توم يلتقي بيكي
لطالما كان صباح يوم الاثنين باعثًا على الاكتئاب في نفس توم. فبحلول صباح الاثنين يبدأ أسبوع آخر من المعاناة في المدرسة يمر عليه كما لو كان دهرًا. جلس توم في فراشه، في الصباح الباكر، يفكر في شرور المدرسة وكيف يمكنه أن يتخلص منها! وتحسس رأسه، وتمنى أن لو كانت ساخنة، لكنها لم تكن كذلك للأسف، ثم تفقد جسده متمنيًا أن يكتشف أعراضًا لأي مرض مزعج، لكن ما من عرَض. وما إن أدرك أنه يتمتع بوافر الصحة حتى شعر بالإحباط أكثر من ذي قبل.
وبعد قليل كان توم في طريقه إلى المدرسة، وكالمعتاد كان محبطًا، ثم التقى هاكلبيري فين.
وكان هاك فين، ابن أحد رجال البلدة المثيرين للمتاعب، تَكرهه وتخافه كل أمهات القرية، ولكن أطفالهن كانوا يحبونه ويحسدونه؛ إذ كان يروح ويجيء بملء حريته ولم يُجبر قط على الذهاب إلى الكنيسة ولا المدرسة. كما كان بمقدوره أن يذهب لصيد السمك أو السباحة وقتما شاء، بل وكان يسهر إلى وقت متأخر من الليل كما يحلو له. وكان هاك شتّامًا، ومن ثم كان توم سوير، شأنه في ذلك شأن سائر الصبْية، ممنوعًا عن اللعب معه. لذا لم يكن من المستغرب أن يلعب توم مع هاك فين كلما سنحت الفرصة.
– «مرحبًا يا هاك!»
– «مرحبًا بك يا توم.»
– «تُرى ما الذي بداخل هذه الحقيبة؟»
– «عقار طبي.»
– «يا إلهي! إن رائحته كريهة؛ فما هي مكوناته؟»
– «شوارب سمك القرموط، وورق نبات البرسيم رباعي الوريقات، وبيض بوم، وأشياء أخرى.»
– «وما هي هذه الأشياء الأخرى؟»
– «هذا ليس من شأنك.»
– «وفيم تستخدم هذه الأشياء يا هاك؟»
– «فيم تستخدم؟ إنها تعالج الثآليل إذا استخدمتها على نحو صحيح!»
– «وكيف تستخدمها لعلاج الثآليل؟»
– «حسنًا، هذا أمر غاية في البساطة. خذ الدواء واذهب إلى المدافن في منتصف الليل. فهذا موعد حضور الأرواح الشريرة، وربما تحضر روحان أو ثلاث، وهم يأتون عادة كي يأخذوا روح أحد الموتى الأشرار. وعندما يأخذون روح هذا الشرير، تقوم أنت بإلقاء الحقيبة التي بداخلها الدواء وراءهم. وعندئذٍ تقول: الروح الشريرة تتبع الجثة، والدواء يتبع الروح الشريرة، والثآليل تتبع الدواء! لا مزيد من الثآليل!»
– «وهل جربت هذا من قبل؟»
– «لا.»
– «ومتى ستفعل هذا؟»
– «الليلة، أظن أن الأرواح الشريرة ستحضر الليلة لتأخذ روح العجوز هوس ويليامز.»
– «لكنهم دفنوه يوم السبت، ألم يأخذوا روحه في تلك الليلة؟!»
– «ما هذا الذي تقوله! كيف يجيئون في منتصف الليل؟ ومنتصف الليل يعني حلول يوم الأحد والأرواح الشريرة لا تجول كثيرًا في يوم الأحد؟! لا أظن ذلك.»
– «لم يخطر هذا ببالي قط!» ثم أخذ توم يتوسل إليه قائلًا: «دعني أذهب معك.»
رد هاك: «بالطبع.» ثم أخذ يحدق في توم واسترسل قائلًا: «هذا باعتبار أنك لست خائفًا.»
