من ابن عمها: «أراك تكد في الحفظ. فأسمعني ما حفظتَ.»
حشد توم كل طاقاته كي يتذكر ما لم يقرأه.
– «طوبى لـ … لـ …»
لقنته ماري: «للمساكين.»
أجابها: «أجل المساكين. طوبى للمساكين ﺑ … بـ»
قالت ماري: «بالروح.» وهكذا سار الأمر على هذا المنوال؛ توم يتلجلج في الآيات وماري تذكِّره بلطف. وبعد مرور ساعة بطيئة وشاقة، أعلنت ماري أنه قد حان الوقت لأن يرتدي توم ملابسه للذهاب إلى مدرسة الأحد.
تأوه توم مرة أخرى، وكان تأوهه هذه المرة أشد من سابقتها؛ وإذ كانت ماري تساعده في ارتداء سترة يوم الأحد، أخذت تزرر له قميصه من أعلى وتربط له رابطة العنق بإحكام؛ فعبس وجه توم جدًّا إذ كان يشعر بضيق شديد كما بدا عليه؛ فلقد أخذت ماري تصفف له شعره، ثم وضعت على رأسه قبعة منقطة مصنوعة من القش. دمدم توم بغضب في وجه سيد الذي جاء من بعد اللعب بالخارج ضاحكًا من مظهره. فلم يكن توم يكره شيئًا في حياته أكثر من كرهه مدرسة الأحد.
وعلى النقيض، كانت ماري تعشق الذهاب إلى مدرسة الأحد، بل ولقد حازت على بعض الجوائز هناك أيضًا. فقد كان كل من يستطيع أن يتلو آيتين من الإنجيل عن ظهر قلب يحصل على بطاقة زرقاء من معلم مدرسة الأحد، الطويل القامة، النحيل الجسم، الأشقر الشعر، ذي الصوت المجلجل الأجش، الذي يدعى والترز. وكانت كل عشْر بطاقات زرقاء تساوي بطاقة حمراء، وكل عشر بطاقات حمراء تساوي بطاقة صفراء. وعندما تحوز على عشر بطاقات صفراء ستكون عندئذ الفائز المتشرف بنسخة من الكتاب المقدس، مجلدة تجليدًا بسيطًا. بيد أن حفظ ألفي آية من الكتاب المقدس كان ثمنًا غاليًا للغاية ولا يقدر توم على أن يدفعه مقابل مثل هذه الجائزة. لكن ماري حازت على نسختين من الكتاب المقدس، كما أثبت غلام ألماني الأصل جدارته بأربعة أو خمسة كتب مقدسة! وبرغم أن هذه الجائزة لم تكن ذات فائدة بالنسبة لتوم، فإنه كان يتطلع إلى المجد الذي يصاحب الحصول عليها. فعلى كل حال، الحصول على الأناجيل أمر نادر الحدوث ولافت للانتباه.
سطعت الشمس سطوعًا شديدًا في هذا اليوم عندما كان توم يسير خلف ماري وسيد على الطريق المليء بالأتربة إلى مدرسة الأحد. وعند باب الكنيسة رأى توم بيلي، أحد أصدقائه الآخرين، الذين كانوا يُجبرون مثله على ارتداء سترة يوم الأحد البهية. وفجأة خطرت فكرة ببال توم.
قال توم: «بيلي، هل حصلتَ على بطاقة صفراء؟»
أجاب بيلي: «أجل.»
– «ماذا تأخذ في مقابلها؟»
– «ماذا لديك؟»
– «قطعة من الحلوى وخطاف سنارة.»
– «دعني أراهما.»
جرى فحص البضائع وتمت الصفقة. وكان بحوزة توم كومة من مثل هذا الكنز في جيوبه ولم يمض وقت طويل حتى كان قد قايضها كلها ببطاقات صفراء وحمراء بل وزرقاء أيضًا. وعندما دق ناقوس الكنيسة أخيرًا، كان جيب توم محشوًّا بالبطاقات.
وكان فصل مدرسة الأحد، المسئول عنه المعلم والترز، يعج بزمرة من الأطفال المشاغبين الذين لا يهدءون ولا يكلُّون ويثيرون جلبة شديدة، وكان توم أسوأهم جميعًا؛ فقد حرص على أن يشد شعر أول غلام رآه، على الرغم من أن السيد والترز عنفه ووبخه على الفور، ولكن ما إن استدار السيد والترز حتى وخز توم الغلام الذي يجلس أمامه بدبوس.
صرخ الغلام من الألم: «آه! فصرخ السيد والترز في توم مرة أخرى.»
سكن توم وبقية الأطفال أخيرًا، فأنصت السيد والترز في طول أناة إلى الأطفال وهم يتلجلجون في تلاوة ما حفظوه من آياتهم الكتابية. وبعد أن انتهى الجميع من تلاوة الآيات، تحدث السيد والترز فقال: «والآن يا صغار، أريدكم جميعًا أن تجلسوا في اعتدال ولطف قدر استطاعتكم وأن تعيروني انتباهكم!»
وكان توم كلما حاول أن ينصت لما يقوله المعلم عن عائلة ما جديدة جاءت لتقطن في المدينة، ثقلت عيناه وشعر بالنعاس. وعندما استطاع أخيرًا أن يفتح عينيه، رأى الجميع يحدقون وراءهم في رجل بدين في منتصف العمر ذي شعر داكن ويرتدي نظارة ومعه سيدة وقور أنيقة الملابس. وعلى الرغم من منظرهما المهيب، فلم يجذب نظر توم سوى ابنتهما الصغيرة.