رد توم في عجلة: «لا، أنا لست خائفًا البتة!» ثم همس إلى هاك في هدوء: «وهل ستطلعني على بقية مكونات الدواء؟»
– «سأفعل إذا أثبتَّ لي أنك لا تخاف.»
– «أنا لا أخشى أي شيء يا هاك.»
– «سوف نتحقق من هذا.»
– «حسنًا، سترى.»
مضى الصبيَّان قُدمًا في حديثهما على هذا النحو بعض الوقت حتى تذكر توم أنه مضطر إلى أن يذهب إلى المدرسة. وقبل أن يرحل أخذ يذكِّر هاكلبيري فين مرة أخرى بألا ينسى أن يأتي ليصطحبه معه هذه الليلة.
عندما دخل توم الفصل أخيرًا، كان معلمه، السيد دوبينز، غافلًا ساهيًا في مقدمة الفصل؛ لذا جلس توم في مقعده متمنيًا ألا يلحظه أحد.
لكن للأسف لم يحدث هذا.
– «توماس سوير!»
وكان توم كلما سمع أحدًا ينطق اسمه كاملًا، أدرك أن ثمة مشكلة تحلق في الأجواء.
– «تعال هنا يا توماس! والآن يا سيد توماس، هل لك أن تفسر لنا سبب تأخرك مرة أخرى؟!»
كان توم يفكر في اختلاق أكذوبة محكمة التلفيق فريدة في نوعها وهو يسير نحو مقدمة الفصل ببطء شديد. وعندئذ وقعت عيناه على ذلك الشعر الأصفر الطويل المنسدل؛ فأدرك أن ابنة ثاتشر تجلس في جانب الفتيات وبجانبها أحد المقاعد الفارغة. وفي لمح البصر عرف ما الذي سيقوله.
قال توم بصوت مرتفع: «لقد توقفتُ كي أتحدث إلى هاكلبيري فين!»
عند ذلك اتجهت جميع الأنظار إلى توم سوير، وتساءل زملاؤه في الفصل: «هل فقد صوابه؟!»
قال السيد دوبينز وهو لا يصدق ما قد تناهى إلى مسامعه: «ماذا قلت؟»
أجابه توم ببطء كي يتمكن الجميع من سماعه بوضوح: «لقد توقفت كي أتحدث إلى هاكلبيري فين.»
– «توماس سوير، هذا أغرب اعتراف سمعته، اخلع معطفك يا فتى!»
أخرج دوبينز عصاه، فمدّ توم ذراعه في شجاعة كي ينال عقابه.
فدوَّى صوت بضع ضربات قوية في الهواء، وكان توم يأخذه الفزع مع كل ضربة منها إلى أن تعب المعلم أخيرًا، فأنزل عصاه.
قال المعلم في صرامة: «والآن يا سيد، اذهب واجلس مع الفتيات، وليكن هذا إنذارًا لك.»
جلس توم عند طرف المقعد المتاخم للفتاة ذات الضفائر الشقراء الطوال. وبعد قليل انتشرتِ الوكزات والغمزات والهمسات في كل أنحاء الفصل. وبينما جلس توم هادئًا على نحو مثالي واضعًا ذراعيه على المكتب الطويل المنخفض، تظاهر بأنه يمعن في قراءة كتابه. وبالرغم من أن وجهه بدا جامدًا خاليًا من التعبيرات، فقد كان قلبه يرقص فرحًا بداخله.