كانت الفتاة جميلة ذات عينين زرقاوين وشعر أشقر مضفر في ضفيرتين طويلتين. وما إن وقعت عينا توم على وجهها حتى أخذ يشاغب مرة أخرى ويشد شعر رفقائه ويغير من تعبيرات وجهه — باختصار، حاول أن يفعل كل ما في وسعه كي يلفت نظرها.
وبعد أن أسكت السيد ولترز التلاميذ في الفصل مرة أخرى، عرّف الضيوف وأجلسهم في مقدمة الفصل. واتضح أن الرجل البدين هو القاضي ثاتشر، أكبر قاضٍ في المقاطعة، واسم ابنته هو بيكي. وبدأ بقية الأطفال يحاولون لفت الانتباه أيضًا بسبب توم إلى حد ما. وأخذ السيد والترز يعطي أوامره بصوت مرتفع ويُولي اهتمامه بالأطفال الذين يتعثرون في قراءتهم، ويشير بإصبعه لأولئك الذين يسيئون التصرف. تشاجر التلاميذ وتعاركوا وأخذ البعض يكورون الورق ويلقونه في الهواء. وفي تلك الأثناء، ارتسمت على وجه القاضي ثاتشر العظيم ابتسامة مهيبة بينما كان يشرف على الفصل الذي يعج بالضوضاء.
أما بالنسبة للسيد والترز، فقد كان يرجو شيئًا واحدًا، وهو أن يسلم إحدى جوائز حفظ الآيات الكتابية ويقدِّم واحدًا من أفضل تلاميذه إلى القاضي ثاتشر. لذا، أخذ والترز يتفقد مع كل تلاميذه المتميزين البطاقات التي بحوزتهم، فلم يجد بحوزة أحدٍ منهم أكثر من مجرد بضعة بطاقات صفراء، وأوشك السيد والترز أن يفقد الأمل عندما تقدم توم سوير — دون سائر التلاميذ! — حاملًا بيده تسع بطاقات صفراء وتسع بطاقات حمراء وعشر بطاقات زرقاء. وهنا شحب وجه المعلم والترز إذ لم يكن يتوقع أن يرى بحوزة توم، ولا حتى بعد عشر سنوات أخرى على الأقل، أيًّا من هذه البطاقات. فأخذ يهز رأسه في استنكار وهو يعد البطاقات مرة بعد مرة في حين ظل توم يبتسم ابتسامة عريضة.
وهكذا أصبح توم سوير موضع حسد كل من بالفصل؛ فأخذ بقية التلاميذ ينظرون إليه في حقد مرير، ولا سيما أولئك الذين أدركوا بعد فوات الأوان ما الذي فعلوه عندما قايضوا معه البطاقات. ولم يستطع توم أن يمتنع عن التمتع بمجد تلك اللحظة عندما صافحه السيد والترز بحرارة.
نظرت بيكي ثاتشر إلى توم بشيء من الاهتمام، لكن توم لم يجرؤ على النظر تجاهها؛ فهو لا يستطيع أن يتحمل ذلك. وعندما قُدِّم إلى القاضي ثاتشر، اضطرب بشدة حتى إن لسانه انعقد وأخذ قلبه يخفق بشدة. فوضع القاضي يده على رأس توم وأخذ يمسح على شعره برفق وسأله عن اسمه.
– «تـ … توم. توماس.»
حثه السيد والترز قائلًا: «أخبر سيادته باسم العائلة.» ثم بدا السيد والترز نفسه مرتبكًا بعض الشيء وقال: «والتزم بحسن السلوك.»
أجاب توم: «توماس سوير يا سيدي.»
قال القاضي في إعجاب: «عظيم! هذا ولد صالح. حفظتَ ألفي آية، يا للهول! يا له من رقم هائل! إن المعرفة هي التي تصنع العظماء والصالحين. ستصير رجلًا عظيمًا يا توماس، ويومًا ما ستقول: يرجع الفضل في كل هذا إلى المزايا التي منحتْني إياها مدرسة الأحد المفيدة إبان طفولتي. وستسعد لأنك أمضيت وقتك في تعلم الألفي آية تلك ولن تندم قط على هذا.» ثم ضم الرجل العظيم يديه معًا في حماس، وقال: «والآن، بالطبع لن تمانع في أن تشاركنا بعضًا مما لديك من معرفة، أليس كذلك؟ بلا ريب تعرف أسماء التلاميذ الاثني عشر للمسيح، هل تمانع في أن تخبرنا باسم اثنين منهم؟»
أخذ السيد والترز يعدّل ياقة قميصه وبدأ يتصبب عرقًا وهو يحملق في توم الذي كان صامتًا مرتبكًا. وسأل السيد والترز نفسه: «هل هذا معقول؟ هل يُعقل ألا يستطيع هذا الصبي أن يجيب عن أبسط الأسئلة؟!»
كان توم المسكين يتجاذب عروة قميصه في الوقت الذي كان يتصارع فيه ذهنه بضراوة في محاولة يائسة لاسترجاع الأسماء الصحيحة بأي طريقة ممكنة.
قال السيد والترز آملًا: «أجب سيادته، لا تخف!»
استحث القاضي توم، وقد علا وجهه شيء من العبوس هذه المرة: «هيا يا توماس، ما اسم أول تلميذين؟»
أجاب توم: «داود وجليات!»
وعندئذٍ ركض توم خارجًا من الفصل بينما انفجر بقية رفقائه ضاحكين.