أخيرًا عاد التلاميذ للانشغال بمهامهم الدراسية، وعاد المعلم إلى غفلته، فاغتنم توم الفرصة، واسترق النظر إلى الفتاة الجميلة بجانبه، لكن بيكي تجهمت في وجهه قبل أن تدير رأسها بعيدًا. وعندما أعادت رأسها بحذر مرة أخرى، رأت خوخة طازجة على مكتبها، فأسرعت في إبعادها عنها. فأرجعها توم بلطف إلى مكانها، فدفعتها بعيدًا مرة أخرى، فأعادها توم مرة أخرى بلطف أيضًا. فتركتها في مكانها هذه المرة، في حين أخذ توم يكتب على ورقته: «من فضلك خذيها، لقد حصلت على كفايتي منه.» قرأت بيكي الرسالة، لكنها لم تقل شيئًا. وعندئذ أخذ توم يرسم شيئًا آخر على ورقته مخبئًا إياه بذراعه الأيسر، فتظاهرت بيكي بأنها لا تلاحظ ما يرسمه توم، لكن سرعان ما غلبها فضولها، فاجتهدت لكي ترى ما يفعله. لكن توم تظاهر بأنه لا يراها البتة، وأخيرًا همست بيكي: «دعني أراه.»
أظهر توم رسمه جزئيًا، فكان رسمًا لبيت بسيط تخرج منه سحابة مستديرة من الدخان الذي يتطاير من مدخنة.
قالت بيكي: «هذا رسم رائع. هل يمكنك أن ترسم رجلًا؟»
فرسم توم رجلًا يقف في الفناء الأمامي للمنزل. كان رجلًا ضخمًا بما يكفي لأن يقفز فوق المنزل دون عناء، لكن الفتاة لم تعلق على ذلك.
قالت بيكي: «رجل أنيق جدًّا. والآن هل يمكنك أن ترسم فتاة مثلي في هذا المشهد؟»
رسم توم فتاة ملفوفة القوام ومستديرة الرأس تمامًا كالقمر وذات ذراعين نحيفتين.
قالت بيكي: «شيء لطيف للغاية! أتمنى لو كنت أستطيع الرسم!»
همس توم: «الرسم سهل جدًّا، سأعلمك.»
– «حقًّا؟ متى؟»
– «في وقت الظهيرة، هل تذهبين إلى البيت لتناول الغداء؟»
– «سأمكث إذا أردتني أن أمكث يا توماس سوير.»
– «لا أسمع اسمي كاملًا هكذا إلا عندما تحدث مشكلة؛ لذلك يمكنك أن تناديني بتوم، اتفقنا؟»
– «نعم.»
ابتسم توم ثم انغمس في العمل مرة أخرى مخبئًا ورقته بيده وكتب شيئًا عليها وجعله محجوبًا عن النظر. فتوسلت بيكي إليه مرة أخرى أن يريها ما كتبه.
فتمتم توم: «آه، لا شيء.»
– «بل كتبتَ شيئًا ما.»
– «لن يروق لك أن تريه.»
– «لا، بل أحب أن أراه، من فضلك دعني أراه!»
– «هل أنت واثقة من ذلك؟»
– «نعم.»
قال توم في خجل شديد: «آه، لن يروق لك أن تريه.»
تبعت هذا الرد مشاجرة صغيرة، فقد وضعت بيكي يدها على ورقة توم وحاولت أن تشدها منه. فتظاهر توم بأنه يقاومها، لكنه تركها أخيرًا تسحب يده بعيدًا عند الورقة التي كان مكتوبًا عليها الكلمات التالية: «أحبك.»
قالت بيكي وهي تضربه بحدة على يده: «يا لوقاحتك!»
ومع ذلك، فقد أدرك توم من خلال وجهها أنها كانت سعيدة.
وعندئذ شعر توم على حين غرة بقبضة محكمة على أذنه، ولم يشعر بنفسه بعدها إلا والسيد دوبينز يرفعه عن مقعده ويجره عبر الحجرة قبل أن يطرحه بطريقة مهينة في مقعده المعتاد في قسم الأولاد، وهنا انفجر كل الفصل في نوبة شديدة من الضحك والقهقهة من هذا المشهد. ومع أن توم كان يشعر بوخز مؤلم في أذنه، فإن قلبه كان مملوءًا فرحًا.